طبيعة العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية (۲)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا في الجزء السابق من هذا المقال طبيعة العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية من حيث تآزرهما كوجهين لعملةِ واحدة، وعدم إمكانية فصلهما بعضهما عن بعض. وأشرنا إلى أن إثبات هذا التآزر ممكنًا من خلال مناقشة ثلاثة أبعاد على الأقل. البعد الأول؛ وهو البُعد الاختباري – وهو الأقل في الأهمية على مستوى الحجة – وقد انتهينا من عرضه في الجزء السابق من هذا المقال. البُعدان الثاني والثالث؛ وهما الأكاديمي والتاريخي، ونناقشهما في هذه الجزء من المقال.

ثانيًا: البعد الأكاديمي

البعد الأكاديمي – وهو أساسي لإثبات منطقية ضرورة تلازم علم اللاهوت والروحانية وعدم افتراقِهما – وأبدأه من مناقشة ماهية التخصُص في مجال ما. ولإيضاح هذه النقطة؛ أضع سؤالاً مختصرًا؛ كيف نُعرِفُ التخصُص في مجالٍ ما بشكلٍ أكاديمي؟ أو بكلمات أخرى؛ متى يمكننا – على المستوى الأكاديمي – أن نعطي شخصًا ما لقب “مُتخصص” أو “أخصائي” في أحد مجالات العلوم؟ الإجابة ببساطة: نعطي إنسانًا لقب مُتخصص في مجال ما عندما يتوافر في هذا الإنسان أمران: الأمر الأول إلمامه بأدبيات المجال مَوضِع التخصُص (العلم)، والأمر الثاني هو توفر عامل الخبرة العملية في هذا التخصص. مثال لذلك؛ نستأمن المهندس لأجل ترميم مبانٍ أثرية ذات قيمة كبيرة ونعتبره مُتخصصًا في هذا ونطمئن له، حينما يكون قد درس علم الهندسة وأيضًا اكتسب باعًا في الترميم ناتج عن خبرة عملية في هذا المجال. دراستُه للهندسةِ في حد ذاتها لا تكفي، مع أنها أساسية، غير أن خبرته هي التي تُكمل منظومة الثقة وتجعله في أعيينا “متخصصًا.” مثال آخر للتوضيح، نستأمن الطبيب لإجراء عمليات جراحية مهمة عندما يكون قد درس الطب وتخصص في الجراحة ومارسها عمليًا. أي أن المتخصص في مجال ما هو الشخص الذي درس قواعد المجال وأدبياته وأيضًا مارسه بشكلٍ عملي (اختبره). ينطبق هذا التعريف حتى على المجالات الأدبية، فالأديب (أي المُشتَغِل بالأدب) لا يُعطَى لقب أديب لمجرد دراسته للأدب، إنما يعطى هذا اللقب حينما ينتج أدبًا بشكلٍ إختباري، فيصبح أديبًا.

إنطلاقًا من هذا التعريف المنطقي، يمكننا أن نفهم بوضوح السبب وراء تلازم علم اللاهوت والروحانية. إن كان علم اللاهوت هو علم الكلام عن الله، فكيف يستقيم تَخصُص الإنسان في هذا العلم فقط بدراسته للأدبيات، وبدون “الممارسة” التي هي، في هذه الحالة، اختبار حضور هذا الإله موضوع الدراسة – التي هي الروحانية في أبسط معانيها! وليلاحظ القاريء الكريم، أنني هنا أتحدث من منظور أكاديمي لتعريف التخصُص وليس من منظور روحي للتشجيع. لكن بتطبيق التعريف المنطقي للتخصُص على علم اللاهوت يتضح أنه لا يمكن أن يستقيم التخصُص في علم اللاهوت بدون روحانية حقيقية يتم فيها اختبار حضور الله وممارسة ما نتعلمه من أدبيات علم اللاهوت بشكلٍ عملي. وهكذا نرى من منظورٍ منطقي وأكاديمي حتمية تلازم علم اللاهوت مع الروحانية الحقيقية. والآن ننتقل إلى البعد التاريخي لإثبات هذه الحتمية.

ثالثًا: البعد التاريخي

هل يشهد التاريخ على هذا التلازم وعلى هذا التآزر الأصيل الواجب بين علم اللاهوت والروحانية؟ الإجابة بلا تردد هي: نعم! فعلى مر السنين، تجلت خبرات أصيلة مزجت بين الروحانية والفكر اللاهوتي، فتلذذ أصحابها بإشراقة الفهم اللاهوتي الذي يصيغ الخبرة الروحية، وبالخبرة الروحية التي تشهد للفكر اللاهوتي، وتنادي وتشتاق للمزيد من عمل الروح القدس. على سبيل المثال لا الحصر، في الغرب، يفاجئنا التاريخ بأن تشارلس فني، رجل النهضات الناري الذي عاش في الفترة من ۱۷۹۲ حتى ۱۸۷٥، والذي دعاه المؤرخون “أبا النهضة الروحية الحديثة،” وقد قاد عددًا كبيرًا جدًا من النهضات الروحية القوية التي امتلأت بعمل الروح القدس في خلاص الخطاة وتكريس المؤمنين، وقد كتب الكثير من الكتابات الروحية العميقة وتُرجِم له في العربية بعضَها، ومنها الكتاب الشهير “النهضة الروحية” الذي ترجمته وتعيد طباعته دار نشر جمعية خلاص النفوس ضمن سلسلة الكتاب السنوي.

تشارلس فني

تشارلس فني هذا الذي عرفناه في مصر كرجل نهضات روحية مُشتعل، هو هو نفسه تشارلس فني الذي عمل كأستاذًا لعلم اللاهوت في كلية أوبيرليان (Oberlin College) في ولاية أوهايو لمدة تزيد عن ثلاثين عامًا، تخللها تعيينُه رئيسًا للكلية ذاتها من عام ۱۸٥۱ إلى ۱۸٦٦. وهو نفسه فني الذي كتب مقالات لاهوتية عميقة المحتوى جُمِعَت في مُجلد ضخم تحت عنوان “لاهوت فني النظامي”. تشارلس فني عاش رجل نهضات مُشتعل بحب الرب، يصلي كثيرًا، ويخدم كثيرًا، وفي نفس الوقت كان لاهوتيًا أكاديميًا ورئيسًا لكليةٍ عريقة. تشارلس فني نموذجًا حديثًا لتآزر علم اللاهوت والروحانية النهضوية التجديدية كما نبتغيها.

هل من نماذجٍ تاريخيةٍ أخرى؟ بالطبع، نعم! إذا عدنا بالتاريخ للقرن الرابع، نجد على سبيل المثال لا الحصر، غريغوريوس النزينزي، أو اللاهوتي، الذي عاش من عام ٣٣٠ إلى٣٩٠ ميلاديًا، والذي ألهمه الروح القدس لا ليكتب فقط في اللاهوت، مع أنه كتب وأبدع، ولكن أيضًا ليصيغ منهجية متفردة لبناء شخصية اللاهوتي ولصياغة اللاهوت، منهجية تقوم في مركزها – كما سأوضح في مقالٍ قادم – على الروحانية الأصيلة، وتتمركز حول عمل الروح القدس كأساس لبناء شخصية اللاهوتي وصياغة فكره. صاغ النزينزي في خطبه الخمس الشهيرة هذه المنهجية الرفيعة التي تضع الروحانية في مركز دراسة اللاهوت والحديث عنه، فاستحق عن جدارة لقب “اللاهوتي”.

غريغوريوس النزينزي
الراهب المصري متى المسكين

وعلى بُعدِ أكثر من خمسة عشر قرنًا من زمان النزينزي يلمعُ نجمٌ آخر في صحراء مصر، إنه المسكين. الراهب المصري متى المسكين (١٩١٩- ٢٠٠٦)، الذي عند انطلاقه عن عمر ناهز السابعة والثمانين، كان فكره اللاهوتي الذي تشكل بين جدران قلايته خير شاهد على امتزاج التفكُر في اللاهوت مع الروحانية العميقة في سبيكةٍ لا يمكن فصلها. كتب المسكين لاهوتًا واعيًا بمفردات علم اللاهوت والفلسفة، متصلاً اتصالاً واضحًا مع قرينة الدراسات الأكاديمية الأوسع، حتى النقدية منها، لكنه في نفس الوقت لاهوتًا إعلانيًا، ممتلئًا من فيض الحياة والنور الذي انسكب في أعماق المسكين في قلايته. فخرج فكر المسكين اللاهوتي خير تعبير عن مبدأ إيڤاجريوس البنطي (راهب القرن الرابع المصري المُتجَادَل عليه) – “إنّ اللاهوتي الحقيقي هو من يصلي!!”

هذه النماذج التاريخية وغيرها من الشرق والغرب، تقف شاهدة على هذا التآزر الأصيل بين دراسة اللاهوت كعلم والروحانية الأصيلة. تقف شاهدة على هذه الرحلة التي تجمع بين الفكر اللاهوتي والروحانية في امتزاجٍ يشهد للوحدة الأصيلة القائمة جوهريًا في الأصل بينهما. هذه النماذج هي نوافذ مفتوحة على علم اللاهوت الروحاني أو الروحانية المُعبِرة بوعي عن الفكر اللاهوتي.

والآن، وقد تتبعنا اختباريًا، وأكاديميًا/منطقيًا، وتاريخيًا، تآزر علم اللاهوت والروحانية وتلازمهما معًا تلازمًا لا يفترق، السؤال المتبقي لنا لنختتم به المقال الأول من هذه السلسلة، هو حول الطريق إلى تحقيق هذا التآزر بصورةٍ عمليةٍ في مجتمعاتنا. ما السبيل إلى إعادة اختبار التآزر القائم بين علم اللاهوت والروحانية وتحقيق المصالحة بينهما بشكلٍ عملي؟ نناقش إجابة هذا السؤال في الجزء الثالث من هذا المقال في العدد القادم بنعمة الله. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أغسطس ۲۰۱۹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.