المقدمة
القاريء العزيز، تناولنا في مقال سابق التعريف بجوهر حياة الكمال المسيحي عند وسلي ومقاريوس الكبير. ورأينا أن “الاتحاد بالمسيح” يُشكل جوهر حياة الكمال المسيحي، هذه الحياة التي تذهب من مجد إلى مجد، ومن قوة إلى قوة، وبإيمان لإيمان. فالثبات في حياة الكمال المسيحي بالنسبة لكل التقاليد المسيحية التي شهدت لهذه الحياة: هو بعينه الاستمرارية – من دون توقف – في حياة الاتحاد بالمسيح، والتقدم في مشابهته كيانيًا (To be)، وليس فقط سلوكيًا (To do)! فالتغير إلى تلك الصورة عينها – تصوُر المسيح فينا، بحسب غلاطية ٤: ١٩ “يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ” – هو تغير كياني في المقام الأول، وإن كان يشمل بعدًا سلوكيًا كشهادة لتحققه ومؤشر لأصالته! فالكاملين الذين يخاطبهم الرسول بولس في رسالة فيلبي قائلاً: “فَلْيَفْتَكِرْ هذَا جَمِيعُ الْكَامِلِينَ مِنَّا، وَإِنِ افْتَكَرْتُمْ شَيْئًا بِخِلاَفِهِ فَاللهُ سَيُعْلِنُ لَكُمْ هذَا أَيْضًا (في ٣: ١٥)”، هم أنفسهم منمَن يحيون حياة مستمرة من التغير الآني – في كل حين – لصورة المسيح، وهم دائمًا مَن يسعون في كل يوم من أيام حياتهم “نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ ((في ٣: ١٤)”. إذًا، فالسعي الديناميكي المستمر لأجل القصد والدعوة الإلهية – أن نصير مثله – هو أحد سمات حياة الكاملين، وهو ما يُعبر عنه أحيانًا باستخدام تعبير “الاجتهاد في الحياة الروحية”، وهو ما أود الحديث عنه في هذا المقال.
الاجتهاد الروحي كمفرد رئيس في حياة الاتحاد بالمسيح
بالنسبة للتقليدين الآبائي والوسلي، يُنظَر إلى الخلاص على أنه اتحاد بالله من خلال المسيح، أو اتحاد بحياة الله في المسيح. فمَن اتحد بالمسيح يخلص. وفي هذا أيضًا برهان لإلوهية المسيح، فإذا لم يكن المسيح هو الله الظاهر في الجسد، لصار اتحادنا به غير كافٍ لاشتراكنا في حياة الله، وبالتالي تعطل خلاصنا. لكن لأنه هو الله الكلمة المتجسد، الإله المتأنس؛ فإن اتحادنا به كافٍ لخلاصنا – ولجعلنا إلهيين – من خلال حياته؛ حياة الله، التي تسكن فينا، وتخلصنا، إذ “نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ” (رو ٥: ١٠). وبينما تجسُد الكلمة يوفر لنا الأساس الوجودي (Ontological) للاتحاد بالله، فالكلمة صار جسدًا ليجعلنا إلهيين (بحسب أثناسيوس الرسولي)؛ فإن موت المسيح – الكلمة المتجسد – يوفر الأساس القانوني (Forensic) لهذا الاتحاد، والروح القدس هو مٓن يدخل بنا إلى العمق الاختباري (Experiential) لهذا الاتحاد/الخلاص. والروح القدس هو مَن يحول ما أتمه المسيح لأجلنا في حياته وموته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين العظمة (Objective Salvation)، إلى حقيقة ذاتية (Subjective Salvation)، تخُتبر في حياتنا، بل وتُكوِن جوهر الكيان الجديد الذي يدعوه الكتاب الخليقة الجديدة.
وفي هذا الإطار، تتجلى مركزية النيوماتولوچي (التعليم عن الروح) في فهم – على المستوى اللاهوتي – واختبار – على المستوى الاختباري العملي – منظومتي السوتريولوچي والكريستولوجي (التعليم عن الخلاص، والتعليم عن المسيح). فمن دون الروح القدس، لن يصل لنا ما صنعه المسيح لأجلنا، فالمسيح أتم الكل وسكبه في الروح لأجلنا، وأرسل لنا الروح المنبثق من الآب فيه (في الابن- بحسب باسيليوس الكبير)، فصار خلاصنا قريب منا بحسب ما نقبل الكلمة المتجسد في حياتنا ونتحد به بروحه. وهذا بعينه ما يدخل بنا إلى عمق مفهوم النعمة والاجتهاد في الحياة الروحية؛ فبالنعمة الكل تمَّ! بالنعمة خلاصنا، وحريتنا، وشفاؤنا، بل وتجلي انسانيتنا، قد تمَّ وأكمل، وهو لنا عطية مجانية! إذًا، ماذا ينقصنا؟ لا شيء! إلا أن نستلم! والاستلام يحتاج يد مفتوحة، واليد المفتوحة هي “اجتهادنا”! وهنا يظهر الاجتهاد بمعناه الصحيح في التقليدين الآبائي والوسلي. فالاجتهاد هو سعي الإنسان المؤمن بفهم واتضاع لنوال ميراثه في المسيح، لاستلام ما أعده المسيح وأتمه لأجله. كما يقول الرسول بطرس: “َكمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ… وَلِهذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ…” (٢بط ١: ٣ – ٥). فالنعمة تشكل الأساس المُعطى لنا لكل ما هو للحياة والتقوى، والقصد من اجتهادنا دائمًا هو خلق مساحة في حياتنا لاستقبال النعمة التي تمكننا بقوتها من الحياة بالإمكانيات المعطاة لنا بالفعل في الخليقة الجديدة. والروح ينتظر اجتهادنا دائمًا ليزكيه، ويشعله، ويحفر من خلاله قنوات يفيض فيها بميراث الخلاص لحياتنا. وبنظرة متأنية لمفهوم الاجتهاد في الحياة الروحية – عند وسلي والآباء – يُرى الاجتهاد نفسه كنعمة! فإن “اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ” (في ٢: ١٣). فالاجتهاد نعمة لاستقبال نعمة، فإذا تجاوب الإنسان المؤمن مع شرارة النعمة المبكرة، التي هي حث الروح ودفعه لأجل الاجتهاد، يفتح الروح القدس بداخله (من خلال اجتهاد الإنسان) قناة جديدة لانسكاب ترقية جديدة بالنعمة في اتحاده بالمسيح واستعلان المسيح فيها، ويجد الإنسان نفسه، وقد ترقى درجة جديدة في حياة الكمال المسيحي، والراحة الكاملة، التي هي الاتحاد بالمسيح. سأركز في الجزء الختامي من هذا المقال على ثلاث قنوات رئيسة للاجتهاد.
قنوات الاجتهاد الرئيسة: الصلاة والغذاء بالكلمة والتقدم لمائدة الرب
رأى الكثير من الآباء أوقات الصلاة كأوقات صعود الجبل المقدس، إذ يتحقق للمؤمن كيانيًا أثناء الصلاة بالروح صعوده مع المسيح، ويستعلن جلوسه في السماويات، ليتشبع بالسماء، فيصير المؤمن نفسه قناة لتحقيق مشيئة الرب كما في السماء كذلك على الأرض. فالصلاة هي القناة الأساسية لاختبار الاتحاد بالمسيح كيانيًا. كما تجلى المسيح على جبل التجلي، يتجلى الإنسان باستعلان الابن فيه أثناء الصلاة، ويظل هذا الاستعلان والتجلي قائمًا ومستمرًا بمقدار استمرارية طاعة الإنسان لجذب الروح لأوقات الصلاة مرات ومرات لاختبار الاتحاد مع المسيح. الاجتهاد في الصلاة، باستمرار الاستجابة لهمس الروح القدس، الذي يعمل من خلال الجذب الإلهي، لإشعال الاجتهاد في الصلاة، يضع الإنسان في دائرة الإعلان الإلهي، حتى بعد انقضاء وقت الصلاة، إذ يصير الإنسان صلاة. “أَمَّا أَنَا فَصَلاَةٌ” (مز ١٠٩: ٤). الصلاة هي الواسطة الرئيسة التي من خلالها يتذوق الإنسان الاتحاد بالمسيح، وفيها يستعلن كونه شريك الطبيعة الإلهية، ويتيقن من صيرورته إلهيًا بنعمة المسيح بالروح القدس، وهذا هو أيضًا الطريق لصيرورة الإنسان لاهوتيًا (أي متكلمًا بأمور اللاهوت). وفي هذا يقول إيفاجريوس من القرن الرابع (٣٤٦ – ٣٩٩): “اللاهوتي الحقيقي هو مَن يصلي. إذا كنت لاهوتيًا حقيقيًا، إذًا فأنت تصلي، وإذا كنت بالحق تصلي، إذا فأنت لاهوتي حقيقي.” بالنسبة لوسلي، فإن الصلاة المستمرة بلا انقطاع هي الواسطة الأولى التي نتذوق من خلالها النعمة لأجل النمو في كل فضيلة أخرى.
بجانب الصلاة، يظهر تفتيش كلمة الله والغذاء المستمر عليها، كمرافق دائم للصلاة. والحديث هنا ليس عن قراءة الكلمة فقط، لكن عن الاقتراب من الكلمة لتفتيشها (دراستها بعمق)، وتذوق ينابيع مياهها الحلوة، واكتشاف كنوزها ومكنوناتها. يرى وسلي أنه بسبب أن الروح القدس هو صاحب الكتب المقدسة ومؤلفها الأساسي، فإنه – الروح القدس – يأتي ليصاحب قراءتها، وهو مَن يشاء إعطاء تفسيراتها لطالبي فهمها بقلوبهم. وهكذا، فإن الاقتراب من كلمة الله باتضاع وجوع حقيقي ورغبة قلبية عميقة في سماع صوت الروح القدس بالتفتيش في الكلمة، يضع الإنسان بشكل مباشر في مقابلة شركة مع الروح، الذي يأخذ مما للمسيح ويمجده، أي يعلنه، فيستعلن المسيح وتندفع النفس إلى الاتحاد به. وهكذا، قد يدفع الروح الإنسان للتأمل في آية أو نص كتابي، وذلك لدفعه دفعًا لمقابلة المسيح والاتحاد معه! الكلمة هي فلك قوة إلهية رئيس، يدفع الروح القدس الإنسان فيه، ليؤخذ في دائرة جذب إلهي أعلى، يترقى من خلالها لدرجة أعلى من الاتحاد بالمسيح وتذوق راحته.
جنبًا إلى جنبٍ مع الاجتهاد في الصلاة والغذاء على كلمة الله، يظهر الاجتهاد في المواظبة على التقدم للعشاء الرباني – عند وسلي – كقناة رئيسة لاستقبال النعمة والاتحاد مع المسيح. ينصح وسلي بالتقدم لمائدة الرب مرة على الأقل في الأسبوع. وكثيرًا ما يشير إلى تفضيله للمواظبة علي العشاء الرباني بمعدل أعلى من هذا، يصل إلى التقدم يوميًا لمائدة الرب في بعض المواسم الروحية أثناء العام. في التقدم لمائدة الرب اتحاد حقيقي بالمسيح. “مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي” (يو٦: ٥٦، ٥٧). إذ نأكل جسد الكلمة المتجسد ونشرب دمه، تنساب حياته فينا بالروح القدس، ويتعمق اتحادنا به، ويستعلن كوننا “أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ” (أف ٥: ٣٠). وتسري فينا عصارة الكرمة، عصارته، بحسب إعلانه: “أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ” (يو ١٥: ٥)، بروحه المنسكب في كنيسته “الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ” (أف ١: ٢٣). دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، مارس ٢٠٢٣