كواكب مضيئة في سماء علم اللاهوت والروحانية (١)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، اسمح لي أن يكون حديثي معك في هذا المقال مختلفًا بعض الشيء عن حديثنا المألوف، والذي – عادةً – لا يخلو كل شهرٍ من أطروحات لاهوتية وسجالات فكرية. فأثناء مراجعتي لما كُتِب من مقالاتٍ ضمن سلسلة “مصالحة علم اللاهوت والروحانية”، وجدت أن حلقات هذه السلسلة من المقالات الشهرية قد بلغ عددها ثلاث عشرة قبل هذا المقال– أي تجازوت عامها الأول بشهرٍ – مما يستحق الاحتفال! لذا، فكرت أن نحتفل معًا في هذا المقال بجزئيه – في هذا العدد والعدد القادم – من خلال عرضٍ مُبسّطٍ لنماذج من شخصياتٍ معاصرةٍ جسّدت مصالحة علم اللاهوت والروحانية، وما أن جاءتني هذه الفكرة، حتى لمع بداخلي اثنان من الكواكب اللذان يضيئا في سماء المصالحة؛ واحدٌ من الشرق والآخر من الغرب.

الراهب المصري متى المسكين
البروفيسور فينسون سينان

الأول، وهو غنيٌ عن التعريف في بلادنا، هو الراهب المصري متى المسكين (١٩١٩- ٢٠٠٦) الذي عند انطلاقه عن عمرٍ ناهزَ السابعة والثمانين كان قد ترك للكنيسة ذخيرة من الكتابات التي تُمثل أحد تيارات الفكر المسيحي الأساسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والآخر، والذي أود أن أُعرف القاريء العربي به، هو البروفيسور فينسون سينان (١٩٣٤- ٢٠٢٠)، أستاذ اللاهوت التاريخي والمؤرخ المعروف كأحد مؤسسي تأريخ النهضات الروحية حول العالم. الكوكب الأول: المسكين، تعرفت عليه – مثل ملايين – من خلال كتاباته، التي بلغت أكثر من مائة وثمانين كتاباً ومقالاً منشورًا؛ والتي شكلت ولاتزال تشكل وعيَ أجيالٍ وأجيالٍ، بينما الثاني: سينان، عرفته أستاذًا وجلستُ أستمعُ ساعاتٍ وساعاتٍ لمحاضراته الأكاديمية أثناء سنوات دراستي لنوال درجة الدكتوراة في جامعة ريجينت بفيرجينيا. في هذا المقال، سأتناول عرضًا مختصرًا – في سياقٍ احتفاليٍ – لما أظنه نقاطًا أساسية صاغت خبرة كل من “المسكين” و”سينان” لتشكيل سبيكة التآزر بين علم اللاهوت والروحانية في حياةِ كلٍ منهما. بالتأكيد، ما سأعرضه في هذا المقال بجزئيه لا يتعدى نقطةً في محيطٍ في سياق الحديث عن بطلين من أبطال مصالحة علم اللاهوت والروحانية! 

المسكين: تلاقي التذوق والرؤيا العقلية مع التفكُر اللاهوتي والإبداع الأدبي

يكتب المسكين في مذكراته التي نُشرت كملحق لمجلة مرقس بعد تنيحه عام ٢٠٠٦: “… عشت مع شخصيات الكتاب المقدس معيشة العشرة الروحية… عشت مع آدم… ومع إبراهيم عشت طويلاً طويلاً… ثم مع كل شخصية… وفي تأملي مع العذراء مريم… انفتحت بصيرتي فجأة، ومنذ ذلك الحين (عام ١٩٤٩) وابتدأ التأمل يخالطه نوع من الرؤيا العقلية… ازداد تعمقي جدًا وادركت علاقة الله بالكون، وأحسست بالأبدية – اللازمن – واستنشقت روح الله، وذقت السرور المفرط، وفهمت معنى أن الله واحد، وأنه بسيط، وأنه كلي القدرة وكلي الوجود، وأنه واجب الوجود بذاته، كل هذه المعتبرة أنها عوائص اللاهوت، عشتها وأحسستها ووثقت منها أكثر من وثوقي بذاتي وبهذه الدنيا… كل ومضة جديدة من المعرفة كانت تشعل روحي وتلهب كل ملكاتي… خوفي من الامتداد أكثر في الدخول في أسرار الله كان هو بذاته المؤشر الصحيح الذي كان يصرح بالدخول… هذه هي إحدى متناقضات Paradox السعي في معرفة الحق وهي تختلف جذريًا عن أصول المعرفة الزمانية في أمور العالم المادي.” (انتهى الاقتباس)

“رحلة تذوق ومعاينة” – هكذا تصف هذه الكلمات خبرة المسكين بلا رتوش! يصرخ المسكين، في إحدى عظاته لتلاميذه الرهبان، صرخة أنطونيوس من القرن الرابع: “الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا، اقبلوه أنتم أيضًا… اطلبوا بكل قلبكم هذا الروح الناري القدوس وحينئذ يُعطى لكم”، ليدفع المسكين تلاميذه في نفس الرحلة – رحلة التذوق والمعاينة – إذ يظهر كلٌ من “التذوق” – ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ / مز ٣٤: ٨ – و”المعاينة” – طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ / مت ٥: ٨ كمكونين رئيسيين في سبيكة فكر المسكين اللاهوتي. والحقيقة، فإن مركزية التذوق والمعاينة في روحانية المسكين كراهبٍ قد لا تلفت الانتباه في السياق العام لدراسة التقاليد الرهبانية؛ إذ أن الراهب يعطى حياته بالكامل لأجل أن يتذوق وأن يعاين، وتقاليد آباء الصحراء تعكس مركزية هذه الخبرات في الحياة الرهبانية بشكل عام. ولكن، ما يلفت الانتباه، ويجعل من المسكين نموذجًا فريدًا؛ هو قدرة المسكين، بمعونة الروح القدس، على بلورة ثمار هذه الخبرات في إنتاج فكري لاهوتي فتح الباب أمام أجيال من الرهبان والعلمانيين للشركة في هذه الخبرات وتذوقها. وما يلفت الانتباه أيضًا، وبشدةٍ؛ هو أن عملية تحويل الخبرة السرائرية عند المسكين إلى فكرٍ لاهوتي مُصاغ في أدبيات مكتوبة لم تتم في معزل عن الدراسات الأكاديمية المعاصرة للمسكين، فاكتظت كتب المسكين التفسيرية بسجالاته مع الدراسات الأكاديمية، وحتى النقدية منها! دخل المسكين في حوارات على صفحات كُتُبِه مع دراسات فحص المخطوطات وآراء علماء العهدين – القديم والجديد – المحافظين وغيرهم من دون توجسٍ وريبةٍ من السياق الأكاديمي. وهكذا، ظهرت ثمار التذوق والمعاينة والروحانية الأصيلة عند المسكين، بما اتسمت به من اتساق وصلابة وصدق، كثمار صالحة ومُكتملة النضوج للوقوف في موقف المحاجاة وإثبات الأصول بالحجة!

أيضًا في كتاباته في التاريخ واالتقليد، لم يقف المسكين عند الوصف والتسجيل، لكنه قرأ بشكل تحليلي ناقد، وقارن مع آباء الكنيسة في الشرق والغرب، وأظهر مواطن القوة والضعف، والإضافات والنقص. يستطيع القاريء أن يسمع المسكين بوضوح وهو يصف ألفاظ غيرَ أصيلةٍ أُضيفت لبعض الأدبيات اللاهوتية، قائلاً بشجاعةٍ: “وهكذا يظهر خطأ الألفاظ التي اندسَّت حديثًا خلسة في كتبنا الطقسية، سواء في الأجبية أو التسبحة السنوية أو الكيهيكية، والتي تصور…” كذا وكذا… (كتاب العذراء القديسة مريم / صفحة ١٠٩/ طبعة ١٩٩٣).

وهكذا كانت روحانية المسكين مثمرة فكرًا لاهوتيًا جسورًا قادرًا على الإصلاح والمواجهة، وفي نفس الوقت، فكرًا مشبعًا بالإعلان والكشف الروحي، في سبيكة تآزرية صلبة ومُتسِقة، وسرعان ما يدرك القاريء الفطن أن صلابتها مستمدةٌ من روحانيةٍ أصيلةٍ، واتساقها مُستمدٌ من انفتاحها على السياق الأكاديمي الأوسع، ومحاجاة أساتذته منطقيًا، في محاجاةٍ يقف فيها المنطِق الإعلاني قادرًا على كشف مَوَاطن القوة والنقوص، وإجراء تحولات جذرية في السياق الفكري. فمثلاً، بثقةٍ شديدةٍ، وعبر عقود من الإنتاج اللاهوتي، نجح المسكين في تحويل الدفة عند قارئيه من المنهج المدرسي/ السكولاستيكي (Scholasticism) – والمنتشر في الأدبيات المُترجمة إلى العربية والمبنية في معظمها على لاهوت العصور الوسطي، والذي يعتمد في كثير منه على المنطق اللفظي والفلسفة العقلية لصياغة وشرح عوائص التراكيب اللاهوتية – إلى منهج كتابي/ روحي، سرائري/ إعلاني، يعكس وعيًا بمفردات علم اللاهوت والفلسفة، مُثبِتًا صلاحيته (صلاحية المنهج) للمحاورات الفلسفية وللدخول في سجالات فكرية راقية، ولعلَّ أبلغُ مثالٍ على هذا كان محاورة المسكين الفلسفية، والمنشورة في نفس ملحق مجلة مرقس المُشار إليه سابقًا، مع الأساتذة جابر عصفور ونصر أبو زيد وهدى وصفي – ثلاثة من كبار المفكرين المصريين. وهكذا، مثّل فكر المسكين بمفرداته الكتابية واللاهوتية والتأريخية والفلسفية – وبما قد يحمله أيضًا من نقائص الخزف – نموذجًا متفردًا أعطى لصاحبهِ – المسكين – لمعانًا خاصًا وسط كواكب مصالحة علم اللاهوت والروحانية. في الجزء القادم من هذا المقال، سنتقابل، بنعمة الرب، مع فينسون سينان، كوكب آخر وسط كواكب المصالحة، يأتي ضوءه من الغرب. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أغسطس ۲۰۲۰

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.