Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (٥) – الجزء الأول – علم الله الكلي والزمن الآني وحرية الإنسان

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، تحدثنا في مقالات سابقة من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – حول مفردات لاهوتية متنوعة من التقليد الوسلي؛ وذلك باعتباره – أي التقليد الوسلي – نموذجًا لمنظومةٍ لاهوتيةٍ متكاملةٍ تمت صياغتها من خلال وعي أصيل بتآزر علم اللاهوت والروحانية، ورغبة واضحة في إتمام المصالحة بينهما. وعبر أجزاءٍ متعددةٍ من هذه السلسلة – أعطيتُها عنوان “التقليد الوسلي” – تناولنا موضوعات تجلت فيها مصالحة اللاهوت كعلم مع الاختبار الروحاني الشخصي. وقد بات واضحًا، من خلال ما تمّ عرضه، حتى الآن، من مفردات التقليد الوسلي، كيف نجح منهج المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية في إعطاء إجابات لأسئلة لاهوتية ظلت إجاباتها مُبهمَة، خاصةً وسط تقاليد لم تلتفت للمصالحة المنشودة، لفترات طويلة من تاريخ الكنيسة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، رأينا كيف أن إدراك عقيدة النعمة البادئة، كما شرحها جون وسلي، ببُعديها الكتابي والاختباري، يُمَكِّنُنَا من الإقرار بصلاحية حرية الإرادة الإنسانية، في اتساقٍ غير معتاد، مع الاعتراف بمبدأ الفساد الكلي، وهي مُعضلة حيرت كثيرين. كما رأينا مركزية يقظة الحواس الروحية، كبُعد اختباري روحاني، في صياغة التراكيب اللاهوتية، ورأينا كيف شكّل هذا مفتاحًا لإيضاح حقيقة العلاقة بين المعرفة اللاهوتية ونظريات المعرفة الفلسفية، وذلك من خلال حوار وسلي مع فلسفة كلٍ من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، والفرنسي رينيه ديكارت، حول نظريات المعرفة.

وفي هذا المقال، استكمل معك، عزيزي القاريء، رحلتنا لاكتشاف أطروحات وسلية تعطي إجابات لسجالات لاهوتية مهمة في تاريخ الكنيسة. والسجال الذي أتناوله في هذا المقال، يبحث العلاقة بين علم الله المُطلَق/الكلي (Omniscience)، وواقعية حرية الإرادة الإنسانية (Reality of Human Free Will)، للإجابة عن أسئلة مهمة مثل: كيف تتسق حقيقة علم الله المُسبَق بكل شيء مع واقعية الحرية الإنسانية؟ أليس علم الله الكلي بالمستقبل يفرض على الأحداث ضرورة حدوثها، وبالتالي يُقيِد حرية إرادة الإنسان؟ والحقيقة، فإن الصعوبة الكامنة في الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها حول نفس الموضوع، أدت بالبعض، عبر تاريخ الإصلاح الغربي، إلى صياغة تراكيب غير صحيحة تؤكد على أن كُلِية علم الله بالأحداث المستقبلية تتأصل في كَون هذه الأحداث ناتجة عن قرارات إلهية أزلية تغطي كل ما يحدث من أحداث في الزمن، وأن علم الله المُسبَق يفرض ضرورة جبرية على الأحداث، مما ينتفي معه، بديهيًا، أي محاولة للإشارة لأصالة حرية الإرادة الإنسانية. فكيف تجد الحرية الإنسانية مكانًا وسط عالم قُضِي فيه بكل ما يحدث بفرمانات أزلية، بحسب هذا المنظور؟!

ولكن، تنتفي صعوبة الإجابة عن هذه الأسئلة عند تركيز البحث على استكشاف طبيعة علم الله المُطلق/الكلي ذاته، وفهم علاقة علمه المُطلَق هذا، تبارك اسمه، بأبعاد الزمن الإنساني/الأرضي، في مقارنةٍ مع جوهر زمنه الإلهي السرمدي الآني وطبيعته. وعندئذ، يستقيم فهمنا لأصالة الحرية الإنسانية ويتصالح مع حقيقة علم الله المُطلق بحسب زمنه الآني. وهذا ما يقدمه التقليد الوسلي، في اتساق مع وجهات نظر متنوعة ومتناغمة؛ تشمل وجهات النظر اللاهوتية الآبائية الشرقية المُبكرة، وفلسفة “بوئثيوس” (٤٧٧ – ٥٢٤ م.)، التي سأتناولها في أجزاء تالية من هذا المقال، بل ويُمكن تمديد الأطروحة الوسلية لإثبات تناغمها مع نظريات الفيزياء الحديثة التي صاغها العالِم “ألبرت أينشتين” (١٨٧٩ – ١٩٥٥ م.)، والذي شكلت قوانينه الفيزيائية ثورةً على قوانين العالِم المُعاصر لوسلي “اسحق نيوتن” (١٦٤٢ – ١٧٢٧)، الذي رفض وسلي بعضًا من أفكاره رغم شيوعها في عصره، في مفارقةٍ، قد تدفع متابعة نتائجها، كما سيتضح لاحقًا، مَسَاعِى الحوار بين علم اللاهوت وفروع العلوم الأخرى.

مركزية "الزمن الآني" في شرح ماهية علم الله المُطلَق بحسب التقليد الوسلي

يركز وسلي دائمًا في مناقشته لثنائية “علم الله المُسبَق” و”حرية الإرادة الإنسانية” على إعادة تعريف الزمن بالنسبة لدائرة الألوهة. فالزمن -كما نشعره نحن- يختلف اختلافًا جوهريًا عن الزمن بالنسبة لله تبارك اسمه. فاللحظة الآنية/الحاضرة تُدرَك وتُختَبَر بواسطة الإنسان كما هي بالنسبة للإنسان في نطاق أبعاد الزمن الإنساني وإطارهِ الذي اعتاد الإنسان على اختباره، بينما تُدرَك وتُختَبَر نفس “الآن” بواسطة الخالق كما هي بالنسبة للخالق في نطاق زمنه الإلهي السرمدي وأبعادهُ. ولفهم أعمق لهذه الحقيقة، تكفي الإشارة إلى كون “الزمن” مخلوقًا بواسطة الخالق. فزمننا الإنساني ليس ضرورةً في عالم الألوهة، شأنه شأن جميع المصنوعات. ووضع زمننا الإنساني خارج عن/ ولا يشترك مع جوهر الألوهة، شأنه شأن جميع المصنوعات. لذا، فقوانينه وتتابعاته المعروفة لنا لا تصف الزمن الإلهي ولا تُعين مفرداته.

ولإيضاح كون الزمن من المصنوعات، تكفي أيضًا الإشارة إلى الكيفية التي يمضي بها زمن الأرض كما يختبره الإنسان مقارنةً بأزمنة الكواكب الأخرى. فمن المعروف أن اليوم على كوكب الأرض يُساوي أربعة وعشرين ساعة، نتيجة دوران الأرض حول محورها/نفسها في هذه المُدة الزمنية، وتتكون السنة على الأرض في العموم من حوالي ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا نتيجة دوران الأرض في مدارها حول الشمس في هذه المُدة الزمنية. وهكذا، فإننا نتذوق زماننا ونختبره كما هو بالنسبة لنا اعتمادًا على حركة كوكبنا حول محوره وحول الشمس، بينما يُختبر الزمن بكيفية أخرى بالنسبة للكواكب الأخرى في نفس مجموعتنا الشمسية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كوكب عطارد – أصغر كواكب مجموعتنا الشمسية وأقربها إلى الشمس – يدور حول الشمس في حوالي ثمان وثمانين يومًا أرضيًا، لذا فإن السنة على عطارد تساوي ثمان وثمانين يومًا أرضيًا، وكان الاعتقاد قبلاً أن دوران عطارد حول نفسه أيضًا يساوي نفس المُدة الزمنية، أي أن يومه يساوي سنته، بينما اختلف هذا الاعتقاد حديثًا، ويميل العلماء إلى أن المُدة بين تتابع شروق الشمس مرتين على نفس البقعة على كوكب عطارد تقدر بحوالي مائة وستة وسبعين يومًا! أي أن – تبعًا لهذه الحسابات – اليوم على عطارد يساوي ضعف سنته، وسنته تساوي نصف يومه!

أردت من خلال طرح هذه الأمثلة البسيطة أن أوضح حقيقة أن الزمن مخلوق/مصنوع، وغير مُطلَق. كما وددتُ أن أسلط الضوء أيضًا على حقيقة أن اختبار الزمن وتذوقه، يختلف بشكل نسبي من إطار زمكاني لإطار زمكاني آخر، وهذا ما سيتضح أكثر، لاحقًا، عند قراءتنا لنظرية النسبية في ضوء ما نتحدث عنه. وبكلمات أخرى؛ فإن “الآن” تَعبُر علينا `ونتذوقها بحسب وضعها في إطارنا الخاص (أي زماننا ومكاننا)، بينما نفس”الآن” تُرَى من جانب الله وتُختبَر بحسب وضعها/ماهيتها في زمنه السرمدي. ويَجدُر بنا عند هذه النقطة، أن نرى كيف صاغ وسلي فهمَهُ عن تباين الزمن واختلافه بين البعدين الإنساني والإلهي. يكتب وسلي عام ١٧٧٣ في عظته حول “التعيين السابق” (On Predestination):

“لابد أن نلحظ أننا حينما نتكلم عن معرفة الله المُسبَقة، فنحن لا نتحدث تبعًا لجوهر الأشياء… إذ لا يوجد في الله (بحسب طبيعته) معرفةٌ سابقةٌ أو معرفة لاحقة… فإن كل الزمن، أو بالأحرى كل الأبدية، حاضرةً أمامه توًا/لحظيًا (at once)، وهو لا يعرف شيئًا قبل معرفته لشيءٍ آخر، بل يعرف الكل، من الأزل للأبد، معًا. كل الزمن بكل ما يحتويه معروضٌ/مُقَدَمٌ أمامه توًا/فورًا/آنيًا. فهو يرى كل ما كان (ماضي)، وكل الكائن (حاضر)، وكل ما سيكون (مستقبل) قائمًا أمامه توًا (بشكل آني/حاضر). ولنلحظ، فإنه ينبغي ألا نفكر أن الأشياء تحدث لأنه يعرفها، لا، فهو يعرفها لأنها حادثةٌ. بالضبط، كما أني أعرف الآن أن الشمس مشرقة، لكن، بالتأكيد، فإن الشمس ليست مشرقة، لأني أعلم بكونها مشرقة. وبنفس الكيفية، فإن الله يعرف/يرى أن الإنسان يعفل الخطية… لكننا لا نخطيء لكونه عارفًا أننا نخطيء، لكنه يعرف/يرى أننا نخطيء لأننا نخطيء، فمعرفته ليست سببًا للخطية. وباختصار؛ فإن الله ينظر لكل العصور، من بدء الخليقة لختامها، كلحظة واحدة توًا… فهو القدير، كلي الحكمة، يرى ويعرف -من الأزل للأبد- الحاضر والماضي والمستقبل، من خلال لحظة آنية أبدية (الآن السرمدية). فبالنسبة له تعالى، لا شيء ماضٍ ولا شيء مستقبل، فالكل حاضر أمامه بكيفية متعادلة.” (انتهى الاقتباس/ ترجمة بتصرُف)

ومن الواضح من كلمات وسلي، أن تعريف “الآن”، أو إدراك الاختلاف بين طبيعة اختبار الزمن بالنسبة للإنسان وبالنسبة لله، هو القاعدة الأساسية للتعامل مع قضية علم الله وحرية الإنسان. وللإيضاح بشكلٍ أعمق؛ فإن طبيعة زمننا تختلف عن طبيعة الزمن الإلهي. ونقطة الاتصال بين الزمنين هي “الآن”، التي هي “حاضر” بالنسبة لله والإنسان، والتي هي بالنسبة للإنسان نقطةٌ على خط يحمل الماضي والحاضر(الآن بالنسبة لنا) والمستقبل، في تتابع (sequential / successive / asynchronous)، وهذا التتابع مرتبط بطبيعة زمننا المخلوق (بكيفية حدث “أ” يليه حدث “ب” يليه حدث “ج”). بينما بالنسبة لله، “الآن” هي نقطة على خط يحمل الكل متزامنًا بشكلٍ آنيٍ؛ الكل يظهر، ويُرَى بواسطة الله معًا. الماضي والحاضر والمستقبل (بلغتنا) يُرون عنده في تزامن/ مزامنة (synchronization)؛ أي جميعهم يُدركوا معًا بواسطة الله في ذات اللحظة الآنية. فنحن نراهم متتابعين على خط الزمن، وهو يراهم متزامنين معًا كدفقة واحدة في زمنه الآني (السرمدي)، مع الاحتفاط بطبيعتهم المنفصلة، وسببية الأحداث، والتي تشكل من منظورنا تتابعهم الزمني. في الجزء القادم من هذا المقال، سنتعمق أكثر في أبعادٍ أخرى لهذه الأطروحة الوسلية، من خلال فحصها في ضوء مصادر آبائية وفلسفية مبكرة، وقراءتها تحليليًا في ضوء نظريات الفيزياء الحديثة. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يونيه ۲۰۲١

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.