المقدمة
عزيزي القاريء، في مقالاتٍ سابقةٍ، أشرت إشارات متنوعة – من دون إسهاب – إلى مكانة لاهوت آباء الشرق في صياغة فكر جون وسلي ولاهوته. وفي هذا المقال – وهو السادس عشر من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – أود أن ألقي الضوء بشكلٍ أكثرِ تفصيلٍ على تاريخ الدراسات الأكاديمية التي أصلت للإطار الفكري الذي يتبنى رؤية لاهوت الآباء الشرقيين كأحد المصادر الأساسية التي أسهمت في صياغة المنظومة اللاهوتية الوسلية، موضحًا بعض نقاط التلاقي والتباين بين التقليدين الوسلي والآبائي الشرقي، ومسلطًا الضوء على تآخى الفكر اللاهوتي مع الروحانية في هذين التقليدين العريقين.
اللاهوت الوسلي: البوتقة والتجديد!
من اليسير أن يلاحظ كلٌ دارسٍ للتقليد الوسلي تنوعًا مميزًا في المصادر التي صاغت فكر جون وسلي اللاهوتي. فلم يكن لاهوت وسلي – بأي حال من الأحوال – امتدادًا، أو رد فعل، لتقليدٍ أسبقٍ أوحد، كما الحال في بعض التقاليد الأخرى. لكن التقليد الوسلي كان كالبوتقة التي اجتمعت بها العديد من المصادر اللاهوتية السابقة والمعاصرة لوسلي، لتُصهَر معًا، ويخرج منها سبيكة جديدة متفردة تصنع إصلاحًا للإصلاح الغربي.
فكما تناولنا معًا قارئي العزيز في مقالات سابقة بالتفصيل، جمع وسلي في صياغته لفكره بين اتجاهات لاهوتية متباينة؛ بدءًا من الحركات الروحية؛ كالحركة التقوية اللوثرية (Pietistic Lutheranism)، التي تأثر بها وسلي أولاً عبر والدته سوسنا وسلي، والحركة المورافية (Moravian Movement)، وعضوية وسلي في مجتمع “فيترلان” (Fetter Lane Society)، مرورًا بالكنيسة الإنجليكانية وتأثيرها على تشكيل وجدان وسلي المبكر، وتيارات الإصلاح الغربي اللاهوتية، وسجالات وسلي مع الأفكار اللوثرية والكالفينية، وصولاً إلى تيارات الفكر اللاهوتي الأبائي المُبكر التي تتضح بعمقٍ في كتابات وسلي واقتباساته. وهكذا، عند حديثنا عن آباء الشرق بالنسبة للتقليد الوسلي، فنحن لا نتحدث عن مصدر أوحد، يمكن أن يُنظَر للتقليد الوسلي على أنه امتدادٌ له، لكننا بالأحرى نتحدث عن “أحد المصادر المهمة”، التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل اللاهوت الوسلي. هذه الملاحظة المبدئية تبدو حاسمة في إطار الحديث عن مصادر التقليد الوسلي اللاهوتية بشكلٍ عام، وعن فكر آباء الشرق كأحد هذه المصادر بشكلٍ خاص؛ نظرًا لقوة تأثير الشرق على تشكيل فكر وسلي، مما يدفع البعض أحيانًا إلى رؤيته كمصدر أوحد، وهي فكرة لا تعكس الدقة الأكاديمية المطلوبة.
البروفيسور ألبرت أوتلر وإعادة اكتشاف الجذور الشرقية للتقليد الوسلي
يتفق معظم الدارسين الوسليين على أن عالِم الدراسات الوسلية “ألبرت أوتلر” (۱۹۰۸ – ۱۹۸۹م.) هو المُلهِم الرئيس لاكتشاف الجذور الشرقية للاهوت وسلي. صحيحٌ أن كلاً من المُفكِر الأيرلندي “ألكسندر نوكس” (١٧٥٧ – ١٨٣١م.)، والكاتب الإنجليزي “ريتشارد ديني” (١٨٣٠ – ١٩٠٧م.) ألمحا في كتاباتهما لاحتمالية اشتراك مصادر آبائية مبكرة في تكوين فكر وسلي اللاهوتي، إلا أن هذه التلميحات لم تُنتِج أي حِراك أكاديمي في هذا المسعى، ولم تَكُن بالثِقل الذي يستدعي سجالات أكاديمية أبعد. هذا على عكس إشارة أوتلر – والتي جاءت في كتابه “جون وسلي” الذي نُشر عام ١٩٦٤م كجزء من موسوعة جامعة أوكسفورد للفكر البروتستانتي – والتي أفرد لها حاشية سفلية مُفصلة، اقترح فيها وجود علاقة وثيقة بين فكر وسلي وآباء الشرق. أثارت هذه الحاشية السفلية عاصفة من الدراسات التي بدأت تناقش وتفحص كتابات الأخوين جون وتشارلز وسلي في ضوء اللاهوت الشرقي، للدرجة التي جعلت دارسين وسليين – مثل البروفيسور “راندي مادوكس” أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة ديوك بشمال كارولينا – ينظرون إلى حاشية أوتلر على أنها الشرارة التي ولَّدت النقلة النوعية التي حدثت في مجال الدراسات الوسلية بدءًا من سبعينيات القرن الماضي، والتي تميزت برؤية التقليد الوسلي في قرينةٍ أوسع من التقاليد الروحية التاريخية.

كثير من الدراسات والكتب الأكاديمية، والرسائل العلمية، والمقالات تتبعت أطروحة أوتلر، من خلال رصد الاقتباسات المباشرة والقراءة التحليلة لكتابات وسلي في ضوء لاهوت آباء الشرق. فعلى سبيل المثال لا الحصر: كتب “روبرت شيفلد” أطروحة الدكتوراة المُقدمة إلى جامعة بوسطن في أواخر الستينيات من القرن الماضي حول ملامح الحياة الروحية عند وسلي وغريغوريوس النيصي. ثم تبعه “روبرت تاتيل” بأطروحة دكتوراة أخرى مُقدَمة إلى جامعة بريستول في السبعينيات حول السرائرية عند وسلي والآباء. كما كتب “ستيف ماكورميك” و”آرثر مايرز” أطروحتي دكتوراة قُدمتا خلال عامين متتاليين في الثمانينيات، إلى جامعتي دروو وسانت لويس، حول وسلي وذهبي الفم، ووسلي وفكر الآباء بالترتيب. كما كتب “هوجانج لي”، في التسعينيات، أطروحة الدكتوراة المقدمة إلى جامعة إموري حول الخليقة الجديدة في فكر وسلي مُضمِنَا إياها فصلاً كاملاً حول وسلي وآباء الشرق. هذا، وتعددت المقالات الأكاديمية التي تناولت علاقة التقليدين الوسلي والآبائي بالدراسة والتحليل؛ ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: مقالات “ديفيد باوندي”، و”جوردون واكفيلد” تحت عنواني: “وسلي وآباء الأسكندرية”، و”وسلي وإفرايم السرياني” في دوريتي الدراسات الوسلية والدراسات السريانية بالترتيب. كما تم نشر العديد من الكتب المبنية على دراسات أكاديمية تعكس تحليلاً دقيقًا لعلاقة فكر وسلي مع الفكر الآبائي، ومنها: على سبيل المثال: كتب “الروحانية الوسلية والأرثوذكسية”، و”الفكر الكنسي الوسلي والأرثوذكسي” للاهوتي “استيفين كيمبراه”، و”وسلي والتراث المسيحي” لعالم الدراسات الوسلية “تيد كامبل”، وغيرها من الكتب التي أضاءت عمق العلاقة بين التقليدين الوسلي والآبائي.
هذا، ويُجمع كثير من الدراسين على أن وسلي قد أعطى أولوية كبيرة لفكر آباء الشرق، وأعلاه على فكر الآباء الغربيين من حيث اعتماده عليه في الصياغات اللاهوتية. ويتفق أيضًا الكثير من الدارسين على أن تآزر علم اللاهوت والروحانية، وعدم انفصالهما، هي نقطة التلاقي الرئيسة التي ينطلق منها وسلي وآباء الشرق في صياغاتهم لفكرهم اللاهوتي. لذا، يُنظر للاهوت الوسلي على أنه حلقة الوصل بين الفكر اللاهوتي الغربي والشرقي. وتبعًا للكثير من الدراسات، يمكن تلخيص مناحي الفكر الوسلي التي تأثرت بلاهوت الآباء الشرقيين في عدة نقاط جوهرية، سأوجزها في القسم التالي.
وسلي والشرق: سمات لاهوتية مشتركة
تُشير معظم الدراسات إلى تأثُر وسلي بلاهوت الشرق في مناحٍ مُحددة، يمكن إجمالها في ستة مسارات. أولاً: النظرة الوسلية للخطية على أنها جُرم ومرض، وللخلاص على أنه ليس فقط براءة من الجرم (تبرير)، إنما أيضًا شفاء من المرض (تقديس). هذه النظرة الثنائية – والتي يرجع أصلها للآباء الشرقيين كأثناسيوس الرسولي– تُحرر الفكر اللاهوتي من أن يبقى سجينًا في سجالات فلسفية حول أصالة تَمتُع الإنسان بالتبرير من عدمه، إذ يصير البرهان هو: ترجمة الحصول على التبرير بالإيمان من خلال واقع الحياة التي تقدست، في تناغمٍ يمضي متسقًا مع العهد الجديد، خاصةً وجهي رسالتي رومية ويعقوب؛ التبرير بالإيمان، والبرهان العملي على أصالة اختبار الإنسان للتبرير بالإيمان من خلال القداسة العملية الفائضة في حياة الإنسان. ثانيًا: الطبيعة الغائية لرحلة حياة الإيمان، فحياة الإيمان عند وسلي والآباء هي رحلة لها غاية، وهذه الغاية هي الاتحاد مع المسيح. فبالرغم من أن لاهوت وسلي ينبر على لحظات راديكالية فاصلة في الحياة (مثل لحظة التبرير والولادة الجديدة، ولحظة اختبار التقديس التام والدخول إلى حياة الكمال المسيحي)، غير أن وسلي دائمًا يرى هذه اللحظات الفاصلة في سياق أوسع من عمل نعمة الله. فلحظة التبرير يسبقها عمل النعمة البادئة (راجع المقالات السابقة)، ولحظة اختبار التقديس التام يسبقها ويتبعها نمو تدريجي في التقديس، كلٌ بحسب ملامح المرحلة الخاصة به. وبالتأكيد، وسلي يُشبه آباء الشرق في تركيزه على الحياة الروحية كرحلة لها غاية والنمو فيها مستمر، أما في تركيزه على اللحظات الراديكالية الفاصلة، فهو يبتعد عن أغلبهم قليلاً! ثالثًا: نظرة وسلي والآباء للخلاص على أنه استرداد للصورة الأولى. فبينما صار الكلمة المتجسد جذرًا جديدًا أوحدًا للإنسانية المتجددة بتجسده، معطيًا الأساس الوجودي لخلاصنا (Ontologically)، صائرًا هو وجودنا الجديد الإنسان يسوع المسيح، فقد أصلّ أيضًا تأصيلاً موضوعيًا (Objectively) متقنًا كاملاً (قد أكمل/ يو١٩: ٣٠)، لتمرير مفاعيل تجسده وخلاصه لكل مَن يؤمن، بموته على الصليب وقيامته، وإرساله للروح القدس الذي يُتمم في المؤمنين كيانيًا (Subjectively) مفاعيل الخلاص. رابعًا: يُعد تركيز وسلي وآباء الشرق على اجتهاد المؤمنين في الحياة الروحية كوعاء لاستقبال عمل نعمة الله في حياة التقديس من أعمق وأقوى نقاط التلاقي بين التقليدين. خامسًا: تركيز وسلي على التلمذة الحاسمة المغمورة في روح الشركة العميقة بين المؤمنين يجد جذوره بالتأكيد في الكنيسة الأولى وفي النماذج الرهبانية الشرقية (خاصة المقارية)، والتي تعلم منها العالم كله في القرون المبكرة للمسيحية. سادسًا: تجد عقيدة الكمال المسيحي – وهي العقيدة المحورية في اللاهوت الوسلي – من دون شك، جذورها بقوة في تعليم آباء الشرق كالكبادوك، وآباء الأسكندرية، وأباء برية شيهيت في مصر.
دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، أغسطس ٢٠٢٢