علم اللاهوت وأبجدية العبادة في الكنيسة (۲)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو المقال الثالث من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن ماهية العلاقة بين علم اللاهوت وأبجدية العبادة في الكنيسة، وسلّطنا الضوء على العلاقة التبادلية بينهما؛ والتي تظهر فيها العبادة كسياق تأسيسي/اختباري/ مُنضِج للتراكيب اللاهوتية، كما تظهر فيها هذه التراكيب اللاهوتية بدورها كأبجدية تكوينية مُشكِلة لاحتفاليات العبادة. كما تناولنا باسيليوس الكبير، وكتابه “الروح القدس”، وسياق تأليفه لهذا الكتاب كنموذج لهذا الترابط الجوهري بين علم اللاهوت والعبادة.

في الجزء الثاني من هذا المقال، أواصل معك عزيزي القاريء حديثنا عن علم اللاهوت والعبادة من خلال نموذج آخر من تاريخ الكنيسة، وهو التقليد الوسلي/ تقليد القداسة؛ الذي تتجلى فيه بوضوح سيمفونية التآزر بين صياغة التراكيب اللاهوتية ومفردات العبادة الكنسية. وللإيضاح، أقصد بالتقليد الوسلي: هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن الثامن عشر في انجلترا، ويعتمد على كلٍ من جون وسلي (۱۷۰۳ – ۱۷۹۱) وتشارلز وسلي (۱۷۰۷ – ۱۷۸۸) كمرجعية لاهوتية وتعليمية، بينما أقصد بتقليد القداسة: هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن التاسع عشر في أمريكا وكندا، ويُعد امتدادًا وتطورًا لاهوتيًا وتاريخيًا للتقليد الوسلي الكلاسيكي، مع الاحتفاظ بالأساسات اللاهوتية الوسلية، والبناء عليها بواسطة شخصيات تاريخية مُتعددة سأتناول منها، على سبيل المثال، الكندي رالف هورنر (۱۸٥٤ – ۱۹۲۱)، في جزء آخر لاحق من هذا المقال.

تشارلز وسلي و جون وسلي

الروحانية الوسلية: حلقة الوصل بين الشرق والغرب

من المؤكد أنه لا يمكن إطلاق لقب لاهوتي بالمفهوم النظامي على جون أو تشارلز وسلي؛ إذ أنهما لم يصيغا لاهوتًا نظاميًا بمعناه الغربي المُتعارف عليه. لكن بالتأكيد يُمكن تصنيفهما – ضمن كثير من اللاهوتيين اللامعين – كلاهوتيين تحتل الخبرة الروحية والعبادة – بجانب التعليم الكتابي والآبائي – قلب منظومتهما اللاهوتية. فالأخوان وسلي، ببراعة شديدة، صاغا مفردات اللاهوت الوسلي من خلال قنوات مُتعددة؛ مثل تأليف الكتب والنبذات وإلقاء العظات وإرسال الخطابات اللاهوتية، ولكن تقف النصوص التعبدية والترانيم التي صاغها ونشرها تشارلز وسلي – بمراجعة وإشراف جون وسلي – والتي يبلغ عددها حوالي ستة آلاف وخمسمائة نص تعبدي، كعملٍ فريدٍ وسط مفردات منظومتهما اللاهوتية يشهد للدمج والتفاعل الأصيل بين علم اللاهوت والعبادة الذي ميَّز التقليد الوسلي. لذا، فمن المؤكد أنه يمكن بثقة اعتبار الأخوين وسلي امتدادًا للتيار اللاهوتي الآبائي الذي لم يضع حدًا فاصلاً بين الروحانية المُتجلية في العبادة من ناحية، والتفلسف اللاهوتي من ناحيةٍ أخرى. وهذا ما جعل الدارسين يطلقا على الأخوين وسلي ألقاب يظهر فيها الدمج بين علم اللاهوت والروحانية؛ مثل لقب “لاهوتيْ اللاهوت الاختباري” – الذي أطلقه العالِم إرنست راتيمبري، ولقب “لاهوتيْ اللاهوت العملي” وأطلقه اللاهوتي راندي مادوكس، بل أن استيفين كيمبراه – أحد أشهر الدارسين الوسليين – أطلق على تشارلز وسلي “اللاهوتي القيثاري/الغنائي”، نسبة إلى “القيثارة”، في إشارةٍ إلى مركزية صياغة الأخوين وسلي للعقائد اللاهوتية في ترانيم وتسابيح تعبدية.

والحقيقة فإن الدراسة المتأنية للعوامل التي شكلَّت لاهوت الأخوين وسلي، تشير بشكل مباشر إلى مركزية تأثير المفردات الآبائية وخاصةً الشرقية في تكوين شخصياتهما اللاهوتية، مما انعكس في صياغة السبيكة الوسلية اللاهوتية التعبدية. فمثلاً؛ جون وسلي التحق بجامعة أوكسفورد في عشرينيات القرن الثامن عشر في وقت اندلعت فيه نهضة لترجمة الكتابات الآبائية في هذه الجامعة العريقة، مما كان له أشد الأثر في تكوين شخصية وسلي اللاهوتية. ومن الجدير بالذكر أيضًا، أن أول مجموعة تلمذة شكلَّها الأخوان وسلي كان أحد أهدافها دراسة كتابات الآباء في اليونانية، واتباع المناهج الآبائية في التلمذة والاجتهاد الروحي، بما في ذلك الدمج بين العبادة والتفكُر اللاهوتي كمنهج آبائي أصيل. وقد أعطى جون وسلي اهتمامًا كبيرًا لآباء الشرق عندما جمعَ ونشرَ ما أُطلِق عليه “المكتبة المسيحية” (وهي مجموعة من خمسين مرجع ضخم، قام وسلي بتجميعها كمختارات من الأدب المسيحي من مختلف الحقب بقصد توفير مصادر مُوحدَّة لإعداد الخدام الوسليين). كما تؤكد كثير من الدراسات المعاصرة، مركزية التعليم اللاهوتي الشرقي في التقليد الوسلي الكلاسيكي كما يظهر من تتبُع الاقتباسات المباشرة من الآباء، أو من خلال تحليل التراكيب اللاهوتية التي ميزت الكتابات الوسلية. ومن هنا يُمكن النظر إلى التقليد الوسلي لاهوتيًا وتاريخيًا على أنه حلقة الوصل بين الشرق والغرب. ويُمكن قراءة الأخوين وسلي على أنهما امتدادّا لأولئك اللاهوتيين الذين اعتمدوا على الأغاني التعبدية والترانيم؛ للتعبير عن الصياغات اللاهوتية مثل: غريغوريوس اللاهوتي، وسمعان اللاهوتي، وإفرايم السرياني. وفي السطور القليلة القادمة، سأعرض لك عزيزي القاريء نموذجًا يعكس عمق التراكيب اللاهوتية التي صاغت أبجدية العبادة في التقليد الوسلي.

تشارلز وسلي: القيثارة اللاهوتية

“مبارك الآب والابن والروح القدس.. الإله العظيم الكائن قبل بداية الزمن.

المُتوج تتويجًا أبديًا.. يهوه إلوهيم.. الواحد الجامع سرائريًا.. (المقصود سر الثالوث)

ونحن، خاصته، عابدون الواحد في ثلاثة أقانيم (هيبوستاسيس)..

الثلاثة أقانيم في جوهر (أوسيا) واحد.”  (من ترانيم تشارلز وسلي/ ترجمة بتَصرُف)

يمكن تناول الكلمات السابقة، والتي كتبها ولحنَّها تشارلز وسلي، كنموذج بسيط وعميق للترنُم والتغني بنصوص تعبدية تعكس معرفة لاهوتية عميقة. فقد قصد وسلي أن يُقدِم الحقائق اللاهوتية في نمط تعبدي تمجيدي يجعل التغني بالحقائق اللاهوتية الجوهرية يتم في إطار من العبادة المنفتحة على عمل روح الله والامتلاء بقوته. وهذه الكلمات مثالٌ جيدٌ لهذا. فمع أن هذه الكلمات تُشكِّل مجرد بيت من ترنيمة ضمن مجموعة ترانيم عن الثالوث نشرها وسلي عام ۱۷٦۷ – وتشمل سبع وخمسين ترنيمة عن ألوهية المسيح، وتسع وعشرين ترنيمة عن ألوهية الروح القدس، وثلاث وعشرين ترنيمة تُركز على تمايز الأقانيم الثلاثة، وسبع وعشرين ترنيمة محورها وحدة الثالوث – إلا أنها تُقدم ما يُمثل تلخيصًا بسيطًا لحقائق أساسية تم وضع صياغاتها اللاهوتية في القرن الرابع الميلادي مع دمجها بتعبيرات كتابية محورية! إذ يتضح لدارسي علم اللاهوت تسليط وسلي الضوء في هذه الترنيمة على التعبيرات المُستَخدَمة في مجمع نيقية (۳۲٥ م.) ومن بعده القسطنطينية (۳۸۱ م.)، والمُعبرة عن تعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر، مع ربطه مفردات اللاهوت التاريخي مع أخرى كتابية من خلال استخدام تعبيرات “يهوه” و”إيلوهيم” التي تُشير إلى الوحدانية الجامعة. وهكذا؛ إذ يقف المُصلي ليتبعد بهذه الذكصولوجية الثالوثية، جنبًا إلى جنبٍ مع ترانيم أخرى مفرداتها اللاهوتية تُعبر عن عمل روح الله في التقديس والكمال المسيحي، يدرك المُصلي أن هذا الثالوث القدوس المُستعلَن في عبادته هو نفسه العامل فيه داخليًا بكيفية كيانية للتقديس، وهذا ينقل سياق العبادة إلى مستوى أخر من الواقعية، إذ يخلق شوقًا وتوقعًا لاستعلان ميراث الخلاص استعلانًا كيانيًا مُجسدًا في العابدين ووسطهم. وهنا تنتقل المعرفة اللاهوتية إلى خبرة تحويلية، يقف استعلان الحضور الإلهي في مركزها. وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في الجزء القادم من هذا المقال من خلال تسليط الضوء على التأثير المباشر للمعرفة اللاهوتية على سياق العبادة في تقليد القداسة في القرنين التاسع عشر والعشرين. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في مارس ۲۰۲۰

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.