Heaven Upon Earth Logo

الرُوحَانية المُستقِيمَة وإعْمَال العَقل (٣)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو المقال الرابع من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن تآخِي إعمال العقل والخبرة الروحية المستقيمة من خلال دراسةٍ مُبسطةٍ لرباعية البناء اللاهوتي الوسلي. وتناولنا في الجزء الثاني – في العدد السابق – مقدمة تمهيدية لشرح الأُسس اللاهوتية للدمج بين تعبيرات “التمييز” و”العقل”، و”الإعلان” و “التفكُر”، من خلال التعريف برسائل أنطونيوس الكبير (۲٥۱ م. – ۳٥٦ م.)، والتي تُعَدُّ مرجعًا مهمًا في هذا الدمج.

في هذا الجزء الثالث من المقال، نتعمق في الحديث عن الأسس اللاهوتية لهذا الدمج بين “التمييز وإعمال العقل”، أو “استخدام الحواس الروحية والتفكُر” – والذي أجادل لأجل إثبات أصالته – من خلال قراءة تحليلية لبعض ما جاء في رسائل أنطونيوس الكبير إلى تلاميذه، لأُعطي إجابات عن أسئلة مهمة مثل: لماذا لا يمكن فصل الروحانية المستقيمة عن إعمال العقل؟ ما هي الديناميكية التي تشرح تآخي “إعمال العقل” وتلازمه مع “الروحانية المستقيمة” لاهوتيًا وعمليًا؟ هل يمكن للإنسان أن يكون “روحيًا” ومميزًا للأمور المتخالفة، بغير استرداد وشفاء لعقلِهِ متفكرًا وعاملاً؟ هذا، وأُذكِر قارئي العزيز بما أشرت إليه في الجزء السابق من هذا المقال، وهو أن استخدام كلمة “التمييز” في هذا المقال بأجزائه لا يُقصَد به “موهبة التمييز” – إحدى المواهب الروحية التسع – المذكورة في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس والتي يُعطيها الروح القدس مُباشرةً كموهبةٍ روحيةٍ للبعض (وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ”/ ۱كو۱۲: ۱۰)؛ لكن يُقصَد به “التمييز كفضيلةٍ” روحيةٍ تتطابَق مع قول كاتب رسالة العبرانيين: “أَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ” (عب٥: ۱٤)، وهي نفسها الفضيلة التي يشير إليها الآباء على أنها “أهم الفضائل وأعظمها”.

"نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا": استرداد الجوهر العقلي عند أنطونيوس الكبير

لفهم العلاقة الجوهرية بين الروحانية المستقيمة وإعمال العقل عند أنطونيوس، لابد أن نبدأ بإلقاء نظرة سريعة على تعليم أنطونيوس عن الخلاص (Soteriological thought). يبدأ أنطونيوس، في رسائله، تعليمه حول خلاص الإنسان من نقطةٍ محددةٍ – وهي نقطة انطلاق لفهم الخلاص عند الكثير من آباء الكنيسة – ألا وهي خلقُ الإنسان على صورة الله. “وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا… فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ” (تك١: ٢٦، ٢٧). ويربط أنطونيوس خلق الإنسان على صورة الله، بشكل مباشر، بالابن يسوع المسيح – الكلمة المُتجَسِد – المكتوب عنه أنه “صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ” (كو١: ١٥)، وهو ذاته كلمة الله، “اللوجوس” بحسب إنجيل يوحنا في إصحاحه الأول، أي عقل الله والمنطق الإلهي الكامل. يركز أنطونيوس، في رسالته السابعة، على توضيح العلاقة بين ماهية المسيح كصورة الله، وكعقل الله الكلمة المُتجسِد؛ إذ يقول: “هو نفسه (المسيح) عقل الآب وصورته غير المتغيرة”.

أنطونيوس الكبير

إذًا، فالإنسان مخلوق على صورة الله، والمسيح هو صورة الله غير المنظور، وهو بذاته الكلمة المُتجسِد، المُعلِن لكمال المنطق الإلهي وعقله! لذا؛ فصورة الله في الإنسان – التي هي تجلِّي المنطق الإلهي في الإنسان قبل سقوطه – لابد وأن تظهر في “منطق” الإنسان وقدرته على التعقُل/ إعمال العقل؛ هذا المنطق المُتأصِل (أي الذي يجد أصلَه) في صورة المنطق الإلهي/ الصورة الإلهية في الإنسان! وهذا بالتأكيد لا يلغي استعلان صورة الله في الإنسان في أبعادها الكلاسيكية الأخرى المُتفَق عليها؛ كالبعد الأدبي (الذي يظهر في البر والقداسة) والبعد الحاكم النوراني (الذي يظهر في تسلط الإنسان على الخليقة)، لكنَّ التركيز هنا على صورة الله في الإنسان في بُعدِها الكياني، أو الذي يُدعى في تقاليد روحية أخرى – كالتقليد الوسلي – بالبعد الروحي الطبيعي!

وعلى هذا، فإن صورة الله في الإنسان كامنةٌ ومُستَعلَنةٌ في عقلانية الإنسان. والعقلانية هنا لا تُذكَر – بالتأكيد – بالمعنى الحداثي أو ما بَعد الحداثي؛ لكن تُذكر في سياق ما يدعوه أنطونيوس “الجوهر العقلي” أو “الجوهر الروحي” للإنسان، الذي هو انعكاس لصورة الله/ اللوجوس الإلهي/ العقل الإلهي في كيان الإنسان. فالجوهر العقلي للإنسان هو جوهر الإنسان الروحي في حقيقته، والذي ترتبط سلامته ارتباطًا وثيقًا مع سلامة روحانية الإنسان واسترداد حالته الأصلية!

ويتضح في فكر أنطونيوس أنه بينما تتجلى شخصانية كل إنسان وتفرده في أبعاد نفس الإنسان وسماته الجسدية، فإن جوهر الإنسان الروحي (الطبيعي بحسب خَلقِه على الصورة الإلهية) يتجلى ويُظهَر في عقله وعقلانيته! فقد صُوِّر الإنسان عاقلاً مُتعقلاً مُتفكرًا على صورة الله/ اللوجوس، وبالتالي، فإن صورة الله في الإنسان تسكن في عقلانية الإنسان ويُعبَّر عنها في تفكُر الإنسان – بالإضافة إلى بعديها الآخرين: الأدبي والحاكم. وهكذا، يمكن تعريف عقلانية الإنسان، في هذا السياق، بكونها المُكوِن القادر على “استيعاب” الإعلان الإلهي بالنعمة، والمرتبط استقباله بالحواس الروحية والتمييز كأدواتٍ لاستقبال الإعلان! فالحواس الروحية والتمييز – عند أنطونيوس شأنه شأن وسلي – تُمثِّل أحد المصادر الأساسية التي تمدُّ الإنسان بالمادة الخام – المعرفة والإعلانات اللازمة – لإعمال العقل/العقلانية، بينما الجوهر العقلي هو القائم أساسًا بعملية الفهم والحكم والتقدير، ويظهر هنا إعمال العقل في حد ذاته على أنه تشغيلٌ للمعطيات التي استقبلتها الروح بالحواس الروحية! وهذا يتطابق تقريبًا مع ما أشرتُ إليه في الجزء الأول من هذا المقال في سياق الحديث عن الرباعية الوسلية.

وبحسب هذه المنظومة من الأفكار اللاهوتية، فإن الإنسان الذي عانى في السقوط من تشوه كمال الصورة الإلهية التي خُلق عليها وضياعها، عانى في الحقيقة في جوهره أيضًا من ضياع مَلَكَات جوهره العقلي؛ سواء قدرته على التمييز (الاستقبال وإعمال الحواس الروحية) أو قدرته على تشغيل ما يستقبله في الاتجاه الصحيح، إذ فُقِدَت العقلانية الأصلية. فالصورة الإلهية في الإنسان تشوهت نتيجة الخطية، ومعها ضاع جوهر الإنسان العقلي في صورته الأصلية الكاملة، فصار الإنسان فاسدًا مظلمًا غير قادرٍ على التعقل! وهنا كان الاحتياج للمُخلص! والمُخلص لابد أن يرُّدُ الصورة إلى أصلها، ويخلق الإنسان جديدًا، ويرُّدُ له جوهره العقلي الذي فُقِد، ويُحيِيِه؛ فتعود حواسه الروحية عاملةً وتُستَرَد عقلانيته! مَن القادر أن يُخلص؟! وحدهُ الكلمة المتجسد! ابن الله الذي صار جسدًا وخيَّم فينا! اللوجوس – عقل الله ومنطقه الكامل الذي بتجسده فُتِح الباب للإنسان ليسترد عقلانيته، إذا آمن واتحد بالكلمة المتجسد! وهنا تظهر العلاقة بين الروحانية المستقيمة وإعمال العقل واضحةً جليةً! فمَن آمن واتحد بالكلمة المُتجسِد/ اللوجوس/ كمال العقل والمنطق الإلهي الذي صار جسدًا؛ عادت له الحياة، وبدأ رحلة استرداد جوهره العقلي، ومعها استرداد قدرته على التعقل من خلال استقبال الإعلانات الإلهية بحواسه الروحية المعطاة له والمُفعلَّة فيه بنعمة الرب الغنية! إذًا، لا عقلانية سليمة من دون إعلاناتٍ إلهيةٍ، فالإعلانات الإلهية هي مُفرَد/مُدخَل رئيس في العقلانية، ولا روحانية مستقيمة من دون إعمال للعقل، فإعمال العقل هو المُشغِل/المُنتِج الأصيل للروحانية المستقيمة! وهذا يُبرِر بوضوح عدم إمكانية الفصل بين الروحانية المستقيمة وإعمال العقل، كما أنه يوضح ديناميكية/كيفية التآخي والتلازم بينهما، ويؤكد على استحالة أن يصير الإنسان “روحيًا” – روحانية مستقيمة يُبنى عليها ميراثًا غنيًا للكنيسة – دون أن يكون قد استردَّ عقلانيته! فاسترداد العقلانية، الذي هو استرداد صورة الله في الإنسان/ استرداد المنطق الإلهي هو البرهان الكياني لتذوق الإنسان لمواريث الخلاص ولاستقامة روحانيته، فمَن بدأ رحلة الاتحاد بالمسيح بما تحمله من حياة مُتدفِقة وثمار ومواهب للروح القدس؛ تتجلى صورة المسيح الكلمة المُتجسد فيه، فيصير مُتعقلاً بالحق، مُتفكرًا بالروح، لابسًا “الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ” (كو٣: ١٠)، مُستردًا لجوهره العقلي، مثمرًا لأجل كنيسة المسيح! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يوليو ۲۰۲۰

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.