التقليد الوسلي (٣) – الجزء الثاني – النعمة البادئة والطاقات الإلهية المُمَكِنَة

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو الثامن من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – تحليلاً للسجالات الفكرية التي شكّلت خلفية صياغة عقيدة النعمة البادئة/السابقة كمفرد رئيس في منظومة اللاهوت الوسلي. في هذا الجزء أُقدِم عرضًا موجزًا لفكرة “النعمة البادئة” في علاقتها مع الخطية الأصلية، ومفهوم الفساد الكلي، والأساس المعجزي للإيمان المسيحي، بحسب التقليد الوسلي.

مفهوم الخطية الأصلية والفساد الكلي في التقليد الوسلي

يوضح روبرت تاتيل – أستاذ الدراسات الوسلية بكلية لاهوت أسبوري – أن أي شرح للمنظومة اللاهوتية الوسلية لابد أن يبدأ من تعريف وسلي لمفهوم كلٍ من “الخطية الأصلية”، و”النعمة البادئة/السابقة”. والحقيقة، فإن ملاحظة تاتيل في محلِها؛ إذ أنّ فهم جوهر هاتين الفكرتين يدخل بالدارس إلى ردهة استقبال التقليد الوسلي، مما يقود تباعًا إلى فهم باقي الأفكار الأساسية للتعليم الوسلي، كالخلاص والتبرير والتقديس، والتي ترتبط معًا كارتباط خيوط نسيج الثوب الواحد.

وبالنسبة لوسلي؛ فإن الخطية الأصلية هي كسر آدم وحواء للوصية واختيارهما للشر مما أدخل الخطية إلى العالم (بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ / رو٥: ١٢). في الأصل، لم تكن الخطية ولم يكن الشر، إذ ليس لهما جوهرٌ في ذاتهما. إذ أن الخطية هي غياب البر، وقد نشأ الشر من غياب البر في الشرير (الحية القديمة/ إبليس)، إذ تكبر ورفض سلطان العلي. ثم خُلِق الإنسان على صورة الله، إذ خَلقَ الله الإنسان وميزه بعقلٍ يفهم، وكيانٍ يشعر، وبإرادة حرة (Free Will and Liberty). هذه الإرادة الحرة تعني أن الإنسان الأول (آدم) كان لديه القوة ليختار بين الخير والشر. أعطى الله الوصية لآدم بألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. اختار آدم الشر وكسر الوصية. لذا، دخلت الخطية إلى العالم.

وتبعًا لوسلي، فإن نتيجة الخطية الأصلية لم تكن فقط أن الإنسان صار مُدانًا أمام الله بسبب عدم طاعته وصار مُحتاجًا إلى براءة ومصالحة (كما ينبر دائمًا التراث المُصلَح)، لكن أيضًا أن الطبيعة الإنسانية فسدت بسبب الخطية؛ وصارت تحتاج إلى دواء واسترداد. فيقول وسلي: “إن نسل آدم صار كثمرة فاسدة مرتبطة بشجرة فاسدة”، أو ما عبّر عنه هارالد ليندستروم – في دراسته الكلاسيكية عن الفكر الوسلي – قائلاً: “الكمال المبدئي (Primitive Perfection) قد تمت إزاحته بفسادٍ كُليٍ لطبيعة الإنسان”. ويفهم وسلي الفساد الكلي (Total Depravity) بمنظور كياني، فهو ليس فقط “ذنب موروث” قضائيًا، لكنه “فساد ساكن/ خطية ساكنة” في الكيان الإنساني، الذي هو ميل إلى العصيان نتج عن الانفصال عن النور الإلهي؛ ومن ثَمَّ فَقْد الطاقة الإلهية/طاقة الصلاح من تركيب الإنسان (لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً/ أف٥: ٨). حدث خلل في كيان الإنسان بالسقوط. وهذا الخلل له علاقة بفقدان آدم للنور ولطاقة الصلاح. ويؤكد وسلي أنه طالما فسد جذر شجرة الجنس البشري، الذي هو آدم، فبالتأكيد الشجرة كلها فاسدة. فبعصيان آدم، أو خطيته الأصلية، صار الجنس البشري كله تحت الحكم، وورث الفساد الكلي، الذي هو غياب النور وطاقة الصلاح عن كيان الإنسان، الذي هو الميل إلى العصيان (Propensity to Disobedience).

وبالتالي، تبعًا لهذا الفهم، فإنه مع احتياج البشرية لمصالحة وتبرير لكي لا تصبح مدانة أمام الله، فهي تحتاج أيضًا إلى استرداد وشفاء لتسترد الصورة الأولى غير الفاسدة. هذا الفهم الوسلي للخطية الأصلية يدخل بالدارس للتقليد الوسلي إلى عمق فهم وسلي للاختبار المسيحي. فاللاهوت الوسلي بتركيزه على الفهم الثنائي للخطية الأصلية “كـجُـرم يحتاج للتبرير”، و”كـمرض يحتاج للشفاء”، يشير بوضوح إلى لزوم تعامل الله الثنائي مع هذه الحالة البشرية مزدوجة الاحتياج. وعلى هذا يمكننا ملاحظة كيف يتخطى الاختبار الإيماني في اللاهوت الوسلي مجرد “لحظة” القبول الشخصي لعمل المسيح الكفاري، ليشمل باقي الحياة التي ستشهد – بحسب وسلي – تَدرُج للشفاء (تقديس علاجي)، يتبعه لحظة شفاء راديكالية من جذر الخطية تُسمَى اختبار التقديس، وهذه اللحظة هي المدخل لحياة الكمال المسيحي، الذي يستمر فيه التقديس التخصيصي في آفاق تدريجية أعلى مدى الحياة.

وبكلمات أخرى، فإن الله يملأ احتياج الإنسان للتبرير (الاحتياج الأول) عندما يقبل الإنسان بشارة الإنجيل. إذ أنه في لحظة القبول، يُحسَب بر المسيح لمَن تاب وآمن، ويُطَعَم هذا البر في كيان الإنسان جوهريًا، فيصير الإنسان مولودًا من الله، صالحًا لإظهار ثمر البر الذي انساب لكيانه، وهذه هي البداية الحقيقية للحياة المسيحية بحسب وسلي. هذه البداية لابد أن تُتبَع بما يسميه وسلي “التغيير الثاني”، أو “الراحة الثانية”، أو “العطية الثانية” وهي: التقديس التام. وهذه العطية الثانية تتعامل مع الاحتياج الثاني للإنسان وهو الشفاء واسترداد الصورة الأولى. فبالتبرير يصبح الإنسان بريئًا أمام الله، وبالتقديس التام يصبح الإنسان مشفيًا على صورة الله. وهذا هو فهم وسلي للاختبار المسيحي. وبالطبع، واضح أنه من دون إدراك نظرة وسلي الثنائية لمفهوم الخطية الأصلية، يصبح من الصعب تَتبُع مفهومه عن البركة الثانية.

إذًا، من خلال الفهم الثنائي للخطية الأصلية، يظهر الخاطيء (الميت بالذنوب والخطايا/ المنفصل عن الله) مُدانًا يحتاج لبراءة، وفاسدًا يحتاج لشفاء. وهنا يظهر السؤال المهم: كيف لهذا الخاطيء الميت، الفاسد كُليًا، أن يأخذ خطوة القبول (أي قبول المسيح كمخلص ورب)؟ هل لميتٍ فاسدٍ كليًا أن يسمع ويتفاعل ويريد؟ أليست الإرادة أيضًا فاسدة؟ هذا السؤال يدخل بنا مباشرةً إلى مفهوم “النعمة البادئة” في اللاهوت الوسلي.

مفهوم النعمة البادئة كطاقات إلهية مُمَكِنة

هل يمكن أن تحيا هذه العظام اليابسة؟

بقوة النعمة المُحَفِزة/ التي تَحُث وتُسَرِّع!

وهل يمكن أن يسترد المرتدون حياة البر؟

بقوة الطاقة الإلهية!

(كلمات من ترنيمة لتشارلز وسلي/ ترجمة بتصرُف)

يتحدث وسلي عن النعمة البادئة بوصفها النعمة التي تأتي للإنسان قبل كل شيء، فهي النعمة الأولية التي تأتي سابقة لكل رغبة بداخل الإنسان لإرضاء الله. فالإنسان بطبيعته فاسدًا فسادًا كليًا، وبالتالي، فإن إرادته الحرة فاسدة لا تصلح للتشغيل بالمفهوم الإصلي للإرادة الحرة، التي يكمُن جوهرها في قدرة الإنسان على الاختيار وإمكانية انحيازه لجانب من الجانبين: الصلاح أو الشر. هذه القدرة – أو الإمكانية – فسدت ضمن تأثيرات الفساد الكلي، ومظهر فسادها هنا هو أن الإنسان فقد قدرته على إمكانية الانحياز للصلاح من الأصل، إذ أنه فاقد لطاقة الصلاح نتيجة الميل الموروث إلى العصيان، الذي وُجِد كأحد مظاهر فقد الطاقة الإلهية (طاقة الانحياز للصلاح) من كيان الإنسان. فقد صار الإنسان بعد السقوط منحازًا للشر بطبيعته الساقطة. لذا، فإن ترس الإرادة الحرة صار مُعطلاً عن أداء وظيفته الأصلية، فالحرية صارت في اتجاه واحد – الانحياز للذاتية والخطية – وبالتالي فقدت ماهيتها، والإنسان لم يَعُد حُرًا بالمعنى الأصلي للحرية.

وهنا تظهر النعمة البادئة في اللاهوت الوسلي لترد للإنسان الفاسد كليًا قدرًا من إرادته الحرة/حريته بشكل معجزي/فائق للطبيعي من خلال عملها كنعمة بادئة/سابقة. وتتجلى مفاعيل هذه النعمة البادئة – كما يتضح في ترنيمة وسلي – في ماهيتها كطاقة إلهية تُحفِز الإرادة وتحُثها لإستعادة قدر من ماهيتها ووظيفتها الأصلية (أي الاختيار الحر)، إذ تعمل النعمة البادئة كمُحفز لاسترداد إمكانية الاختيار عند الإنسان، من خلال دفع طاقاتها الإلهية التي تعمل كمؤثر عكسي ضد تأثيرات الميل إلى العصيان. وهنا تلمع النعمة البادئة كمُقوِي للأداء الأصلي لحرية الإرادة عند الإنسان (أي الاختيار الحر)، من دون أن تدفع أو تُجبر هذه الإرادة الحرة على اتجاه محدد. فالنعمة البادئة هنا تحمل الطاقات الإلهية التي تُعيد فقط تشغيل ترس الإرادة للاختيار الحر، بماهية معجزية بواسطة الطاقات الإلهية، من دون أن تدفع هذا الترس في اتجاهٍ إجباري. وهكذا تظل نعمة الله هي البادئة دائمًا، ويظل الإنسان مسؤولاً مسئولية كاملة عن اختياره. فإذا لم يختر المسيح، فإنه سيظل قابعًا في حالة الرفض وفقدان مجد الله، الحالة التي إذا استمرت حتى موت الإنسان؛ فإنه بالتأكيد سيهلك هلاكًا أبديًا.
تبعًا لوسلي، فإن النعمة البادئة في العهد الجديد – بناءًا على تجسُد الكلمة – تظهر عاملة مع كل إنسان منذ تكونه في رحم أمه. فتجسد الكلمة قد وفر أساسًا وجوديًا لاستقبال طاقات النعمة البادئة المُحررة للإرادة بقدرٍ ما – وهذا إظهار عام للنعمة (كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ/ يو١: ١٠). فقد صار متاحًا لكل إنسان/للإنسانية مقدارًا من النعمة يكفي لتمكين الإنسان من اتخاذ القرار بإرادة حرة، أيًا كان القرار. وفي هذا السياق تظهر النعمة البادئة كمُعامِل إصلاح أنثروبولوجي جوهري (للإنسانية)، وهذا لائق جدًا بمقام نعمة ربنا يسوع المسيح الكلمة المتجسد.
دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يناير ۲۰۲١

1 فكرة عن “التقليد الوسلي (٣) – الجزء الثاني – النعمة البادئة والطاقات الإلهية المُمَكِنَة”

  1. فبالتبرير يصبح الإنسان بريئًا أمام الله،
    Conversion and become born again
    وبالتقديس التام يصبح الإنسان مشفيًا على صورة الله.
    Second blessing of Holy Spirit

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.