التقليد الوسلي (٥) – الجزء الثالث – الأبدية والزمن: وسلي والآباء في ضوء فيزياء أينشتاين

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، تحدثنا في الجزأين الأول والثاني من هذا المقال – وهو العاشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – حول الفهم الوسلي لعلم الله المُطلَق/الكُلي واتساقه مع أصالة حرية الإرادة الإنسانية، رغم التعارض الظاهري الشائع بينهما. ورأينا كيف أن مركز فهم تناغم هذه الثنائية يكمُن في فهم اختلاف جوهر الزمن الإلهي بأبعاده الأبدية الآنية، عن جوهر الزمن الإنساني بأبعاده كماضي وحاضر ومستقبل. فبينما يُرى/يُختبَر الزمن من الجانب الإنساني في تتابع أبعاده الثلاثة – ماضي، وحاضر، ومستقبل – (Sequential)، فإنه – أي الزمن – يُرى/يُختبر من الجانب الإلهي كدفقة واحدة – أو نبضة مفردة (Single Pulse) – تفاصيلها متزامنة/ في تزامن (Synchronization)، وكلها حاضرة “الآن” بالنسبة لله في زمنه الآني.

عرضنا في الجزأين السابقين فكر وسلي وفلسفة “بوئثيوس” (٤٧٧ – ٥٢٤ م.) كنموذج لهذا الفهم. وفي هذا الجزء، نعرض نماذج أخرى من آباء الكنيسة الذين عبَّروا عن نفس المنهج. كما نختم هذ المقال بقراءة في فيزياء أينشتاين تبرهن صحة إمكانية التباين/الاختلاف المُشار إليه في اختبار الزمن في عالمنا باختلاف السياقات الزمكانية، لنُثبِت أنه إذا كان الاختلاف في تذوق الزمن ورؤية الأحداث قائم ومحسوب بحسابات فيزيائية بالنسبة للعالم المخلوق، فكم بالحري تكون واقعية الاختلاف/التباين بين العالم المخلوق والواقع الإلهي السرمدي في تذوق الزمن ورؤية الأحداث! والذي عند إدراكه، ولو بشكلٍ جزئي، يتيسر لنا فهم التناغم بين علم الله المُطلق وأصالة حرية الإرادة الإنسانية.

الأبدية والزمن في فكر الآباء

القراءة البسيطة لفكر آباء الكنيسة توضح أنهم لم يجدوا أي تعارض بين الإقرار بعلم الله المُطلَق/ المُسبق، ومسئولية الإنسان عن قراراته وأصالة حريته. فنجد، مثلاً: يوستين الشهيد (١٠٠ – ١٦٥ م.) يوضح اتساق البُعدين معًا في دفاعه الأول. كما نجد إيريناوس (١٣٠ – ٢٠٢ م.) يدافع عن نفس الرأي، معطيًا مفتاحًا للفهم من خلال إيضاح أن الله – تبارك اسمه – كائنٌ دائمًا في فورية آنية، وأن تقسيمات الزمن (ماضي، حاضر، مستقبل) لا يمكن أن تُنسَب إليه، أو – بكلمات أخرى، كما أشرنا سابقًا – فإن الله يرى الزمن بأحداثه المتتابعة (بالنسبة لنا) كدفقة واحدة آنية، كل أحداثها متزامنة، رغم أنها تُختَبَر في عالمنا بتتابع طبيعي بالنسبة لنا، وهذه المفارقة موجودة بسبب الاختلاف في تذوق/اختبار الزمن بين الخالق والمخلوق، مما سيتضح بشكلٍ أفضل عند حديثنا عن التفسيرات الفيزيائية الحديثة لتباين أبعاد تذوق الزمن بتنوع السياقات المختلفة

وهذا ما يؤكده أيضًا إكليمندس السكندري (١٥٠ – ٢١٥ م.)، إذ يوضح أن الأبدية (السرمدية الإلهية) تعرِض في لحظة واحدة المستقبل والحاضر والماضي الإنساني. فالله – تبارك اسمه – يرى الزمان من حاضر مستمر، بصفته الكائن فوق الزمان والمكان، لأنه خالقهما. وبحسب إكليمندس أيضًا، فإن الزمان مُحاطٌ بالسرمدية الإلهية، مما يستحيل معه تطبيق التتابعية الزمنية الطبيعية على عالم الألوهة. فالماضي والحاضر والمستقبل هم أبعاد زمنية مصنوعة لتُعرَّف من خلالها، وتُنسَب إليها، حركة المخلوقات وتطور الأحداث في عالمنا، لكن بالنسبة لله، هي موجودة في تزامن لحظي، لأن الله فوقها كلها. ويستفيض غريغوريوس النيصي (٣٣٥ – ٣٩٥ م.) في شرح هذه النقطة أيضًا، كما يذكر البروفيسور لورينس وود – أستاذ الدراسات الوسلية الشهير بكلية لاهوت أسبوري – في قراءته للنيصي، إذ يوضح أن الزمان والمكان مخلوقان بواسطة الخالق لتعيين باقي المخلوقات، ومن المستحيل أن توجد مخلوقات في العالم المرئي حرة من هذا التعيين. بينما في عالم الألوهة، فالخالق فوق كل مخلوقاته، بما فيها الزمان والمكان اللذان يظهران من المنظور السرمدي كآنية/أوعية تحمل الوجود الإنساني، بينما تحيط الأبدية/السرمدية الإلهية بالزمكان المخلوق من كل جهة. لذا، يُرَى الوجود المخلوق كله فوريًا/ آنيًا من المنظور السرمدي من دون تدخل جبري في أحداثه. إمكانية الاختلاف في تذوق/ اختبار الزمن، والتباين في زمن رؤية نفس الأحداث من حيث التتابع أو التزامن، تؤكده وتفسره نظريات الفيزياء الحديثة بوضوحٍ شديد كما سنرى لاحقًا.

إكليمندس السكندري (١٥٠ – ٢١٥ م.)

فيزياء أينشتاين وفهم الاختلاف في تذوق/اختبار الزمن في العالم المخلوق

شكَّلَت فيزياء ألبرت أينشتاين (١٨٧٩ – ١٩٥٥ م.) ونظرية النسبية قفزةً عظيمةً في فهم أبعاد الزمن، وتباين اختباره من سياق لآخر. فعوضًا عن فيزياء نيوتن (١٦٤٢ – ١٧٢٧م.)، التي عرَّفت الزمن كثابت كوني مُستقل، في انفصال عن المكان، ورأت دقات الساعة (Clock Ticking) كوحدة ثابتة تشكل أساس ما يمكن تسميته بالساعة الكونية (Universe’s Clock)، والتي لا تتغير عبر الكون بأفلاكه المترامية الأطراف تبعًا لمنظومة الفيزياء القديمة، جاءت فيزياء أينشتاين لتوضح خطأ هذه المنظومة، وتؤكد أن الزمن نسبي، وأن الشيء الوحيد المُطلَق هو سرعة الضوء (حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية، حتى مع اختلاف مصدره سواء ثابت أو متحرك/ أي أن سرعة الضوء ثابتةٌ حتى مع تغير المرجعية المكانية)، وأنه لا يُمكن تعريف الزمن إلا في علاقته مع المكان، فيما يعرف بنسيج “الزمكان” ونظرية النسبية (Space-Time Relativity Theory). إذ أثبت أينشتاين من خلال أبحاثه – والتي تؤكد التجارب العملية حتى يومنا هذا صحتها ودقة نتائجها– أن مرور حركة الزمن يتم بإيقاعات غير مُوَحَدة – أو غير متطابقة – تختلف باختلاف السياقات الزمكانية المتنوعة، وذلك بحسب سرعة الجسم المُتحرك في الفضاء والذي تُقاس الحركة بالنسبة له.

وللتبسيط، يمكننا القول: أنه بحسب أينشتاين، نحن نتذوق الزمن بالنسبة لحدث ما على الأرض بحسب زمن الأرض (الذي يتوقف على حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، كما أشرت سابقًا)، بينما المُسافر بصاروخ في الفضاء بسرعة تقترب من سرعة الضوء، سيختبر الزمن بمرجعية مختلفة تتوقف على سرعته في الفضاء، وهذه المرجعية المختلفة تجعل الزمن (دقات الساعة) تتباطيء بالنسبة له، والزمن يمر أبطأ من مروره على الأرض، فيما يُعرف في الفيزياء الحديثة بظاهرة تباطيء الزمن (Time Dilation). فكلما زادت سرعة الجسم المتحرك، تباطيء زمنه بالنسبة لنا. وصارت دقة ساعة الجسم المتحرك أطول من دقة ساعة الجسم الثابت أوالجسم المتحرك الأقل في السرعة، وبالتالي فإن “يوم” الجسم المتحرك بسرعةٍ تقترب من سرعة الضوء (أو تساويها أو تفوقها نظريًا)، قد يساوي عدة أيام أو سنين بالنسبة لزمن الجسم الثابت أو البطيء. ومن هنا قدّم أينشتاين ما يُطلق عليه “متلازمة التوأمين”، والتي تؤكد أنه إذا سافر أحد توأمين في الفضاء بسرعة تقترب من سرعة الضوء، وتُرِك توأمه على الأرض، فإن الأخ الذي سافر في الفضاء عند عودته على الأرض سيكون عمره أقل من عمر توأمه الذي بقى على الأرض، إذ مضى الزمن متباطئًا في سياق السرعات العالية عنه في سياق كوكب الأرض.

وما أود التركيز عليه هنا هو المبدأ – المُثبت من خلال قوانين الفيزياء – الذي يُقر بإمكانية تباين واختلاف اختبار أو تذوق نفس الفترة الزمنية بالنسبة لشخصين/كيانين يتحركان بسرعتين مختلفتين، بحيث أن زمن الأسرع يبدو مُحتويًا لزمن الأبطأ، أو محيطًا به بشكلٍ ما، حيث أن وحدة زمن الأسرع قد تمّ تمديدها (تبدو وكأنها قد مُطَّت)، بسبب سرعتها، فصارت قادرة على احتواء وحدة زمن الأبطأ دون العبث بتتابع أحداث الأبطأ. ومن هنا – بالقياس مع الفارق – يمكن المحاجاة بأنه إذا كان هذا التباين موجود ومُثبت في عالم المخلوقات، فكم بالحري يكون التباين بين اختبار الزمن بالنسبة لنا ولله! أي أنه إذا كان المخلوق المتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء يمكنه رؤية آخر على الأرض رؤية تكاد تحتوي وتحيط بتتابع أحداث سياق هذا الآخر، فكم بالحري رؤية الساكن في نور لا يُدنى منه لخليقته وما يحدث من أحداث في العالم المخلوق!

ولإيضاح أكثر للفكرة السابقة، أقدم مثالاً ختاميًا، يعرض شرحًا لأبعادٍ أخرى من نظرية أينشتاين، وأربط هذا المثال بتباين اختبار الزمن إلهيًا وإنسانيًا. من المعروف أن رؤيتنا للأشياء تتم بفعل الضوء الصادر أو المنعكس من الأشياء، وهذا الضوء يتحرك بسرعةٍ ثابتة: ثلاثمائة ألف كم/ث، كما سبقت الإشارة. بفرض وقوف شخص ما على كوكب ليرصد جسم متحرك تجاهه من كوكب آخر. المسافة بين الكوكبين تساوي ثلاثمائة ألف كيلومتر (نفس المسافة التي يقطعها الضوء تقريبًا في ثانية). إذا بدأ الجسم في الحركة من وضع الثبات في كوكبه باتجاه الكوكب الآخر بسرعة تُقدَر بسرعة الضوء (ثلاثمائة ألف كم/ث)، فهذا يعني أنه سيصل لمكان المُراقِب بعد ثانية واحدة، بينما صورته في وضع الثبات (أثناء الاستعداد للانطلاق) أيضًا ستصل لعيني المراقب بعد ثانية واحدة (وهي المدة الزمنية التي قطعها الضوء ليسافر من الكوكب الأول، ليصل إلى عين المراقب على الكوكب الثاني، فيُمكِنُه من الرؤية). أي أن المراقب سيتمكن من رؤية الجسم في مكانه الأصلي، وفي مكانه الجديد (عند الوصول إليه)، في نفس اللحظة. أي أن الحدثين المتتابعين (ثباته منذ ثانية استعدادًا للانطلاق، ووصوله بعد ثانية لمكان المراقب) تمت رؤيتهما معًا متزامنين بواسطة المراقب، نظرًا لاختلاف السرعات ولوجود المراقب في سياق زمكاني مختلف! فمع أن تتابع الأحداث الأصلي لم يتغير، لكن مشاهدتهما تمت في دفقة واحدة بتزامن، أو بتعبيرٍ آخر؛ فإن الزمن رغم مروره بشكلٍ طبيعي في سياقٍ ما بداخل إطار زمكاني محدد، إلا أنه قد توقف في سياق زمكاني آخر، وجُمعَت مشاهدة الأحداث في دفقة واحدة. من الواضح جدًا أن هذا الطرح يدعم فكرة عدم تناقض تتابع الأحداث في الزمن الإنساني، مع آنية وفورية مشاهدتها في الزمن الإلهي. فإن كان هذا مقبولاً رغم محدودية العالم المخلوق، فكم بالحري تكون إمكانيته في السرمدي! أما إذا فرضنا الفرض المستحيل تحقيقه عمليًا – وهو تجاوز سرعة الجسم المتحرك لسرعة الضوء – فإن هذا يجعله يصل لمحطة الوصول قبل وصول صورته في وضع الثبات للمراقب، ومن ثمّ يمكنه التحرك في ماضيه – وهو الاحتمال المستحيل عمليًا في عالم المخلوقات – ولكن قد لا يوجد مانع من افتراضه متاحًا في السرمدية الإلهية، مما يعطي تأكيدًا لواقعية محو الخطايا للتائبين، وواقعية معجزات الاسترداد التي تغير خرائط حياة المؤمنين برب الفداء. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أغسطس ۲۰۲١

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.