القراءات الأساسية:
"وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلَامٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ ، صَلَاحٌ ، إِيمَانٌ ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ..."
(غلا ٥: ٢٢، ٢٣)
– الكلمة (تعفف) في الأصل اليوناني يمكن ترجمتها (ضبط النفس- زهد- اعتدال)… وهي تعطي في الأصل معنى المنع، والاجتهاد في السيطرة على النفس.
نظرًا لأن المعنى اليوناني لا يحمل سوى معاني المنع والزهد، فإن الكثيرين لا يعرفون عن ضبط النفس سوى أنه اجتهاد منع (راجع درس النعمة والاجتهاد: /https://heavenuponearth.com/Link)…. وهذا بالطبع معنى صحيح، ولا يستطيع أي دارس للعهد الجديد أن يتجاهله.. فبولس نفسه يؤكد هذا المعنى في رسالته الأولى إلى كورنثوس، والإصحاح التاسع، من العدد ٢٤ إلى ٢٧، إذ يقول:
“ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون ولكن واحدًا يأخذ الجعالة. هكذا اركضوا لكي تنالوا. وكل مَن يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلا يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى. إذا أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين. هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء. بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا..”
– وعلى الرغم من هذا المعنى الواضح الذي يجعلنا ننظر لضبط النفس على أنه احتهاد منعي، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن ضبط النفس أو التعفف هو أحد ثمار الروح القدس.. أي أنه ثمرة تظهر فينا وتنمو وتنضج بفعل الامتلاء بالروح القدس.. وهذا يضع ضبط النفس ضمن الاجتهاد الإيجابي أيضًا، وليس فقط الاجتهاد المنعي.
(ملحوظة: الاجتهاد الإيجابي هو اجتهاد الإنسان بالروح القدس لفعل أشياء معينة مثل الصلاة وقراءة الكلمة… أما اجتهاد المنع أو الاجتهاد المنعي فهو اجتهاد الإنسان بالروح القدس ليمنع نفسه عن فعل أشياء مثل الهروب من الشهوات الشبابية وتجنب المحادثات الغبية…)
وهذا يعني أن ضبط النفس لا يعني فقط أني أمنع نفسي عن أشياء، ولكن يعني أيضًا أني أجتهد لضبط نفسي لكي أفعل أشياء أخرى تجعلني ممتلئ بالروح، فينتج عن هذا الامتلاء بالروح مقدرة حقيقية على ضبط النفس كزهد ومنع واعتدال بحسب قلب الرب!! ولتقريب هذا المعنى، نأخذ الجهاز المناعي في الجسم كمثال: الجهاز المناعي في الجسم وظيفته الأصلية منعية، أي أن يمنع الميكروبات والفيروسات التي تهاجم الجسم من أن تصنع أي أذى لجسم الإنسان. ولكن على الرغم من أن وظيفة هذا الجهاز هي وظيفة منعية من الطراز الأول، إلا أن ما يجعل هذا الجهاز يعمل بكفاءة هو نوعية الغذاء والتغذية الصحية للجسم.. أي أن رغم أن وظيفة هذا الجهاز منعية، إلا أنه يعمل بكفاءة من خلال عمليات إيجابية مثل التغذية الصحيحة…
– هكذا ضبط النفس أو التعفف، فعلى الرغم أنه اجتهاد منعي، إلا أنه يعمل بكفاءة من خلال عمليات وأفعال إيجابية، وهذا ما أطلق عليه ضبط النفس الإيجابي..
– ضبط النفس الإيجابي: ليس إني فقط أضبط أو أمنع نفسي عن أشياء، لكن إني أفعل أشياء أخرى، يكون نتيجة فعلها هو إني أجد قوة روحية حقيقية بداخلي تساعدني لأسيطر على نفسي في الأشياء التي أريد السيطرة عليها بالمنع أو الزهد أو الاعتدال..
– مركزية عمل دم المسيح في ضبط النفس: دم الرب يسوع هو قوة حقيقية تضبط قوى النفس. الإيمان بعمل الدم الثمين في التقديس يجعل النفس تنفتح على قوة الروح لضبط النفس.
– عدم إدراك هذه الحقائق يجعل كثير من المؤمنين ينهزمون في دائرة ضبط النفس، إذ أنهم يركزون على الجانب المنعي، ويجتهدون في مرات وبأمانة لكي يمنعوا أنفسهم من أشياء، ولكن يجدوا أنفسهم غير قادرين على الاستمرار، وذلك لأنهم لم يسلكوا في جانب ضبط النفس الإيجابي (الموازي للتغذية في جسم الإنسان)… وهذا يشبه جسم إنسان يريد أن يُشغِل جهازه المناعي بأقصى طاقة ولكن بدون أن يأخذ كفايته من التغذية السليمة!!… وذلك لأنهم لم يدركوا أن ضبط النفس هو عملية ضبطية حقيقية تشمل اجتهاد إيجابي يُضاف فيه قوة للإنسان الباطن تظهر نتيجته في نجاح الاجتهاد المنعي!!..
– لتوضيح هذه الفكرة أكثر، سنأخذ عدة أمثلة لجوانب في حياتنا ودوائر نحتاج فيها لضبط النفس. وسنرى كيف أن ضبط النفس الإيجابي يساعد حقًا في ضبط النفس المنعي.
وبصفة عامة يمكننا تقسيم الأمور التي نحتاج فيها لضبط النفس في حياتنا إلى:
– الحواس والوظائف: فجميعنا يحتاج إلى ضبط حواسه، كضبط النفس فيما نسمعه، وفيما نراه ونشاهده خاصة مع وجود القنوات الفضائية والانترنت، وكضبط النفس فيما نقوله ونتكلم فيه…
– الانفعالات والغرائز: فجميعنا يحتاج إلى ضبط انفعالاته، كضبط النفس في انفعالات الغضب والحزن، وجميعنا يحتاج إلى ضبط النفس في الغرائز كالجوع والجنس…
– ما فوق الخط اليومي الطبيعي: فجميعنا يحتاج إلى ضبط النفس في احتفالات الزواج، وأعياد الميلاد، وحفلات وداع الأصدقاء قبل الهجرة، واحتفالات النجاح والتخرج…
– الأحلام المستقبلية ورؤية الهوية والتعبير عنها: ما نحلم به لأنفسنا ولعائلاتنا يحتاج أن يُضبط بالروح القدس… رؤيتنا لهويتنا الشخصية ولهوية عائلاتنا، والتعبير عن هذه الهوية يحتاج أيضًا أن يكون منضبطًا بالروح القدس.
أمثلة على ضبط الحواس والوظائف:
– السمع: لكي تُضبَط الأذن لمنعها عن سماع أحاديث النميمة، أو القصص التي لا تخص السامع، أو الكلام القبيح… إلخ لابد أن تُضبَط الأذن على سماع صوت الله باستمرار.. والتدريب على سماع صوت الله يبدأ بالتركيز اليومي على علاقتي بكلمة الله، بالكتاب المقدس.. فمن خلال قراءتي للكتاب المقدس، سيبدأ إنساني الداخلي يدرك صوت الرب ويعرفه ويميزه.. وهذا سيجعلني قادرًا على تمييز صوت الرب عندما يكلمني في قلبي حتى وسط ضوضاء الحياة اليومية… وعندما تُضبَط أذني ضبطًا إيجابيًا.. وتمتلئ يوميًا من سماع صوت الرب.. الصوت الحلو الرقيق المُشبع.. سأجد قوة في داخلي لرفض سماع أي أمور سلبية.. فالأذن التي امتلأت بكلمات الرب، لا تحتاج ولا تجوع لأي كلمات ليس لها نفع… وسأجد أن ضبط نفسي فيما أسمعه صار أسهل.. بل أنّ في مرات سأسمع صوت الروح مُحذرًا لي من أحاديث سلبية قبل حتى أن تبدأ، وسأجد بداخلي القوة لتجنبها..!!
– النظر والمشاهدة: لكي تُضبط العين لمنعها عن النظر لاشتهاء ما للآخر، أو لمنعها عن التركيز في رؤية المشاهد الإباحية.. إلخ
لابد أن تضبط العين على رؤية الله، أو كما يسميها الآباء انفتاح العين للرؤية والتأمل أو الثيئوريا.. العين المُدربة على رؤية الله في الصلاة القلبية، تستطيع أن ترفض بسهولة رؤية أمور العالم، وتستطيع أن تحيا في انضباط حقيقي…
كم نحتاج في هذه الأيام أن نُشفَى داخليًا، بالشبع من الرب شخصيًا… كم نحتاج أن نتأمل حضوره ونسمع صوته، ونتحدث معه.. فتُشفَى حواسنا.. ونجد ثمرة ضبط النفس ظاهرة فينا بالروح… آه يا رب اشفني فأشفى.. توبني فأتوب…
أمثلة على ضبط الانفعالات والغرائز:
الغضب: الغضب هو انفعال يُظهره الانسان تعبيرًا عن القوة الغضبية الداخلية. والقوة الغضبية هي قوة داخلية في النفس ليس لها علاقة بالسقوط، بدليل أن المسيح كان يغضب، إذ يخبرنا الكتاب أن الرب يسوع “نظر حوله اليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم” (مر٣׃ ٥).. كما أظهر المسيح غضبه في الهيكل عندما طرد الباعة والصيارفة.
وأظن أن آدم وحواء قبل السقوط كان يمكنهم أن يغضبا على الحية عندما نسجت خطتها لتسقطهما!!
ضبط القوة الغضبية: بتوجيهها في الاتجاه الصحيح.. غضب على الخطية، وعلى محاولات العالم لاقتناص المؤمن.. غضب على العدو يظهر في الحرب الروحية.
الجنس: رغبة عميقة في الاتحاد بآخر.. هذه الرغبة تُضبَط باتحادي مع الله… يقسم بعض الآباء واللاهوتيين الصلاة إلى مستويين، الأول مستوي الطلب والسؤال، والثاني مستوى الاتحاد..
مَن يختبر الاتحاد بالله، يصير قادرًا على ضبط رغبته في الاتحاد بآخر…
ما فوق الخط اليومي الطبيعي:
هل أختبر الفرح الفائض في محضره؟ هل أشبع بالفرح وأُغمَر حتى أصير محمولاً بالروح؟! هل فاض فرحه في داخلي في مرات حتى الرقص؟!
الأحلام المستقبلية ورؤية الهوية والتعبير عنها:
هل أرى هويتي الحقيقية في محضره كملك وكاهن؟ هل أرى عائلتي وأفراد بيتي بهويتهم الروحية الحقيقية؟ (راجع: استعلان الهوية والامتلاك: /http://HeavenUponEarth.com/link)
هل انفتحت عيناي في مرات لأدرك الجود الذي يذخره الرب لمستقبلي ومستقبل عائلتي؟؟؟؟
يا سيدي الرب… كم أحتاجك!! حقًا كم أحتاجك!!
أنت الضابط الكل.. لا يعسر عليك أمر!!
ها أنا أمامك لتضبطني..
املأني بروحك.. فيُثمر روحك القدوس فيّ تعفف..ضبط نفس..
اجذبني لأوقات أقضيها معك..
أسمعك.. فتُضبَط أذناي.. أراك.. فتنضبط عيناي..
أتكلم معك إلهي.. ويصبح روحك حارسًا لشفتاي..
أتحد بك… فلا أجوع لآخر..
ويصبح اتحادي بالآخر.. عطــاء.. وليس أخذ!!
أفرح بك.. وأرقص في محضرك مثل داود!!
أراني بعينيك.. فلا أعطش لهوية أخرى..
أرى مستقبلي بعينيك.. فأثــق وأفرح وأسلمك الكل..
يا مَن أحببتني حبًا عظيمًا ليس له حدود..
أعطني أن أحبك، وأضبط نفسي لأجلك..
لأنك ذقت الموت لأجلي..
كي لا أعيش فيما بعد لنفسي.. لكن لك..
أحبك يا سيدي.. لا أخرج حرًا…