التقليد الوسلي (٧) – الجزء الثاني – على طريق الخلاص وبرهنة العقائد اللاهوتية: التقديس التام وهيمنة النور

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، في الجزء الأول من هذا المقال، وهو الثاني عشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية، استعرضنا بعضًا من ملامح رحلة الخلاص – بحسب التقليد الوسلي – من خلال إلقاء الضوء على التبرير والولادة الجديدة باعتبارهما بوابة طريق الخلاص. في هذا الجزء الثاني، ومن بعده الثالث، أمضي معك قدمًا، عزيزي القاريء، في حديثنا حول خريطة طريق الخلاص (Via Salutis/ The Way of Salvation)، من خلال إلقاء الضوء على التقديس التدريجي الذي يبدأ مع لحظة التبرير، ويرتبط جوهره بجوهر التبرير الإيجابي، وصولاً إلى اختبار التقديس التام الذي يصاحبه انتزاع جذر الخطية وهيمنة النور على كيان الإنسان الذي تقدس، ثم صعودًا في التقديس التدريجي مرة أخرى للآفاق العليا التي تميز مستويات الكمال المسيحي، وختامًا بتقديم لمحة عن تمجيد الأجساد حيث استكمال استعلان الخلاص الذي صنعه الرب يسوع المسيح له المجد وأتمه لنا. وكما أوضحت في الجزء الأول من هذا المقال، فإن استعراضنا لملامح خريطة طريق الخلاص، بحسب التقليد الوسلي، سيؤول بنا لرؤية واضحة تؤكد على حتمية برهنة العقيدة من خلال حياة الإيمان، ومن ثم تجسيد المصالحة المرجوة بين حياة الإيمان (الروحانية)، والتعبير عنها لاهوتيًا في عقائد (علم اللاهوت).

التبرير بمنظوره الإيجابي والتقديس التدريجي

كما أشرت في مقالات سابقة، فإن مفهوم التبرير في التقليد الوسلي يظهر كعملة لها وجهان متلازمان: الوجه القانوني والوجه الكياني – “بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ” (رو٣: ٢٢). فبالإيمان بالمسيح، ينال الإنسان برًا محسوبًا/منسوبًا (Imputed Righteousness)، يرتديه كرداء عليه، فُيرى بريئًا – في المسيح – بشكلٍ قانوني من حكم الموت. وبقبول المسيح، ينال الإنسان أيضًا برًا مُطعمًا/ممنوحًا/مغروسًا (Imparted/Infused Righteousness) ينساب إليه كعصارة الكرمة من الأصل يسوع المسيح، فيصير الإنسان بارًا – يصنع البر – ويتم فيه المكتوب: “إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ بَارٌّ هُوَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ الْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ” (١يو ٢: ٢٩). والحقيقة، فإنه لا فارق بين وجهي البر في جوهرهما؛ فكلاهما – البر المحسوب والمغروس – مصدرهما واحد، وهو شخص الرب يسوع المسيح، الذي نقبله بالإيمان، والذي صار لنا هو بنفسه برنا! فالبر الذي نقبله للصفح عن الخطايا السالفة، هو نفسه البر الذي يُغرَس فينا – كترياق للشفاء من لدغة الحية القديمة – ويُنتج فينا برًا عمليًا. “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رو٣: ٢٤ – ٢٦). وبالتالي، فقبول بر المسيح للغفران عن الخطايا السالفة، هو نفسه قبول بره الذي يُصيرنا أبرارًا، ويشفينا من تأثيرات لدغة الموت. لذا، لا مكان لقبول ذهني – بشكل حصري – للبر في التقليد الوسلي؛ فقبول حُكم البراءة يصاحبه – كشرط ضروري – بداية استعلان الشفاء من خلال جعل الإنسان بارًا.

هذا المفهوم الإيجابي للبر يدخل بالإنسان إلى حياة التقديس التدريجي بدءًا من اللحظة الأولى للتبرير والولادة الثانية، ولكن – بحسب التقليد الوسلي – هذه هي فقط بداية الطريق، الذي ينبغي أن يمضي فيه الإنسان وصولاً إلى اختبار التقديس التام، الذي بدوره يُعَد مدخلاً لحياة تقديسية تَدرُجِية أخرى، وهي حياة الكمال المسيحي. ولكن، مبدئيًا، قبل الخوض في التفاصيل، ينبغي التأكيد على أنه بالرغم من تنبير وسلي على أن اختبار التقديس التام يناله الإنسان بالإيمان في لحظة محددة (مثله مثل اختبار التبرير والولادة الجديدة)، غير أن وسلي يُنبر أيضًا، وبشدة، على عمل النعمة التقديسي التدريجي في حياة الإنسان قبل اختبار التقديس التام وبعده. فبحسب اللاهوت الوسلي، عمل النعمة التدريجي في التقديس يبدأ عند لحظة الولادة الجديدة، ويستمر في التصاعد إلى أن يصل لاختبار التقديس التام في لحظة محددة بالإيمان، هذا الاختبار الذي به يبدأ الإنسان في الدخول إلى حياة الكمال المسيحي، ليتابع نموه التدريجي في القداسة. لذا، فمبدأ الاستمرارية في النمو في القداسة، قبل اختبار التقديس التام وبعده، هو أحد المباديء الوسلية الأصيلة.

والآن، السؤال البديهي الذي لعله يتبادر إلى ذهن القاريء الكريم هو: إذا كان التقديس تدريجيًا قبل اختبار التقديس التام وبعده، بحسب وسلي، فما الذي يضيفه هذا الاختبار؟ وما أهميته؟ وهذا ينقلنا إلى الحديث عن طبيعة اختبار التقديس وجوهره وأهميته بحسب الفكر الوسلي.

اختبار التقديس التام، وهيمنة النور، والنصرة الكاملة على الإنسان العتيق

لفهم ماهية اختبار التقديس التام في التقليد الوسلي، نبدأ من الإشارة إلى ما يسميه الكتاب المقدس “الإنسان العتيق”، إذ يقول في رسالة رومية: “عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ” (رو٦: ٦). يُنظَر، بحسب الفكر الوسلي، إلى صلب الإنسان العتيق مع المسيح، كأحد مواريث الخلاص التي أتمها الرب بشكلٍ موضوعي على الصليب، والتي ينبغي أن تتحول إلى واقع مُعاش بشكل كياني في حياة المؤمن. فكما أن الرب يسوع قد حمل الخطية على الصليب، ليحصد الإنسان غفرانًا وتبريرًا عند الإيمان بما أتمه الرب لأجله، هكذا أيضًا تمّ صلب العتيق وموته بموت الرب على الصليب كميراث خلاص موضوعي، ينبغي أن يُستَلَم كيانيًا في حياة المؤمن فيما يُشكِل جوهر اختبار التقديس التام. فالتقديس التام هو استعلان كياني في حياة الإنسان المؤمن لما أتمه الرب في الصليب من إنهاء لنشاط الإنسان العتيق وإماتة له، فيما يُشكٍل انتزاع/استئصال (Eradication) لجذر الخطية من كيان الإنسان، وهيمنة للنور على كل دوائر نفس الإنسان. ولإيضاح هذه المفاهيم بشكل أعمق، سأستفيض في شرحها فيما يلي باستخدام تعبيرات الطاقة والنور.

بالنسبة للتقليد الوسلي، الإنسان صار مُظلمًا تمامًا بالسقوط – “لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلًا ظُلْمَةً” (أف٥: ٨) – وفاسدًا فسادًا كليًا. وينظر دارسو التقليد الوسلي إلى الفساد الكلي على أنه تأثير الخطية تأثيرًا كيانيًا على الإنسان؛ ظلمة سادت على الكيان الإنساني بسبب انسحاب النور من تركيب الإنسان بالعصيان. يظهر الكيان الإنساني بتركيب فاقد لطاقة الصلاح والنور بعد الأكل من الشجرة المُحرمة. فما كان يعمل بداخل آدم كطاقة بر نظرًا لاتصاله الروحي مع الله، فُقِد، وحلّ محله فراغ تمّ ملئه على الفور بالميل إلى العصيان، الذي هو هيمنة الظلمة على الكيان الإنساني – روح ونفس وجسد – بسبب انسحاب النور، لسقوط الإنسان في المعصية، واتحاده بآخر تاركًا الرب ووصاياه. وكأنه بفقدان طاقة النور من كيان الإنسان، اختل الميزان الأنثروبولوجي الداخلي، فمال تركيب الإنسان نحو الشر والعصيان. فُقِد النور، وهو ما كان يحفظ للإنسان اتساقه الأنثروبولوجي ككائن مخلوق على صورة الله في البر والقداسة. صار الإنسان كائنًا مُظلمًا بالسقوط! وهكذا، يمكن التعبير عن الفساد، بشكلٍ مُركز، في التقليد الوسلي، بأنه فقدان مُكون (عنصر) النور أو طاقة الصلاح من تركيب الإنسان مما أدى إلى خلل جوهري في ماهية الإنسان، وانتقل هذا الخلل من آدم إلى ذريته، كانتقال المرض من جذر الشجرة إلى أغصانها وثمارها. وصار الإنسان في احتياج، لا إلى إصلاحٍ، لكن إلى جذر جديد للإنسانية! وجاء ملء الزمان، وتجسد ابن الله، يسوع المسيح – النور الحقيقي – ليرد للإنسان النور، ويصنع جذرًا جديدًا للإنسانية بميلاده من العذراء مريم بالروح القدس، ويفتح الباب من جديد ليستعيد الإنسان – كلُ مَن يؤمن – الطبيعة النورانية. ” كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ” (يو١: ٩).

في التبرير والولادة الجديدة – التي هي مدخل الطريق للخلاص – تتدفق الحياة، وينساب النور إلى كيان الإنسان باتصال روح الإنسان بالروح القدس، ويولد الإنسان من فوق. يُستعاد النور وتُرد طاقة الصلاح (المفهوم الإيجابي للبر المغروس) في الميلاد الجديد بالروح القدس، والذي يأخذ مكانه بكيفية روحية في روح الإنسان. يصير الإنسان خليقة جديدة، بأن تولد روحه من الله ولادة جديدة، ويُستعاد النور في روح الإنسان. مع استعادة النور في روح الإنسان، يمتد النور ليؤثر ويضيء غرفًا كثيرة في نفس الإنسان، فيما يُرى كتقديس تدريجي يبدأ – كما سبقت الإشارة – مع الميلاد الثاني. لكن تبقى بعض الغرف مظلمة، ويظهر الصراع بين الخليقة الجديدة والنظام القديم (الإنسان العتيق)، والذي يصفه الكتاب في مواضع كثيرة. ويجد الإنسان بداخله طبيعة قديمة، اعتادها مُهيمنةً قبل ولادته الجديدة، والآن تتحالف مع الشيطان والعالم لتستعيد الهيمنة، لهزيمة الإنسان الجديد المولود على صورة خالقه في البر والقداسة.

في اختبار التقديس التام (Entire Sanctification)، يبدأ – بكيفية كيانية – استعلان المشيئة الإلهية في استعادة الكيان الإنساني بالكامل. “وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (١تس٥: ٢٣). يستقبل المؤمن في هذا الاختبار ما صنعه المسيح على الصليب من نصرة كاملة على الإنسان العتيق، ويتم هذا بالإيمان، من خلال قبول المزيد من قوة (طاقة) الروح، من خلال التكريس الكامل الواعي لكل دوائر النفس الإنسانية. هنا التكريس يزداد عمقه بحسب وعي الإنسان المتنامي بمتطلبات حياة الإيمان من خلال خبرته مع الرب منذ ولادته الولادة الثانية. في اختبار التقديس التام، من خلال تكريس الإنسان لنفسه بالكامل للرب، يُستَقبَل النور في جميع غرف النفس ودوائرها، وبالتالي، تُطرَد الظلمة تمامًا من جميع الغرف، فيما يُعبَر عنه باستئصال الفساد، فاستئصال الفساد ما هو إلا مغادرة الظلمة بالكامل لنفس الإنسان واسترداد النور لجميع اتجاهات القلب والإرادة. وعلى الرغم من دخول النور إلى جميع الغرف، غير أنه ليس من المُحتَم أن تصل جميعها لدرجة التشبع من النور، وهذا يُفسر التقدم والنمو في حياة القداسة بعد اختبار التقديس التام. في الجزء القادم من هذا المقال، أسلط الضوء على ماهية موت الإنسان العتيق وانفصاله عن المؤمن، وعلاقة هذا بالتقديس التدريجي قبل اختبار التقديس التام وبعده. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في نوفمبر ۲۰۲١

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.