المقدمة
القاريء العزيز، في الجزأين الأول والثاني من هذا المقال، وهو الثاني عشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية، استعرضنا معًا بعضًا من ملامح خريطة طريق الخلاص – بحسب التقليد الوسلي – بدايةً بالتبرير والولادة الجديدة باعتبارهما بوابة طريق الخلاص، ومرورًا بالتقديس التدريجي الذي يبدأ مع لحظة التبرير، ووصولاً إلى اختبار التقديس التام، الذي أسهبت في شرحه في الجزء الثاني من هذا المقال من منظور استرداد النور وهيمنته، وطرد الظلمة من النفس الإنسانية. في الجزء الثالث من هذا المقال، أسلط الضوء على الطريق للتمتُع باختبار التقديس التام والثبات فيه، بحسب التقليد الوسلي، وأستفيض أيضًا في شرح هذا الاختبار، في علاقته بماهية موت الإنسان العتيق وانفصاله عن المؤمن، وعلاقة هذا بالتقديس التدريجي قبل اختبار التقديس التام وبعده.
ما بين الإيمان والاجتهاد: الطريق للتمتُع باختبار التقديس التام والثبات فيه
كما أشرت سابقًا – بحسب اللاهوت الوسلي – يبدأ عمل النعمة لأجل التقديس التدريجي في حياة الإنسان عند لحظة الولادة الجديدة، ويستمر تصاعديًا، إلى أن يصل إلى اختبار التقديس التام، الذي يُدخِل الإنسان إلى حياة الكمال المسيحي، والتي يستمر فيها الترقي والنمو في حياة القداسة بلا توقف، طالما يحيا الإنسان الذي تقدس غُصنًا ثابتًا في الكرمة، التي هي الرب يسوع المسيح بنفسه.
وقبل أن أخوض في ماهية اختبار التقديس التام من حيث علاقته بموت الانسان العتيق والانفصال عنه، أود أن أشير إلى بعض الملاحظات الأساسية حول الطريق للتمتُع باختبار التقديس التام نفسه. بالنسبة لوسلي، فإن الاجتهاد في ممارسة وسائط النعمة والتلمذة الروحية، بعد نوال الولادة الجديدة، هو ملخص خارطة الطريق للوصول إلى اختبار التقديس التام، ومن ثم الدخول إلى حياة الكمال المسيحي. وكما يوضح البروفيسور راندي مادوكس – أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة ديوك بشمال كارولينا – فإنه يمكن تلخيص فهم وسلي لحياة المؤمن على أنها “اقترابٌ مسئولٌ من النعمة التي يعطيها لنا الله، والتلمذة الروحية فيها هي أمر أساسي لعملية النمو الروحي”. ولكن، بالرغم من تنبير وسلي على أن الاجتهاد في ممارسة وسائط النعمة هو الطريق لنوال اختبار التقديس التام، غير أن القراءة المتأنية لبعض ما كتب وسلي توضح أن “الإيمان” هو الشرط الضروري (Necessary Conditionally) لنوال هذا الاختبار. فعلى سبيل المثال، يكتب وسلي: “فإنه تمامًا كما تبررنا بالإيمان، فإننا نتقدس بالإيمان. الإيمان هو الشرط، بل والشرط الأوحد للتقديس” (عظة الطريق الكتابي للخلاص). وفي ضوء هذه العبارة، يمكن القول: أن وسلي يُنبر على الاجتهاد قبل نوال اختبار التقديس التام كشرط لنوال الاختبار، فقط إذا توفر للإنسان معرفة ماهية الاجتهاد ومفرداته معرفةً مستنيرةً – من خلال التلمذة – بعد اختبار الإنسان للولادة الجديدة. ويمكن أن يُنظَر للاجتهاد هنا على أنه المؤشر العملي لجدية إيمان الإنسان بإمكانية تقديسه تقديسًا تامًا، مع الاحتفاظ بالطبع بالتأثير السرائري لمناحي الاجتهاد الروحي في نمو الإنسان. فإذا تَبصر الإنسان بضرورة الاجتهاد ومناحيه بعد نواله لاختبار الولادة الثانية، وتجاهل الإنسان هذه البصيرة، فإنه لا يتقدس تقديسًا تامًا أبدًا؛ إذ أن إيمانه هكذا – بصفةٍ أساسية – مُفتَقِد لبرهان الإيمان العملي، أي الاجتهاد! وعلى الجانب الآخر، إذا اجتهد الإنسان في ممارسة وسائط النعمة والتلمذة من دون “إيمان” بأنه سينال اختبار التقديس التام، كما نال اختبار الولادة الجديدة، بفعل قوة النعمة المتأصلة في عمل المسيح الكفاري، فإن هذا الإنسان لا يمكن أن ينال الاختبار، حتى يؤمن!
أيضًا، بالنسبة لوسلي، مع أنه بالإيمان يمكن للإنسان أن ينال اختبار التقديس التام الآن، من غير أن يكون الاجتهاد حاضرًا إذا تعذر الفهم الإعلاني لماهية الاجتهاد، لكن بالتأكيد، بعد نوال اختبار التقديس التام، لا يمكن أن يثبت الإنسان في الترقي في حياة الكمال المسيحي من دون الاجتهاد. وهكذا، فإن الاجتهاد يظهر كشرط ضروري (Necessary Conditionally) للاستمرار في حياة الكمال المسيحي. هذا، ويمكن تقسيم الاجتهاد بحسب وسلي إلى: (١) اجتهاد في أعمال التقوى: والذي يشمل الصلاة والصوم، والانتظام في التقدم للعشاء الرباني، وبحث الأسفار المقدسة، والاجتهاد في الحرب الروحية والصراع ضد الخطية، والاجتهاد في التلمذة والالتزام والخضوع للمحاسبة، (٢) اجتهاد في أعمال الرحمة: والذي يشمل إطعام الجوعى وكساء المحتاجين، وإيواء الغرباء… إلخ. وبالتأكيد، فإنه من الواضح جدًا أن منظومة لاهوتية كهذه لا يمكن فصل عقائدها عن ممارساتها، ولا فصل روحانياتها عن مفردات لاهوتها!
في موكب نصرته كل حين: اختبار التقديس التام وانفصال الإنسان العتيق
والآن بعد إلقاء الضوء على مكانة ثنائية الإيمان والاجتهاد في خريطة طريق الوصول لاختبار التقديس التام، أتناول معك بالشرح، عزيزي القاريء، مفهوم اختبار التقديس التام فيما يخص وضع الانسان العتيق قبل الاختبار وبعده. والحقيقة – كما أشرت سابقًا – فإنه ينبغي أن نعي ماذا يحدث للإنسان العتيق في التقديس التام، من أجل فهم أعمق لماهية حياة القداسة والكمال المسيحي في التقليد الوسلي.
من المعروف أنّ للمسيحي الحقيقي ثلاثة أعداء هم: إبليس وجنوده، والعالم الموضوع في الشرير، والإنسان العتيق، وأنّ الحرب مع هؤلاء الأعداء الثلاثة تبدأ بمجرد أن ينال الإنسان اختبار الولادة الثانية. إحدى الصعوبات المركزية في هذه الحرب – قبل اختبار التقديس – هي أنها حرب معاركها ليست خارجية فقط مُوجَهة من إبليس والعالم، لكنها معارك داخلية مُوجَهة أيضًا من الإنسان العتيق، هذا النظام الداخلي الفاسد الموجود في الكيان الإنساني، والذي اعتاده الإنسان مُهيمنًا عليه تمامًا قبل ولادته الولادة الجديدة. ويسعى هذا العتيق إلى العودة للسيطرة على الإنسان الذي وُلِد من فوق، وذلك بمحاولته للسيطرة على المؤمن من خلال اجتذابه – بالإغراء أو التخويف – لعبودية الخطايا السالفة، وتذكيره بأيام الضعف والخطية والشر، والضغط على المؤمن للخضوع لمفاعيل الفساد، بدلاً من الانفتاح على تيارات الحياة والنور الإلهية المُتاحة له بالروح القدس. وبالتالي، فإن حياة المؤمن في مرحلة ما قبل التقديس التام يصبغها صراع داخلي وخارجي متواصل. وإذ يقترب الأعداء الذين من الخارج – العالم وإبليس وجنوده – ليحاربوا المؤمن، يجدوا لهم سندًا داخليًا – وهو الإنسان العتيق – يتحالف معهم ويعينهم على هزيمة المؤمن. وهكذا، لا يختبر المؤمن الحياة التي يمشي فيها في موكب نصرة الرب كل حين بثبات؛ فتارةً ينتصر، وتارة يُشدد العتيق اتحاده مع الأعداء الخارجيين، فينهزم المؤمن! وقد تستمر هذه الحالة من عدم الاستقرار في حياة القداسة إلى أجلٍ غير مُسمَى، إذ لا يعرف المؤمن امتيازاته في المسيح، وبالتالي لا يحياها!
ولكن، تبعًا للتقليد الوسلي، فإن هذه الحالة من التذبذب لابد أن أن تأتي إلى نهاية، ليختبر الإنسان السير مع الرب في موكب نصرته كل حين بثبات. ونهاية حالة التذبذب هذه تحدث باستعلان صلب العتيق وموته بكيفية كيانية واقعية في حياة المؤمن. ويتحقق هذا من خلال بعدين؛ البعد الأول: وهو الإيمان بصلب الإنسان العتيق وموته مع المسيح، كأحد مواريث الخلاص التي أتمها الرب بشكلٍ موضوعي على الصليب، والتي ينبغي أن تتحول إلى واقع مُعاش بشكل كياني في حياة المؤمن. “عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ” (رو٦: ٦). وهنا تتبرهن مركزية الإيمان كشرط ضروري في اختبار التقديس. والبعد الثاني: وهو اختبار الحضور الإلهي، والذي ينقل من خلاله الروح القدس مفاعيل مواريث الخلاص إلى الإنسان، وهنا التركيز على التقديس التام كأحد أهم هذه المفاعيل. وهكذا، بالإيمان بصنيع الرب الكامل على الصليب، وباستقبال نيران الروح اختباريًا، يتقدس الإنسان تقديسًا تامًا، بمعنى أن العتيق – جذر الفساد – ينفصل انفصالاً تامًا عن المؤمن. يحدث انفصالاً في كلِّ نقاط التماس بين كيان المؤمن وإنسانه العتيق. فنيران الروح تصنع فصلاً مُتقنًا بين القديم والجديد، ويتم المكتوب: “الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ” (مت ٣: ١٢). وهذا هو مفهوم الاستعلان التحققي لموت العتيق في حياة المؤمن: انفصال تام بين كيانه الجديد، وبين النظام القديم بما يحتويه من مشاعر وأفكار واتجاهات، ونيات قلبية… إلخ. وهكذا، فإن استعلان موت العتيق كيانيًا في حياة المؤمن، ليس معناه تلاشي العتيق، اتساقًا مع مفهوم الموت نفسه في الكتاب المقدس، كانفصال وليس تلاشي. فالإنسان يموت حينما تنفصل روحه عن جسده، وتباعًا ينتهي التماس بينهما. هكذا أيضًا موت العتيق هو انفصال تام، ينتج عنه تقديس تام، وبداية لرحلة الكمال المسيحي التي تذهب من مجد إلى مجد. وبالتالي، حينما يشنُّ إبليس وجنوده، أو العالم، معارك ضد الإنسان السائر في رحلة الكمال المسيحي، بعد اختبار التقديس التام، لا يجد هؤلاء الأعداء الخارجيين حليفًا لهم بالداخل. فالعتيق منفصل انفصالاً كليًا، أي فاقد للتأثير بالإغواء أو التخويف. وهكذا، فإن المعارك الروحية تنتقل لبُعد جديد من النصرة الدائمة، فيه الإنسان المُقدَس كمدينة حصينة، مُكمَّلاً كمالاً كيانيًا ديناميكيًا، يذهب من قامةٍ إلى قامةٍ روحية، ويسير في موكب نصرة الرب في كل حين. وإذ يأتي الأعداء، لا يجدوا سوى الهزيمة. فلا استجابة داخلية، إذ عمل موت المسيح في كيان المؤمن عملاً كيانيًا، وصار واقع الإنسان: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ” (غلا ٢: ٢٠)، واختباره اليومي:”وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ” (٢كو ٢: ١٤).
وبالطبع، فإن هذه الحالة العملية من نصرة دائمة – والتي عاشها ويعيشها أتقياء وسط مجتمع أناس الله – يُدركها الإنسان الذي اختبرها عن نفسه، ويرى ثمارها مَن حوله فيه، فتصير العقيدة – التقديس التام والكمال المسيحي – مُتجسدة، وتتجلى المصالحة بين العقائد اللاهوتية والروحانية، تجليًا يجد اتساق جوهره في الإنسان الذي بدأ يحيا بحسب إرادة الله “الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ” (رو١٢: ٢). دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في ديسمبر ۲۰۲١