Heaven Upon Earth Logo

التأله في الفكر الآبائي (بحث مختصر)

مشاركة المقال:

أولاً: المقدمة

"لأن الكلمة تأنس (صار إنسانًا) لكي نصير نحن مُؤلهين"

تعتبر هذه العبارة مدخلاً مناسبًا لموضوع الدراسة في ورقة البحث هذه.
والعبارة منقولة عن أثناسيوس الرسولي[1] في كتابه (تجسد الكلمة).

ويتناول الباحث في ورقة البحث هذه دراسة لمفهوم التأله أو الثيئوسيس في الفكر الآبائي، حيث تشمل الدراسة المعنى المقصود بالتأله في الفكر الآبائي، مع مسح لبعض الكتابات الآبائية المختلفة التي تناولت هذا المفهوم.

كما يعرض الباحث أيضًا نموذجًا معاصرًا لباحث لاهوتي اهتم بهذا الموضوع إهتمامًا خاصًا، وهو المتنيح الأب متى المسكين.

وفي النهاية يعرض الباحث أطروحة خاصة به، ألا وهي محاولة عصرية لفهم علاقة مُستَنتَجة بين فكر التأله في الآبائيات، وفكر القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في اللاهوت الوسلي.

هذا وسوف يقوم الباحث، في هذا البحث، بدراسة الفكرة الأساسية، مُستندًا على إقتباسات آبائية، وكتابات مُعاصرة حول نفس الموضوع. وذلك بهدف الوصول إلى أقرب ما يكون من المعنى الأصلي الذي استخدم به الآباء هذا المصطلح، الثيئوسيس أو التأله، وذلك لإزالة أي حيرة تنتج عن التعامل مع هذا المصطلح.

كما سيحاول الباحث محاولة خاصة للربط بين مفهوم الثيئوسيس ومفهوم الكمال المسيحي، وذلك من خلال بعض الكتابات التابعة للمدرسة الوسلية، قديمة ومعاصرة، ومحاولة ربطها بالكتابات الآبائية.

ثانياً: المقصود بالتأله أو الثيئوسيس:

يرى الباحث أن أفضل طريق لفهم فكر التأله عند الآباء هو فحص بعض كتابات الآباء أنفسهم، ونأخذ بعض مقتطفات من كتابات أثناسيوس كمثال على هذا.

– مقتطفات من كتابات أثناسيوس و التعليق عليها:

يقول القديس أثناسيوس الرسولي: “لأنه تأنس (صار إنسانًا) لكي نصير نحن إلهًا، وأظهر نفسه في جسد لكي يعطينا فكرة عن الآب غير المنظور، واحتمل الإهانة من البشر لكي نرث نحن عدم الموت. لإنه إذ لم يمسسه أي ضرر، إذ هو غير قابل للألم أو الفساد، وهو ذات الكلمة، وهو الله. فإن البشر الذين كانوا يتألمون والذين لأجلهم احتمل كل ذلك، قد خلصهم وحفظهم مثله في حالة عدم التألم” (تجسد الكلمة ف54: 3)[2]

كما يقول أيضًا: ” تأنس الكلمة حتى ما يقدم جسده عن الجميع، وحتى إذا اشتركنا في روحه نتأله. هذه العطية التي لا يمكن أن ننالها إلا بواسطة ارتدائه جسدنا المخلوق. ومن هنا أخذنا اسمنا (أناس الله) أو (أناس المسيح). ولكن كما أننا إذا أخذنا الروح القدس فإننا لا نفقد جوهر طبيعتنا، وهكذا الرب، عندما تأنس لأجلنا ولبس جسدًا لم يفقد ألوهيته. لأنه لم يفقد ألوهيته بنمو جسده وإنما ألَّه الجسد وجعل هذا الجسد عديم الموت.” (الدفاع عن الإيمان النيقاوي المشهور ص 159 من الترجمة الإنجليزية)[3]

وأما في دفاعه ضد الأريوسيين فيقول: “إنه (المسيح) لم يكن إنسانًا وصار بعد ذلك إلهًا، ولكنه الإله الذي تأنس حتى يؤلهنا… وكيف يتم التأله بدون الكلمة؟ إننا ننال التبني والتأله بالكلمة.”[4]

ونستطيع أن نفهم من كلمات أثناسيوس النقاط الآتية:

  • في الفقرة الأولى يتكلم أثناسيوس عن التأله على أنه الشركة في عدم الفساد وعدم التألم.[5]
  • في الفقرة الثانية يتكلم عن التأله المرتبط ارتباط مباشر مع قبول النعمة بالشركة في روحه، كما يوضح أنه كما أن الرب عندما تأنس لم يفقد ألوهيته، فأيضًا الإنسان عندما يتأله لا يفقد إنسانيته.
  • في الفقرة الثالثة يتكلم عن التأله المرتبط بقبولنا للكلمة المتجسد.

هذا ويقول الأب متى المسكين في تعليقه على تعبيرات أثناسيوس:

وواضح من تعبيرات أثناسيوس من جهة (التأله) للطبيعة البشرية أنه يعني (الاتحاد بالله) …كذلك من الواضح أنه يؤكد أن تأليه الإنسان لا يتم خارجًا عن المسيح، كما يستحيل أن يكون عملاً قائمًا بحد ذاته، بل أن تأليه الإنسان يتم في المسيح… ولئلا يتوه أحد في معنى (تأليه الإنسان) – الذي لا يفهم منه إلا انتساب الإنسان لله – ولئلا يظن أحدًا أن (تأليه الإنسان) عمل يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يغير شيئًا من طبيعته الإنسانية، يعود أثناسيوس ويوضح هذا الأمر هكذا…“[6] ، ثم يسرد الأب متى المسكين العديد من الأقوال الأخرى التي تؤكد الفكرة.

وبهذا يمكن للباحث في بداية البحث أن يؤكد على أن “تأله الإنسان” لا يُقصد به أن يصير الإنسان الله، فهذا معنى بعيد تمامًا عن فكر أثناسيوس وعن فكر باقي الآباء كما سنرى لاحقًا، ولكن يمكن أن نصف تعبير “التأله” أو “الثيئوسيس” بما جاء في كتاب دراسات في آباء الكنيسة، إذ يقول: “الثيئوسيس يمكن أن يوصف بأنه عمل الله المثلث الأقانيم، القوي والمقدس، الذي من خلال حلول الثالوث والنعمة في الإنسان، وبسبب القدرة الطبيعية التي مُنحت للخليقة لتتجلى أي لتكتشف مجد صورة الله الذي فيها، يمكن للشخص المؤمن أن يبلغ إلى التمثل والاقتداء بالله، بتوسط الكلمة المتجسد، المسيح ضابط الكل، وبالروح القدس”[7]

.الأساس الكتابي للثيئوسيس:[8]

هذا ويذكر كاتب دراسات في آباء الكنيسة الأساس الكتابي للثيئوسيس، والذي نذكره في إيجاز، إذ يساعدنا على فهم المعنى بصورة أوضح:

  • في العهد القديم: خلق الإنسان على صورة الله ومثاله (تك1: 26) وكل عطايا الله للإنسان هي بالنعمة، فالعقل والحرية والمحبة، التي هي على مثال الله، عطايا نالها الإنسان من الله وهي لا تلغي محدوديته، لذا فإن تمثُل الإنسان بالله دائمًا محدود بتعالي الله دائمًا عن الإنسان، وباتكال الإنسان على الله، وحتمية طاعته وخضوعه لسلطان الله وسيادته.

ومن هذا المنظور يمكننا النظر إلى قصة سقوط الإنسان على أنها قائمة أساسًا على محاولة الشيطان أن يحول “مُشابهة الله” عند الإنسان إلى “مساواة الله” والانجذاب وراء هذا نتج عنه السقوط، وهو بالطبع المعنى المرفوض للتأله.

هذا ويمكننا أن نرى مشاركة إنسان العهد القديم في الحياة الإلهية في أخنوخ وإيليا اللذان صعدا إلى السماء وأحتضنا في مجال الشركة الإلهية، وأيضًا في موسى المشارك لله في سلطان تعليم الشعب، الأنبياء المُلهمون الذين تكلموا باسم الله، بل وفي جميع الشعب المدعو للقداسة والبر.

  • في العهد الجديد: من خلال مفهوم التبني الواضح جدًا في الأناجيل (يا أبانا الذي…) ومن خلال صلاة يسوع (كل ما هو لي فهو لك.. و أنا ممجد فيهم) يو17:10 (كما أنك أنت أيها الآب فيَّ و أنا فيك ليكونوا هم أيضًا فينا) يو17: 21، ومن خلال كتابات بولس (فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا وأنتم مملوؤن فيه) كو2: 9، (لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله) أف3: 19، (الكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل) أف1: 23، ومن خلال كتابات بطرس (شركاء الطبيعة الإلهية) 2 بط1: 4، ومن خلال كتابات يوحنا (مَن اعترف أن يسوع هو ابن الله فالله يثبت فيه وهو في الله) 1 يو4: 15.

وعلى هذا فإنه يمكننا إجمال كل هذه التعريفات في أن التأله هو الإتحاد بالله، الذي يظهر في الكمال المسيحي الذي معه لا يفقد الإنسان إنسانيته.

ثالثًا: بعض أقوال الآباء عن التأله ( الثيئوسيس ):

1. القديس إيرينيئوس: ولد عام 135 م.

يقول: “إن الله في محبته غير المحدودة صار على ما نحن عليه، لكي يجعلنا نحن على ما هو عليه” (1: 23: 5)

“لقد صار ابن الله إنسانًا، كي يصير الإنسان إبن الله” (3: 10: 2)

“إن اتباع النور هو إشتراك في النور” (4: 14: 1)

“المسيح كما قلنا وحد الإنسان بالله…فهو لهذا السبب قد أتى، في كل الأجيال، ليعيد الكل إلى الشركة مع الله ” (3: 18: 7)

ويقول عن الهراطقة: “إنهم يسلبون الإنسان صعوده إلى الله” (3: 19: 1,2)

2. العلامة كليمنضس السكندري: ولد عام 150 م.

في كتاب “ستروماتا” وتحت عنوان الكمال المسيحي يقول:

“الكمال يُبلغ إلي منتهاه فقط على أعلى مستوى من المعرفة، العارف الكامل لا يعود فى حاجة إلى المعلم البشرى، لأنه قد صار مرتبطاً مباشرة بالله، من خلال الكلمة، وبالتالى صار فى أُلفة حقيقية وصحبة مع الله. ارتفع فوق اهتمامات وشهوات هذا العالم، لم تعد لا هذه ولا تلك تغلبه، بالرغم من أنه يظل يعيش فى حرية وبلا كبت فى هذا العالم . فهو لا يخشى ولا يرتعب من الأمور المنظورة. ومن خلال التصاقه الداخلى بمشيئة الله يدخل خورس الملائكة المسبحين باطنيا”ً.

وفي شرح الآية، من الموعظة على الجبل، “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم” (لو 6 : 36)، يقول كليمنضس تحت عنوان مشابهة الله واصفًا المسيحى الناضج كمُقتَد ومُتشبِه بالله :

[لأن الناموس يدعو الإقتداء إتباعاً، ومثل هذا الإتباع – على قدر طاقة الإنسان – يجعل من الإنسان مماثلاً للأصل]

فالتحول إلى المسيح سيؤدى إلى عدم الفساد والخلاص.

وكلمنضس يستشهد بآيات من العهد القديم ليشرح الآية الواردة فى 1كو 11: 1  “تمثلوا بى كما أنا بالمسيح” حيث يجد تعليمه عن الإقتداء بالمسيح الذى يعنى التحول إلى مشابهة الله، حتى أن الإنسان يصير باراً و قديساً “كونوا رحماء كما أن أباكم الذى فى السموات هو رحيم” بالحكمة.

والقديس بولس الرسول يضع هذه المشابهة بالله “تمثلوا بى كما أنا بالمسيح”  كغرض للإيمان وكنهاية له، وهذا هو تحقيق الوعد بالحياة الأبدية.

وهكذا ينتهى كليمنضس من تعليمه بتأكيد أن “غاية معرفة الخلاص والمغفرة والنجاة من الموت هى بالنهاية (الثيئوسيس)”. ولم يحجب كليمنضس هذه الحقيقة حتى عن الوثنيين الذين لم يدخلوا الإيمان بعد، وهو يوجه خطابه إليهم:

[كلمة الله صار إنساناً، حتى يصير الإنسان مؤلهاً فيه].

3. القديس باسيليوس: ولد حوالي328 م.

يقول في سياق كلامه عن الروح القدس: “كيف يمكن أن الذي يجعل الآخرين مؤلهين أن لا يكون هو نفسه إلهًا!”

والملاحظ أن باسيليوس كان يقول هذه الكلمات في ظل حديثه عن التقديس.

كما يقول أيضًا في رده على الحاكم: “إنه لا يمكنني أن أنحني أمام مخلوق، طالما أنا مخلوق بيد الله، وقد أمرت أن أصير به مؤلهًا”

4. غريغوريوس اللاهوتي: ولد عام 329 أو330 م.

يؤكد على قول باسيليوس “الإنسان مخلوق لكنه أمر أن يكون مؤلهًا” ويقول أن هذا يتم من خلال جحد عالم المحسوسات المادي والجهاد لمعرفة الله، ويقول أن البشرية تخلص من خلال الاتحاد بالله.

5. غريغوريوس النيصي: ولد عام 335 م.

يقول حول عرس النفس مع الله، أنه في درجات التأمل العليا، تتحد النفس مع الله، وتصير مُشابهة له، وتعيش فيه.” إنها تصير مُشابهة لطبيعته غير المُدركة حينما تكون قد وصلت إلى الطهارة والسكون. “هذا هو عرس النفس، أي الاتحاد غير الجسدي، الروحي، غير المادي مع الله، الذي هو أعظم بركة وخير للإنسان…”

كما يتكلم عن غاية التجسد على أنها القيامة وتأليه الإنسان، ويستخدم في هذا عدة ألفاظ مميزة، مثل: الاتحاد الوثيق، والاختلاط والضم، المزج.

ومصدر خلاص الطبيعة البشرية عنده هو الاتحاد بالله حيث يكتب: “الكلمة صار جسدًا بسبب محبته لجنس البشر، واتخذ طبيعتنا حتى باتحادها باللاهوت ننال التأليه، وبهذه الطريقة تقدست كل عناصر طبيعتنا.” ولا يفوتنا هنا أن ننبر على العلاقة ما بين كلامه والتقديس.

6. كيرلس الكبير: ولد عام 380 م.

في سياق كلماته عن عمل الثالوث الأقدس في تقديس الإنسان يقول: “إنه الروح الذي يوحدنا ويجعلنا متوافقين مع الله، ونواله يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، ويجعلنا ننال الابن، وبالابن ننال الآب.”

ويقول في نفس السياق: “الروح القدس يعمل فينا بنفسه، إنه يقدسنا حقًا ويوحدنا بنفسه، وباتصاله واتحاده بنا يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية.”

وعن صيرورتنا شركاء الطبيعة الإلهية يقول: “نحن نصير شركاء الطبيعة الإلهية. ولهذا – كما يقال – مولودون من الله وقد دعينا “مؤلهين” وفقط بالنعمة أننا ارتقينا إلى هذه النعمة الفائقة للطبيعة، فنحن نقتني الله ساكنًا وماكثًا فينا.. نحن هياكل الله، وذلك بحسب ما قاله بولس، وذلك لأن المسيح يسكن فينا.

هذا وسنتعرض لأقوال أخرى لكيرلس الكبير في ظل حديثنا عن الأب متى المسكين كنموذج للاهوتي مُعاصر شغله مفهوم التأله في مختلف كتاباته.

رابعًا: الأب متى المسكين كمثال للاهوتي معاصر تناول مفهوم التأله في معظم كتاباته:

الأب المتنيح متى المسكين عالم لاهوتى جليل من مواليد 1919، عاش حتى السابعة والثمانين وله حوالى 181 مؤلف لاهوتى أكثرها يعتبر مراجع أكاديمية.[9]

غاية التجسد عند متى المسكين هو اتحادنا بالله الذى هو التأله والتبنى.[10]

واتحادنا بالله هو الخلاص “فإن ما صار متحداً بالله هذا وحده يخلص”.[11]

والتأله عند متى المسكين هو لفظ آبائى أصيل وهو الحقيقة العجيبة التى وقف أمامها الآباء مدهوشين، وفى هذا يقول: “الجسد – الترابى – أخذ الشركة فى طبع الكلمة ” … لقد كانت هذه العبارة عينها “التبنى” مدهشة حقاً وعجيبة لدى المسيحيين الأوائل ويظهر اندهاشهم أمامها من قول يوحنا الرسول “أنظروا أى محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله… ولسنا نعلم ماذا سنكون (أى ما هى نهاية التبنى الذى دخلنا إليه) ولكننا نعلم أنه متى أظهر ذاك (المسيح) فإننا سنكون مثله” (1 يو 3 : 1 ، 2) سنكون مثله وهو الابن والإله والكلمة، بمعنى أننا سنأخذ شركة فى صفاته كإبن وإله وكلمة، وهذا ما دعاه الآباء بالتبنى، وأحياناً بالتأله و”الشركة فى طبع الكلمة”، كما رأينا فى القول السابق.[12]

كما أن متى المسكين لا يقف بمستوى اتحادنا بالله على مستوى الوحدة الأدبية الأخلاقية الإرادية. بل يتخطى هذا المستوى ليدخل إلى وحده كيانية “طبيعية” فى جسد واحد.[13]

وذلك فى تعليقه مثلاً على قول القديس كيرلس الكبير : ” من الخطأ أن نقول إن إتحادنا بالله لا يتجاوز مستوى الإرادة معه، لأنه فوق هذا الإتحاد (إتحاد الإرادة) هناك إتحاد آخر أكثر سموًا وأكثر رفعة يتم بعطية اللاهوت للإنسان، فمع أن الإنسان يحتفظ بطبيعته الخاصة، إلا أنه يتحول بنوع ما إلى شكل الله نفسه … هذه هى طريقة الإتحاد بالله، التى يطلبها ربنا من أجل تلاميذه، وذلك بحلول اللاهوت فيهم و الشركة معه.[14]

وهذا الإتحاد يتم بواسطة الروح القدس، الأقنوم الثالث فى اللاهوت المنبثق من الآب.[15]

فإذ يمتلئ الإنسان بالروح القدس. فإن الروح القدس يحل فيه أقنومياً حيث يقول متى المسكين : ” كان لا يمكن ولا يستطيع التلاميذ أن يتقبلوا الطبيعة الالهية بدون المسيح بل ولم يكن ممكناً أن يتقبلوا الروح القدس كأقنوم إلا على أساس الإتحاد بجسد المسيح.”[16]

هذا و بينما يفرق آخرون بين الحلول والإمتلاء فيقولون أن الحلول هو حلول أقنومى وهذا للمسيح فقط وأما الإمتلاء فهو إمتلاء غير أقنومى.[17] نجد متى المسكين لا يفرق بين الحلول والإمتلاء. بل أنه يستخدم الكلمتين بالترادف فنجده يقول : “واستعابنا لقوة يوم الخمسين هو المعبر عنه بالملء من الروح القدس… وهو يتم على ثلاث درجات أو ثلاث مراحل من الحلول.” [18]

ويعترض تلاميذ متى المسكين على التعليم الذى يُفرق بين الحلول الأقنومى والإمتلاء . حيث يقولون أن هذا التعليم فيه خطأين مدمرين ويقودا للهلاك. الخطأ الأول هو أنه إذا كان المؤمن يمتلىء من المواهب فقط ولا يحدث له حلول أقنومى. فإن المواهب ستبطل فى الأبدية، وهذا يعنى فقط الشركة مع الله نهائياً بدون الحلول الأقنومى.

والخطأ الثانى أنه لا يمكن أن يعطى الله شركة فى القوة (المواهب) فقط بدون شركة فى المحبة (الأقنوم).[19]

والحلول عند متى المسكين يتم على ثلاث مستويات: الأول حلول الروح القدس بكلمة الإنجيل والثانى حلول بالأسرار والثالث حلول بالصلاة.[20]

وبهذا يكون الباحث قد عرف ملخصاً موجزاً لفكر الأب متى المسكين فى أمر التأله أو الثيئوسيس.

خامسًا: محاولة للربط بين التأله أو الثيئوسيس في الفكر الآبائي وبين القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في الفكر الوسلي:

العقيدة الميثودستية في الكمال المسيحي:

عند فحصنا لعقيدة كنائس الميثوديست وهي أحد الكنائس الممثلة للاهوت الوسلي في بلادنا، مصر، نجد في دستور الإيمان، البنود التالية:

  • مادة 19 في التقديس: هو عمل النعمة التدريجي في النفس الذي يسمى التقديس التام، وبه يخمد الإنسان العتيق، وهو يتبع التجديد وبه تنطفأ الميول الفاسدة وتموت تدريجيًا.
  • مادة 20 في التقديس الكامل: هو الاشتراك في الطبيعة الإلهية التي تطرد الفساد الأصلي أو الخطية الأصلية من القلب، وتملأه بالمحبة الكاملة لله والناس وهو عمل الروح القدس الذي به تموت الخطية بالتمام ويتطهر القلب تمامًا… وعندما تموت الخطية يتكمل القلب في المحبة، وبدون هذا الإختبار لا يقدر أحد أن يعاين الله.
  • مادة 21 في القداسة: هي حالة القلب بعد تمام التقديس الكامل، وهى حالة النفس التى تضمن استمرار التطهير من كل خطية فتمنح النفس كل الفضائل التى فى المسيح يسوع فنصير كاملين كما أن ابانا الذى فى السموات هو كامل.[21]

والواضح أن مفردات الإيمان الميثودستي لا تحتاج إلى تعليق لبيان علاقتها بالثيئوسيس.

وبالبحث نعرف ان هذا التعليم، التقديس الكامل أو الشركة فى الطبيعة الألهية، هو تعليم وسلي أصيل، ولذا يجدر بنا أن نتناوله من وجهه نظر جون وسلي نفسه و فى هذا نستعين بما كتبه ستيف هاربر[22] في شرحه للاهوت وسلي, إذ يقول:

    • تعليم الكمال المسيحي لا يمكن حذفه قط، من دراسة جادة للاهوت وسلي، ولا يمكن حذفه أيضًا من تفسير أي اختبار مسيحي.
    • اختبار الكمال المسيحي هو عمل من أعمال النعمة.
    • الكمال المسيحي لا يعني الحصانة من مشاكل الحياة، أو العصمة.
    • ليس الكمال المسيحي اختبار جامد يحدث مرة واحدة، و لكن وسلي وصفه بأنه حدث متميز في ذاته، يحدث أثناء رحلة الإنسان… عندما تحدث وسلي عن الطبيعة الفجائية لاختبار الكمال المسيحي أصر على توجيه الأنظار إلى التقدم الذي يسبق هذا الاختبار والذي يأتي بعده.
    • الكمال المسيحي يُشير إلى إكتمال قادم… عندئذ نستبدل الزائل بغير زائل… ويحتوي على موعد المجد العتيد، ونحن إنما نسير في الطريق والنهاية هي بيت الله.

وحول هذا المفهوم أيضًا يقول القس هورنر: “التقديس الكامل بحسب طرفه الإيجابى هو كمال ملء ثمر الروح… راحة النفس فى ملء المحبة والفرح والسلام وطول الأناة والصلاح والوداعة والتعفف والإيمان … والبعض لا يعرفون إن كانوا هم الجسد أو خارجاً عنه، عندما يعلن الله هذا المجد لنفسهم. نعم إنه ذهول غريب، لأنه إتحاد بالغير محدود والنصف لم يخبر به وسوف يكشف فى الأبدية.[23]

ويمكننا أن نربط هذا الكلام، عن القداسة الكاملة والشركة فى الطبيعة الإلهية بما جاء فى الحديث حول الثيئوسيس فى كتاب دراسات فى آباء الكنيسة، إذ يقول الكاتب: “أن يحيا الإنسان حسب شريعة الله، وأن يحيا الحياة الروحية، وأن يقترب من الله فهذا ليس بالأمر السهل… هذه الحياة المستيكية والروحية والتقديس فى الحق، تقود الإنسان فى طريق الثيئوسيس… إن ثيئوسيس الإنسان أو شركتة فى الطبيعة الألهية يستحيل البلوغ إليه بمجرد مشيئتنا فقط أو محاولاتنا أو حتى من خلال ضيقات الحياة. إن النعمة المُقدسة هي العامل الأساسي في تجديد حياتنا وإصلاحها.”[24]

هذا ويمكننا تتبع فكر الكمال المسيحي أو الاتحاد بالله أو الشركة في الطبيعة الإلهية، ليس فقط في العقيدة الميثودستية، أو في الكتابات القديمة، بل أيضًا في بعض الكتابات الحديثة لكُتاب ينتمون إلى اللاهوت الوسلي، مثل ما جاء في كتاب بناء الهيكل الأبدي للقس صموئيل مشرقي، راعي كنيسة الله الخمسينية، إذ يقول: “فى هذه المدينة التى هى “الهيكل الأبدى” وعروس المسيح” معاً يتم إتحاد جميع المفديين المعتمدين بالروح القدس بعضهم ببعض وأيضاً بالله والخروف، وهما “هيكل المدينة” .. ويقينا أننا لا نتحد بالمسيح إلا عن طريق الروح القدس، كما أننا بالمسيح نتحد بالله الآب، وعلى هذا المنوال يكون الجميع واحداً وذلك بحسب قول السيد “كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا.” (يو 17 : 21)

فعن طريق انسكاب روح الله علينا يتكمل الأتحاد وتتم الشركة بيننا وبين الله ونوهب الشركة فى الطبيعة الإلهية ويصير لنا بذلك الخلود المزمع أن يمنحه لنا بالحق وإلى الأبد عند مجيئه بتكميل شركة اتحادنا مع الله الآب فى هذا الهيكل الأبدى. وليس معنى ذلك أن تألهنا بمعنى أننا تحولنا إلى آلهة أو أن الطبيعة البشرية قد صارت طبيعة إلهية، ولكنه إتحاد يؤهل الطبيعة البشرية للحياة مع الله بعد رفع حاجز الخطية نهائياً وإلغاء وجودها بالنسبة للمفديين أبدياً، وذلك عند القيامة الأولى وتغيير الأجساد..

ورغم أن التأله فى هذا المفهوم – أى الإتحاد بالله – هو الغاية النهائية التى لا يمكن أن تكمل لنا إلا فى القيامة، إلا أنه فى نفس الوقت حصيلة الإيمان والجهاد الذى ينبغى أن يكمل هنا فى هذا لدهر…”[25]

الخاتمة:

وهكذا، إستعرض الباحث فى ورقة البحث هذه، مفهوم التأله أو الثيئوسيس آبائيًا، فهو يعنى الإتحاد بالله بدون أن يفقد الإنسان إنسانيته أو مكانته كإنسان.

كما عرض الباحث باقة من أقوال الآباء، مركزًا في معظمها على قرينة التقديس.

وتناول متى المسكين كنموذج للاهوتي معاصر، يقع فكر التأله في مركز معظم كتاباته.

وأخيرًا، طرح الباحث فكرة للمناقشة، ألا وهي علاقة مفهوم القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في اللاهوت الوسلي، بالتأله أو الثيؤسيس في الفكر الآبائي.

لنصلي أن نحيا ونختبر.. أن نتذوق ونُشبع بمجد إلهنا..

يا روح الله… تعال لتوحدنا بذاك الذي وحدنا بنفسه في موته وقيامته ورفعته وجلوسه..
يا روح الله تعال فنحيا سماءك على الأرض.. نطلبك.. مَجِد يسوع فينا..
كم نشتاق لك.. إلمسنا بقوتك.. إلمسنا بحبك.. فنطرح الكل.. لنفوز بك..
نلقي التبر على تراب الأودية.. وتكون أنت التبر..
يا مَن أحببتنا.. وشفيتنا.. ورفعتنا.. وأجلستنا.. وجعلتنا ملوكًا وكهنة لله أبيك..
نحبك يا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع الناصري..

– مايو ٢٠٠٥

المراجع

[1] القديس أثناسيوس الرسولي, تجسد الكلمة, نقله إلى العربية القمص مرقس داود ( القاهرة: دار النشر الأسقفية, 1978), ص137
[2] جورج حبيب بباوي, القديس أثناسيوس الرسولي في مواجهة التراث الديني الغير أرثوذكسي(القاهرة: أسرة القديس كيرلس عمود الدين الإكليريكية,1985), ص133
[3] المرجع السابق ص 133
[4] المرجع السابق ص 134
[5] و هذا نستطيع ربطه بمهوم التمجيد كأحد مراحل الخلاص.
[6] الأب متى المسكين, القديس أثناسيوس الرسولي ( وادي النطرون: دير الأنبا مقار,1981), ص 507
[7] أحد رهبان برية القديس مقار, دراسات في آباء الكنيسة ( القاهرة: دار مجلة مرقس, 1999), ص626
[8] المرجع السابق
[9]صموئيل روبنسون, تأثير كتابات الأب متى المسكين على تطور الكتابات اللاهوتية في الكنيسة القبطية, ترجمة دار مجلة مرقس( القاهرة: دار مجلة مرقس, 2006)
[10] رهبان دير الأنبا مقار, المسيح المخلص في تعليم و كتابات أثناسيوس( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,2004) ص 51, 74
[11] رهبان دير الأنبا مقار, وجودنا و كياننا في المسيح في فكر كيرلس الكبير( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1994) ص9
[12] رهبان دير الأنبا مقار, التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1994)ص15
[13] رهبان دير الأنبا مقار, الكنيسة جسد المسيح السري في تعليم كيرلس الكبير( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1993) ص13
[14] المرجع السابق, ص61
[15] متى المسكين, شرح رسالة غلاطية( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1996)
[16]متى المسكين, التجسد الإلهي في تعليم كيرلس الكبير ( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1988) ص 25
[17] صموئيل مشرقي, الظهور الإلهي( القاهرة: كنيسة يوم الخمسين,1964) ص 112
[18] متى المسكين, الباركليت في حياة الناس( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1961) ص29
[19] رهبان دير الأنبا مقار, الأصول الأرثوزكسية لكتابات الأب متى المسكين- الكتاب الثاني( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,2003)ص51,52
[20] متى المسكين, المرجع السابق ص29
[21] كنيسة نهضة القداسة, القداسة عقيدتي( القاهرة: مكتبة الاتحاد, ن. د.)
[22] ستيف هاربر, رسالة جون وسلي لعصرنا الحاضر( القاهرة: مكتبة النيل المسيحية, 1991)
[23] القس هورنر، كتاب الأقوال الجلية فى إيضاح حقيقة الخطية الأصلية و الخطية الوراثية ( أسيوط: المطبعة الأهلية بأسيوط,1910) ص101,102 
[24] أحد رهبان برية القديس مقار, دراسات في آباء الكنيسة ( القاهرة: دار مجلة مرقس, 1999),ص 34, 35
[25]  صموئيل مشرقي, بناء الهيكل الأبدي( القاهرة: كنيسة الله الخمسينية, 1982) ص 98 , 99

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.