التقليد الوسلي (٨) – الجزء الثاني – تطور الفكر اللاهوتي الوسلي: بين التقديس الخمسيني ولاهوت الثلاث بركات

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو الثالث عشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عرضًا موجزًا لبدايات تطور منظومة الفكر اللاهوتي الوسلي في القرن الثامن عشر، والتي بدأت مع ظهور الوسلية الفلتشرية التي فهمت الاختبار الثاني (مدخل الكمال المسيحي) من منظور نيوماتولوجي (يميل للتركيز على عمل الروح القدس)، فأطلقت عليه اختبار “معمودية الروح القدس”، وظهر معها ما أطلقنا عليه النموذج الفلتشري لاختبار التقديس التام – نسبة إلى جون فلتشر (١٧٢٩ – ١٧٨٥).

وقد ألقينا الضوء من خلال هذا العرض على الدور الرئيس الذي يلعبه التآزر بين علم اللاهوت والروحانية في تجديد الفكر اللاهوتي، وذلك من خلال تباين عدسات قراءة الأسفار المقدسة، والتي تُعَد مفرد جوهري في الروحانية. إذ رأينا كيف لعب النص الكتابي دورًا مركزيًا في قراءة الاختبار الثاني بشكلٍ مُغاير للوسلية الكلاسيكية، من خلال تركيز فلتشر على الكتابات اللوقاوية، عوضًا عن العدسة الوسلية الكلاسيكية التي ركزت على الكتابات اليوحناوية والكتابات البولسية.

في الجزء الثاني من هذا المقال، أتابع معك، قارئي العزيز، كيف استمر التباين في فهم النصوص الكتابية، جنبًا إلى جنب مع تنوع أنماط الخبرات الروحية، مصدرًا لتنوع الصياغات العقائدية وتجديد للفكر اللاهوتي بداخل التقليد الوسلي.

اختبار "التقديس الخمسيني" كمدخل لحياة الكمال المسيحي، والطور الأول من الوسلية الراديكالية:

كما أشرت في الجزء الأول من هذا المقال، فإن استخدام العدسة الفلتشرية/اللوقاوية في فهم الاختبار الثاني في الحياة الروحية كان عاملاً رئيسًا، خلال القرن التاسع عشر، في ظهور ما عُرِف باختبار “التقديس الخمسيني” كمدخل لحياة الكمال المسيحي عوضًا عن التسمية الكلاسيكية “التقديس التام”. والحقيقة، فإن التركيز اللوقاوي عند فلتشر، ومن بعده تشارلس فني، وصديقه أسا ماهان (الرئيسين الأولين لكلية أوبيرليان في ولاية أوهايو)، ومعهما الكارزة فيبي بالمر، صنع تغييرًا جذريًا سواء في اللغة المُستخدمة في المجتمعات النهضوية، أو المكتوبة في الأدبيات اللاهوتية آنذاك. فقد ساد التركيز على لغة “القوة” و”ألسنة النار” و”الريح العاصف”، المُستَنِدة على إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل، للتعبير عن عمل الروح القدس في الاختبار الثاني، أكثر من التركيز على لغة المحبة الكاملة واسترداد الصورة الأولى التي ميزت الوسلية الكلاسيكية. وبدأ استخدام تعبيرات “قوة الروح القدس” و”نيران الروح”، مع التركيز على رؤية الاختبار الثاني كاختبار نصرة على قوة الخطية وسطوتها، يأخذ مكانه في وصف مفردات الاختبار بشكلٍ سائد ومُهيمِن. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، لعب الإصدار المُنقَح من الكتاب الذي كتبه ماهان عام ١٨٧٠ تحت عنوان “العقيدة الكتابية في الكمال المسيحي” دورًا محوريًا في هذه النقلة؛ إذ وصف ماهان اختباره، واختبار معاصره تشارلز فني، جنبًا إلى جنب مع اختبار الفرنسية مدام جايون (١٦٤٨ – ١٧١٧م.) التي سبقتهما بأكثر من قرن من الزمان، بمعمودية الروح القدس. ورأى ماهان في هذا الاختبار مدخلاً لحياة الكمال المسيحي، ولخص تأثيره في نقطتين: استقبال قوة الروح، والتطهير الداخلي التام. ومن قبل كتاب ماهان بسنوات قليلة، مَهَد كتاب الإنجليزي وليام آرثر، الذي صدر عام ١٨٥٥، لهذه النقلة في استخدام تعبيرات القوة، بتركيزه على نفس المفردات. وقد تُرجم هذا الكتاب للغة العربية تحت عنوان “لسان النار لآرثر الميثوديستي” في بدايات الحركة الوسلية في مصر. ومن بعد كتاب ماهان، صدر كتاب بالمر عن الاختبار الثاني كتقديس خمسيني، تحت عنوان “موعد الآب” عام ١٨٥٧.

وبالإضافة إلى الأدبيات المطبوعة، امتلأت الاجتماعات باستخدام لغة “القوة” و”ألسنة النار”، وكان اجتماع الثلاثاء بقيادة فيبي بالمر من أوضح الأمثلة على هذا الاتجاه. وقد نال هذا الاجتماع شهرة كبيرة، نظرًا لحضور كثير من الأساقفة واللاهوتيين الوسليين. وبالوضع في الاعتبار كيف أنه بمنتصف القرن التاسع عشر – حوالي عام ١٨٤٠ – تخطت أعداد الوسليين في أمريكا أعداد المعمدانيين الذين كان تعدداهم قبلاً الأعلى بين المذاهب البروتستانتية، بنسبة عشر وسليين إلى كل ست معمدانيين، ونفس النسبة بين الوسليين إلى أعضاء المذاهب البروتستانتية الأخرى مجتمعة، نستطيع أن نفهم مقدار التأثير الذي أحدثته حركات القداسة – أو الوسلية الراديكالية في طورها الأول، كما أُفَضِل أن أدعوها – في السياق الأمريكي. فقد هيمنت لغة “القوة” على معظم المجتمعات المسيحية في الولايات الأمريكية آنذاك على كل المستويات، وسادت النغمة الوسلية الفلتشرية حتى في الأوساط غير الوسلية. ولعل تشارلس فني نفسه يُعَد مثالاً واضحًا لهذا، بتحوله المُبكِر من المشيخية إلى الوسلية. وقد صحب استخدام مفردات اختبار التقديس الخمسيني في الاجتماعات، إظهارات قوية لمواهب الروح القدس، مُقترنة بانفعالات ومشاعر، تتفاوت درجة التعبير عنها بدايةً من الدهش/الغيبة، ووصولاً لدرجة البكاء، أو الصياح، أو الرقص، أو الاهتزازات القوية. فنجد اجتماعات معسكرات القداسة، كاجتماعات فاينلاند على سبيل المثال (Vineland Camp Meetings) والتي استمرت بلا انقطاع من ١٨٦٧ إلى ١٨٨٣، تعكس هذه الإظهارات. وقد كان لهذه الاجتماعات تأثيرًا كبيرًا على السياق الاجتماعي والثقافي الأمريكي، إذ حضرها الكثير من الشخصيات المهمة، من أبرزها الرئيس الأمريكي يوليسيس جرانت عام ١٨٧٤ المُنتمي إلى الكنيسة الوسلية آنذاك.

لاهوت "الثلاث بركات" والطور الثاني من الوسلية الراديكالية:

شكلت حقبة القداسة – أو الوسلية الراديكالية في طورها الأول – تغييرًا جذريًا سواء في خريطة الفكر الوسلي، أو في سياق الاجتماعات الروحية. وعلى الرغم من انحياز البوصلة – خاصةً في أمريكا – إلى نموذج “التقديس الخمسيني”، المعتمد على العدسة الوسلية الفلتشرية أكثر منها الوسلية الكلاسيكية، غير أن الاجتماعات نفسها، بامتلائها بإظهارات الروح القدس الفائقة للطبيعة واعتمالات التقوى، عكست السياق الوسلي النهضوي الكلاسيكي الأصلي، وشابهت اجتماعات جون وسلي في عصره بشكل غير مسبوق في القرن التاسع عشر، صانعةً إحياءً نظر إليه الكثيرون على أنه استرداد واضح للاشتعال الوسلي بجذوره الكلاسيكية. وقد كان لهذا الواقع النهضوي انعكاسًا كبيرًا في اهتمام الكثيرين بإعادة قراءة المصادر اللاهوتية الوسلية الكلاسيكية، جنبًا إلى جنب مع المصادر الوسلية الفلتشرية، وما تبعها من كتابات لفني، وماهان، وبالمر، وغيرهم، للوقوف على جذور الفكر اللاهوتي وراء الواقع النهضوي الذي عاصروه.

من أبرز هؤلاء الذين أعادوا قراءة الأدبيات الوسلية سواء الكلاسيكية أو الفلتشرية وما تبعها، وأدت قراءتهم إلى تطور جديد في الفكر الوسلي، كان الأمريكي بنيامين إروين، والكندي رالف هورنر. إذ أن هذين الاثنين، كلٍ في سياقه الخاص، توصلا إلى نتيجة مُفادها أن وسلي وفلتشر لم يصفا وجهين لنفس الاختبار، وإنما وصفا اختباريين متباينين! وبالتالي، بدأ كلٌ من إروين وهورنر يتعامل مع “التقديس التام” ومع “معمودية الروح أو معمودية النار” كاختبارين مختلفين، وبركتين ثانية وثالثة في الحياة الروحية. وقد أنتج هورنر كتابات لاهوتية تعكس فهمًا أكثر دقة لتاريخ الفكر الوسلي وتفاصيله من تلك التي أنتجها إروين. لذا، يُنظَر لهورنر الكندي على أنه اللاهوتي الرئيس لتعليم الثلاث بركات، والذي يتلخص في أن رحلة الحياة الروحية تشمل ثلاثة اختبارات/بركات، وهي “التبرير والولادة الجديدة”، و”التقديس التام”، و”معمودية النار/ كما دعاها هورنر”، وليست اختبارين كما يُرى في منظومة التقديس الخمسيني أو الوسلية الكلاسيكية، مع عدم نفي إمكانية الجمع بين اختبارين من الثلاثة، أو حتى الثلاثة معًا، في خبرةٍ واحدةٍ، وإمكانية فقد أيًا من هذه الاختبارات واستعادته بالتوبة أثناء رحلة الحياة الروحية! هذا، ويمكن القول أن لاهوت الثلاث بركات قد طور منظورًا ديناميكيًا للفكر الوسلي جعله أكثر قُدرة على قراءة الواقع النهضوي بتفصيلاته المتنوعة.

ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى مركزية النص الكتابي في إعادة صياغة هورنر لأفكار وسلي وفلتشر! فعلى سبيل المثال، لا الحصر، رأى هورنر في وحدة التلاميذ “بنفس واحدة” قبل اختبار الخمسين – أي قبل قبولهم للقوة – دليلاً على تقديسهم التام واختبارهم للمحبة الكاملة، أثناء مكوثهم في أورشليم بعد صعود الرب، وقبل استقبالهم موعد الآب! كما رأى في رسالة كورنثوس وصفًا لمؤمنين، على أقل تقدير، فقدوا اختبار تقديسهم وسقطوا من حالة الكمال المسيحي (صاروا جسديين بحسب تعبير الرسول بولس بالروح القدس)، مع احتفاظهم بدليل استقبالهم للقوة، متمثلاً في مواهب الروح، في وقت ما سابقًا! وهكذا مَثَّل النص الكتابي لهورنر عدسة محورية، نظر من خلالها للعقائد الوسلية الكلاسيكية والفلتشرية، فعمل على تطويرها وإعادة صياغتها.

وتباعًا، مع تبلور لاهوت الثلاث بركات بواسطة رالف هورنر، دخلت الوسلية طورها الراديكالي الثاني والأنضج، والذي ظهر نضوجه في عدة محاور. المحور الأول، وقد تجلى في كتابات هورنر اللاهوتية المُعبرة عن لاهوت الثلاث بركات، والتي شملت كتب مثل “العقائد اللاهوتية” بجزأيه، وكتاب “يوم الخمسين”، وكتابه عن الخطية الأصلية والخطية الساكنة، والذي تُرجم للغة العربية تحت عنوان “الأقوال الجلية في الخطية الأصلية”، بواسطة الإرساليات الوسلية المبكرة لمصر، وكتابه “حول الغيبة”، الذي وثق لإظهارات الروح القدس الفائقة للطبيعة، من خلال قراءته لمذكرات جون وسلي وتجميعه لاقتباسات متعددة تصف الانفعالات والإظهارات التي كانت مُصاحبة باستمرار لاجتماعات وسلي، وغيرها من الكتب المهمة. المحور الثاني، وقد ظهر في تحول الواقع النهضوي، من اجتماعات معسكرات نهضوية منفصلة، إلى كنائس نهضوية واضحة المعالم، لها أعضاءها وخدامها. أما المحور الثالث لنضوج الوسلية الراديكالية، والذي أثر كثيرًا في شكل الخريطة الروحية في مصر بداية من أواخر القرن التاسع عشر، كان الإرساليات التي أرسلها هورنر إلى أماكن مختلفة من العالم، وقد جاء بعضها إلى مصر، حيث أسست – مرتكزة على لاهوت الثلاث بركات – مذهبين من مذاهب القداسة الوسلية في بلادنا، والتي يتبعها أكثر من مائة وخمسين من الكنائس المصرية المعاصرة. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، فبراير ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.