التقليد الوسلي (٩) – الجزء الثاني – الكنيسة: النموذج الوظيفي والجمع بين الديناميكية والتثبيت

التقليد الوسلي

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، في الجزء السابق من هذا المقال – وهو الرابع عشر من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – بدأنا حديثنا حول “الكنيسة” في التقليد الوسلي. وقد رأينا كيف ظهر الفكر الكنسي عند وسلي جامعًا لافتراضات عاملة من: القديم والحديث، المحافظ والراديكالي، التقليد والإبداع، في سبيكة يكاد يكون الفصل بين مركباتها شبه مستحيل. وقد ألقينا الضوء أيضًا على بعض الجوانب التي تجلت فيها المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية في إطار سعي وسلي الدؤوب من أجل بناء مجتمع أُناس الله. نستكمل معًا، في هذا الجزء، حديثنا حول رؤية وسلي اللاهوتية للكنيسة، وكيف أسهمت هذه الرؤية في تجديد الفكر الكنسي. ومن أجل فهم أعمق لرؤية التقليد الوسلي للكنيسة، سأبدأ بعرض مُبسط للخلفية التاريخية والاجتماعية لنشأة الكنيسة المبكرة، وبعض التطورات التي حدثت عبر حقب لاحقة، وأسبابها.

الكنيسة: النموذج الديناميكي المبكر، وظهور الانحرافات، ومجودات التثبيت والتعزيز

يخبرنا دارسو تاريخ العهد الجديد أن المجتمع  اليهودي، في زمن الرب يسوع المسيح وبدايات الكنيسة، اعتمد على ثلاثة كيانات محورية في تكوينه؛ البيت والهيكل والمجمع. إذ كان البيت، حيث تعيش العائلة اليهودية، هو المكان الرئيس الذي يتعلم فيه أفراد العائلة اليهودية تقاليدهم الدينية، ويحفظون كلمات التوراة، ويلتفون حول وجبة الفصح ليعيدوا للرب بحسب الوصية. أما الهيكل، فلا يوجد بين دارسي التاريخ مَن لا يعرف مكانته العظمى ومركزيته في المجتمع اليهودي قبل هدمه عام ٧٠ ميلادية. ثم المجامع، التي يُجمع دارسو التاريخ أنها قد انتشرت منذ أيام السبي، وتظهر بكثافة في نصوص العهد الجديد، وكان الشعب يجتمع فيها ليستمع إلى كلمة الله وتفسيراتها. وقد ورثت الكنيسة المسيحية – كجماعة يهودية المنشأ في الأصل– ما للمجتمع اليهودي من تركيب يجمع بين الخاص (البيوت) والعام (الهيكل أو المجمع) لأجل المواظبة على الممارسات الروحية. وتظهر إشارات واضحة لهذا في العهد الجديد، ويمكن إجمالها فيما قيل في سفر أعمال الرسل: “وكانوا لا يزالون كل يوم في (الهيكل) وفي (البيوت) مُعلمين ومُبشرين بيسوع المسيح” (أع ٥: ٤٢).

في الهيكل، والمجامع، كان المسيحيون الأوائل يكرزون بالرب يسوع المسيح مؤيدين بالآيات والعجائب التابعة (أع ٥: ١٢). بينما في البيوت، كانوا “يواظبون على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات” (أع ٢: ٤٢). وقد تميزت تجمعاتهم في البيوت بطابع ديناميكي؛ إذ واظبوا على التعليم، والشركة، والصلاة معًا، والامتلاء بالروح القدس، وممارسة مواهب الروح القدس بحرية، كما حرصوا على المواظبة على التقدم لمائدة الرب وكسر الخبز معًا في وحدة حقيقية. وكان المسيحيون يواظبون على هذه الممارسات ببساطة، ومن دون تكلف، ويعالجون ما يظهر من مشكلاتٍ أثناء هذه الممارسات بشكل تعليمي رعوي، كما يتضح من رسائل الرسول بولس.

ولكن، مع مرور الوقت، وظهور إرهاصات الانحرافات اللاهوتية – كالتي يشير إليها الرسول يوحنا في رسائله التي كُتبت في نهاية القرن الأول، والتي سرعان ما نمت وصارت هرطقات معروفة كالدوسيتية والغنوسية – اتجهت الكنيسة المبكرة (قبل عصر المجامع الكبرى) إلى وضع آليات ممنهجة – وليس فقط مجهودات رعوية – للدفاع عن إيمانها، وللمحافظة على استقامة ممارساتها، فيما يُعرف الآن في دراسات تاريخ الكنيسة بمجهودات التثبيت والتعزيز (Consolidation and Stabilization)، ووضع قياسات (نماذج) محددة للمارسات الكنسية (Standardization). وقد ركزت هذه المجهودات على إيجاد صياغات موحدة للممارسات الروحية ومفردات العبادة في اجتماعات الكنيسة، لمنع المنحرفين من أن يبثوا سموم انحرافاتهم في عبادة الكنيسة، كما يظهر في الكتابات المسيحية المبكرة مثل: الأجزاء التنظيمية في كتاب “الديداخي” أو “تعليم الرسل الإثنا عشر”، التي تضع صياغات محددة لممارسة العشاء الرباني والمعمودية. وقد صاحب محاولات التثبيت هذه تشديدًا على مركزية بعض الأدوار الكنسية – من جهة سلطتها – في ضبط استقامة الممارسات الكنسية مثل: مركزية دور الأسقف في ممارسة العشاء الرباني (الإفخارستيا)، والذي يظهر بوضوح في رسائل إغناطيوس الأنطاكي؛ إذ نجده يمنع ممارسة الإفخارستيا من دون حضور الأسقف.

وهكذا، بدأت إرهاصات انتقال الكنيسة من النموذج الديناميكي (Dynamic Model) للعبادة والشركة، ومركزه البيوت والعائلات، والذي يتحرك فيه المؤمنون بحرية شديدة فيما يخص ممارسات العبادة، ولا تركيز فيه على تمايز أشخاص بعينهم (إلا بالنسبة للوظائف الكنسية)، إلى النموذج التعزيزي/الترسيخي الأكثر ثباتًا (more Static)، والذي يهتم أكثر بالاجتماعات المُجَمّعّة، حيث الأسقف بسلطته الروحية يقود الصلوات المُصاغة بحسب القانون الصحيح للإيمان، لضمان سلامة الممارسات. وبالتأكيد، يظهر لقاريء التاريخ نُبل القصد الكامن وراء هذه المجهودات المُبكرة لتثبيت مفردات الممارسات الكنسية وترسيخها ونمذجتها، إذ يمكن النظر إليها على أنها أداة ضبط مبكرة “موازية” للمجامع المسكونية لاحقًا؛ المبكرة لحفظ سلامة الممارسات من الانحرافات العملية والعقائدية، واللاحقة لحفظ سلامة العقائد نفسها.

وبالرغم من وضوح هذا القصد المبدئي النبيل، غير أنه لا يمكن أيضًا لدارس مُنصِف لتاريخ الكنيسة إنكار عواقب آليات ترسيخ/ تثبيت المارسات وليتورجيات العبادة، والتي تنامت تأثيراتها السلبية عبر القرون، بما اشتملت عليه من التركيز على مركزية الأسقف، وبداية التفرقة بين قادة الكنيسة وباقي المؤمنين. تلك التأثيرات التي دفعت – خلال قرون لاحقة عبر تاريخ الكنيسة – نحو جمود العبادة نفسها، واختفاء الروحانية الحقيقية، مع التفرقة غير السليمة بين الإكليروس والشعب المسيحي، ووضع أشخاص غير أصحاء روحيًا في مواضع القيادة، وعززت هيمنة اتجاهات مأسسة الكنيسة (Institutionalization) بوجهها المُبالَغ فيه، كما ظهر في كنيسة الغرب فيما قبل الإصلاح، بل واستمر بعد الإصلاح أيضًا في معظم دوائره الرئيسة. إذ يمكن القول: أن الكنيسة الغربية المُصلَحة ظلت تعاني من هذه التبعات بشكلٍ أو بآخر، إلى أن أُعيد إحياء النموذج الديناميكي في زقاقه الجديد، من خلال محاولات متتالية قامت بها شخصيات وجماعات متفرقة، وبلغت ذروة اتساقها واكتمالها أثناء النهضة الوسلية في القرن الثامن عشر، فيما عُرف بالنموذج الوظيفي للكنيسة (Functional Model).

جون وسلي والنموذج الوظيفي للكنيسة

كان لنشأة جون وسلي المبكرة في سياق كنسي مُصلح تقليدي، أبلغ الأثر عليه في نظرته للكنيسة فيما بعد. فقد أدرك وسلي، بعد اختبار تجديده، أن الكنيسة المُصلحة آنذاك كانت تحتاج للإصلاح، إذ ظهرت عليها أعراض أمراض النموذج المؤسسي، والتي كان وسلي نفسه جزءًا منها قبل تجديده، بانطلاقه كقسيس لإرساليته الفاشلة في جورجيا وهو غير مُجدَد! وعلى الرغم من عدم رغبة وسلي في هجر النموذج المؤسسي بالكامل، غير أنه أدرك الحاجة المُلحة إلى نموذج إصلاحي جديد يجمع بين المتناقضات؛ إذ يرتكز على النموذج الديناميكي المبكر الأصلي، ويأخذ من نماذج التثبيت والترسيخ ما لا يجنح بالنموذج الديناميكي نحو المأسسة المُبالغ فيها – التي عطلت ديناميكياته من قبل – وإنما يحتفظ للكنيسة بترتيبها الصحيح – ككيان مُنظَّم – في زقاق جديد يقوى على الحفاظ على الخمر الجديدة (عمل الروح القدس التجديدي في الكنيسة)، والذي أيقن وسلي أنه قد حان الوقت لاستقباله آنذاك.

أدرك وسلي أن أسوأ النتائج التي أدى إليها هجر النموذج الديناميكي كانت متعلقة بحياة النفوس وعلاقتهم مع الرب. إذ أن إزاحة النموذج الديناميكي من واقع الكنيسة، أفرغ حياة المؤمنين من الشركة العميقة بينهم والمرتكزة على حب الرب، والتي من المفترض أن تكون السياق الرئيس الذي تعمل فيه مواهب الروح لأجل تكميل القديسين، وتنضج فيه ثمار الروح في علاقات القديسين بعضهم ببعض. وبالتالي، باختفاء الشركة بين المؤمنين بأبعادها العميقة، زاد الانحصار في الذات، وتوارت محبة الرب الأصيلة، ففقدت الكنيسة قوتها الحقيقية، واختفت الاختبارات الروحية الأصيلة، وباتت الأشواق الحقيقية للكرازة شبه منعدمة، وتوارت التلمذة الروحية والروحانية الحقيقية! لذا، وضع وسلي صوب عينيه استعادة أصالة الحياة الروحية للنفوس، من خلال استعادة النموذج الديناميكي الأصلي لاجتماعات البيوت. وذلك، من خلال فصول التلمذة أو المجموعات الصغيرة، والتي يسترد فيها المؤمنون شركتهم الروحية العميقة مع الرب ومعًا، مصلين، ومتتلمذين. لذا، تميزت المجتمعات الوسلية المبكرة بالتلمذة الصارمة المغموسة في شركة الحب العميقة، والتي فيها يتحرك الروح القدس مُعطيًا مواهب وإظهارات، وقاسمًا لكل واحد ما لمنفعة مجتمع أُناس الله. وقد كان هذا المنظور بعينه هو المفتاح الرئيس في تأسيس وسلي للنموذج الوظيفي للكنيسة. إذ أنه من خلال ما يعطيه الروح من مواهب لأعضاء الكنيسة – ويتضح في الشركة العميقة بينهم – تتحدد الوظائف الكنسية، ويُبنى نموذجًا كنسيًا فيه أشخاص لهم أدوار محددة (وظائف)، مستأمَنين على صحة التعليم، وأصالة الرعاية، وعمق العطاء، والانطلاق للكرازة.. إلخ، مع الاحتفاظ بديناميكية النموذج المستمرة، مما يضمن ولادة أجيال جديدة من المتتلمذين وثقلهم، والذين بدورهم سينالون مواهب جديدة من الروح القدس، ويأخذون وظائف بحسب مواهبهم.

وهكذا، يدمج النموذج الوظيفي بين الديناميكية المطلوبة والحرية الأصيلة في العبادة، جنبًا إلى جنب مع الإطار الوقائي للعقائد والممارسات، والذي لا يظهر هنا في تثبيت صياغات ومقاييس للمارسات، أو في شخص الأسقف الذي يمنع بسلطته؛ لكن يظهر هذا الإطار الوقائي في صلابة مجتمع أناس الله واتساقه، بما يشمله من: متتلمذين ورعاة، وأبناء وآباء وأمهات. فالتثبيت والتعزيز والقياسية تم تحويلهم في النموذج الوظيفي من مجرد مفردات مكتوبة على الورق، ويراقب تفعيلهم أشخاص في موضع سلطة، إلى قوانين تنقش على القلوب في التلمذة المغموسة في الشركة، ويحافظ عليها أناس مجتمع الله معًا، هؤلاء الفاهمون المتتلمذون الذين يعيشون الشركة محتضنين الحق ومتلذذين به. استكمل معك، عزيزي القاريء، في العدد القادم، جوانب أخرى من الفكر الكنسي في التقليد الوسلي. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، إبريل ٢٠٢٢ – عيد القيامة المجيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.