المقدمة وإيضاح المفردات
“مصالحة علم اللاهوت والروحانية”، هو عنوان سلسلة من المقالات أبدأها معك، قارئي العزيز، في هذا العدد من جريدة الطريق. إذ يأتي المقال الأول فيها – في ثلاثة أجزاء – تحت عنوان: “طبيعة العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية”، أو كما يُعبر عنه أحيانًا بعلاقة الأكاديمية بالروحانية فيما يختص بدراسةِ علمِ اللاهوت. ولإيضاح المفردات أقول بإيجاز؛ يُقصَد بعلم اللاهوت: العلم الذي يتناول دراسة ما لله والحديث عن جلاله في علاقته مع نفسه ومع الإنسان ومع باقي الخلائق. وهو علم شأنه كشأن باقي العلوم له فروعه المتعددة. أما عن الروحانية: فيُقصَد بها، في هذه السلسلة من المقالات، الممارسة العملية لجوانب التقوانية المبنية على الإيمان المسيحي. أي الحياة المسيحية الإيمانية المُستنِدة على الكلمة المقدسة والساعية دائمًا للامتلاء بالروح القدس لتتميم الوصية والإرسالية، وللتمتُع بالوعود الكتابية، وللتغيُر إلى صورة الرب يسوع المسيح في حياة تذهب من مجد إلى مجد ومن قوة إلى قوة.
أهمية موضوع النقاش
والآن؛ السؤال البديهي، لماذا هذا الموضوع مُهم ويستحق المناقشة؟ أو بكلماتٍ أخرى: لماذا مناقشة العلاقة بين دراسة علم اللاهوت والروحانية ينبغي أن تأخذ اهتمامنا ونُخصِص لها مساحات في أدبياتنا؟
لدينا سببان أساسيان على الأقل لمناقشة هذا الأمر. السبب الأول يمكن تلخيصه في أهمية هذا الموضوع على صعيد مجتمعاتنا الكنسية. صورة دراسة علم اللاهوت التي تفتقر إلى الروحانية مازالت عالقة في مخيلة الكثيرين في كنائسنا. فكم من أخوة وأخوات مخلصين ومخلصات في الكنائس والخدمات المختلفة مازالوا غير مدركين لأهمية الدراسة الأكاديمية لعلم اللاهوت! بل والبعض لايزال ينظر نظرة ريبة وشك في روحانية مَن يتحدث عن أكاديمية دراسة علم اللاهوت. مازال البعض في كنائسنا ينظرون لدراسة علم اللاهوت على أنها أمرٌ جاف، أو على أقل تقدير أمرٌ لا علاقة له بالحضور الإلهي، ويعتبرون كليات اللاهوت أماكن يُفقَد فيها الاشتعال الروحي، ويصفون دارسي اللاهوت ومدرسيه بأنهم منعزلون في قاعات العلم ولا علاقة لهم بحقل الخدمة الروحية عمليًا.
لست بصدد مناقشة الأسباب وراء هذه الآراء الآن بالتفصيل، لكن، للإنصاف، قد يكون مع هؤلاء المتشككين بعض الحق فيما يقولونه نظرًا لتعرضهم لنماذج غير منضبطة من البرامج والمعاهد اللاهوتية، والتي توارت فيها روحانية دراسة علم اللاهوت، مما أسهم في تعزيز هذه النظرة الخاطئة في مجتمعاتنا. ولكن، بالتأكيد هذه ليست الصورة الصحيحة للعلاقة بين علم اللاهوت والروحانية.
هذا ينقلني إلى السبب الثاني لأهمية مناقشة قضية العلاقة ما بين علم اللاهوت والروحانية؛ ألا وهو الافتقاد الفعلي للروحانية في بعض مناهج وبرامج ومعاهد دراسة اللاهوت. لن ندفن رؤوسنا في الرمال! فالبعض تخيل ولُقِن أنه لكي يكون أكاديميًا ينبغي أن يهجر الروحانية. وأنه لكي يكون مواكبًا للدراسات المعاصرة لابد أن يكون مُجردًا من إيمانه بثوابت الإيمان. وهذا بالطبع أمرٌ خاطيء.
إذا، للإيضاح، لدينا سببان هنا لمناقشة هذه القضية؛ سبب مُتعلق بصورة غير صحيحة في كنائسنا عن العلاقة بين دراسة علم اللاهوت والروحانية، وسبب آخر مُتعلِق بنظرة خاطئة لهذه العلاقة في بعض المعاهد اللاهوتية والذي من المُرجَح أنه قد لعب دورًا في تكوين الصورة الخاطئة في كنائسنا.
لذا، يتوجب علينا مناقشة المفهوم الصحيح لهذه العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية لتصحيح هذه النظرة المغلوطة في الكنيسة أو في المجتمع الأكاديمي، ولتقديم منظور تجديدي مُنضبط يصنع صُلحًا في العقل الجمعي لمجتمعنا ما بين علم اللاهوت والروحانية.
تلازُم دراسة علم اللاهوت والروحانية
ونحن بصدد مناقشة هذه القضية، لابد أن نبدأ من السؤال المهم حول طبيعة العلاقة الحقيقية ما بين علم اللاهوت والروحانية. هل علم اللاهوت والروحانية في جوهرهما يمكن أن يفترقا؟ أم أنهما، في تعريفهما الصحيح وبالطبيعة الجوهرية لكليهما، متلازمان ولا يمكن أن يفترقا أبدًا؟ إجابتي المبدئية الآن، والتي أعمل على إثباتها في هذه السلسلة من المقالات، هي أن دراسة علم اللاهوت والروحانية الحقيقية هما في جوهرهما متلازمان ولا يمكن أن يفترقا أبدًا.
وللإجابة التفصيلية عن هذا السؤال، أطرح ثلاثة أبعاد. البعد الأول شخصي اختباري، وهو الأقل في الأهمية على مستوى الحجة، لكن ذكره مهم بالنسبةِ لي لأنه شَكّل وجداني على مر السنين وملأني بالحماس الذي مازال يدفعني دائمًا للحديث عن العلاقة ما بين الروحانية ودراسة علم اللاهوت. البعد الثاني أكاديمي وهو حجة ٌ أساسية تقوم عليها إجابة السؤال، والبعد الثالث تاريخي وهو يقدم إثباتًا واقعيًا للحجة.
أولاً: البعد الاختباري، وهو ما قادني إلى يقينٍ شخصي بتلازُم علم اللاهوت والروحانية بطبيعتهما تلازمنًا لا افتراق فيه. وهنا، ليسمح لي القاريء الكريم أن أروي قصة قصيرة، حدثت معي في يومي الأول في دراستي في كلية اللاهوت، منذ ما يقرب من عشرين عامًا. إذ كنت جالسا في الكرسي الأخير في تلك القاعة القديمة المختبئة تحت الطابق الأول في المبني الرئيسي العتيق لكلية اللاهوت الأقدم في مصر والشرق الأوسط، شعاع الشمس المشرقة يتسلل من شباكٍ، هذا الشباك بالنسبة لنا أعلى القاعة التي نحن فيها جلوس، لكن نظرًا لأن هذه القاعة تختبيء في البدروم، فإن هذا الشباك بالنسبة للعابرين في فناء الكلية الخارجي كان بمحاذاة أرجلهم!! نظرت إلى شعاع الشمس وسالت دموعي وأنا استمع لأول محاضرة في مادة علم اللاهوت النظامي. في الحقيقة، كانت هذه المحاضرة هي الأولى في هذه المادة، والأولى أيضًا بالنسبةِ لي في كلية اللاهوت على الإطلاق.
لماذا سالت دموعي؟ سالت فرحًا وتعزية!! نعم، ملأني هذا الفرح والتعزية بينما كنت جالسًا في أحد فصول كلية اللاهوت! أعلم أن البعض يصعُب عليه تصديق هذا، لكنها الحقيقة بلا مبالغة. سالت دموعي فرحًا، في كتمان يليق بالمعهد الأكاديمي العريق، حينما سمعت من المحاضر الأمين المحب للرب شرحًا موجزًا عن الثالوث. كاد هذا الشرح اللاهوتي للثالوث يطابق ذاك الذي وضعه الروح القدس في قلبي في ليلة من الليالي قبل دخولي لكلية اللاهوت! شعاع النور النافذ من شباك القاعة ذكرني بهذا الشعاع الإلهي الذهبي الذي تسرب لقلبي وسط ليلةٍ حالكةٍ، ليغرس في قلبِ تائبٍ، عائدٍ لتوه من الكورة البعيدة، تعريفًا بالثالوث، الإله العظيم الذي نعبده، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد.. إلهي الحي الذي أعبده.. يالفرحتي! يا لفرحتي في هذه المحاضرة بما أسمعه.. يالثقتي في الروح القدس التي تتلألأ إذ أسمع ما أودعه في قلبي سرًا، إذ جرى حديثي معه ولا رقيب، خارجًا من فم هذا المعلم المُفوه في هذه المحاضرة. ذكريات ثمينة لا يمكن نسيانها. وهكذا، قارئي العزيز، كانت خبرتي الأولى في عالم دراسة علم اللاهوت، خبرة شاهدة بداخلي وبقوة عن تآزر أصيل لا ينفصل ما بين علم اللاهوت والروحانية. ما بين الخبرة الروحية التي فيها الروح القدس هو المايسترو، والدراسة الأكاديمية التي لم يتخل فيها الروح القدس أيضًا عن دوره كالمايسترو.
وتمر سنواتٌ كثيرة، والرفَاقُ وأنا على العهد.. لم تنجح نظريات النقد العالي أو المنخفض في أن تُثنينا عن وضع ثقتنا الكاملة في وحي كلمة الله، ولم تستطع أيدولوجيات الحداثة أو ما بعد الحداثة في أن تجعلنا نحيد عن روحانياتنا أو نكف عن مزج هذه الروحانيات بتفسيراتنا لتراثنا اللاهوتي.
وبالنسبةِ لي؛ زادت ثقتي على مر السنين، بل وتحولت إلى يقين لا يتزعزع بتلازم علم اللاهوت والروحانية تلازمًا لا افتراق فيه. أيقنت أن علم اللاهوت والروحانية يُمثلا الرحلة التي شكلت ومازالت تُشكل وعي ووجدان آلاف وملايين من أبناء الرب وبناتِه. أيقنت أن علم اللاهوت والروحانية، هما جانبي الطريق الذي طالما سار فيه الكثير من الأتقياء مُتلذذين ومُعاينين عظمة الرب. وأقول أنَّ علم اللاهوت والروحانية هما “جانبي الطريق”، وليس الطريق نفسه، لأن لواهيتنا وروحانياتنا لا تشكل جوهر طريقنا، فالطريق شخصٌ عظيمٌ محبٌ، الإله المتأنس – الكلمة المُتجسد بذاته، الذي قال عن نفسه “أنا هو الطريق والحق والحياة”. أما دراسة علم اللاهوت والروحانية فهما مجدافي القارب الذي يبحر في نهر النور. وعلى الرغم من أن معرفتنا اللاهوتية واتجاهات روحانياتنا لا يُشكلا جوهر الطريق، إلا أنهما قد يحكما خبرتنا مع الطريق، ومعرفِتنا بالطريق، وعمق تذوقنا للطريق. وهنا أيضًا تكمن أهمية موضوع نقاشنا.
هل البعد الاختباري يكفي؟ بالطبع لا! لذا أشرت في البداية أن هذا البعد هو الأقل في الأهمية على مستوى الحجة. وهذا ينقلنا إلى البعد الثاني وهو البعد الأكاديمي وهو أساسي لإثبات ضرورة وحتمية تلازم علم اللاهوت والروحانية وعدم افتراقِهما، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال في العدد القادم بنعمة الله. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يوليو ۲۰۱۹