المقدمة
القاريء العزيز؛ تناولنا في الجزءين الأول والثاني من هذا المقال طبيعة العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية من حيث تآزرهما كوجهين لعملةِ واحدة وتلازمهما معًا تلازمًا لا يفترق. وقد تتبعنا هذا التآزر الجوهري من خلال محاورٍ ثلاثة: المحور الاختباري، والتاريخي، والأكاديمي. والآن، السؤال المُتبقي لنُناقِشه في الجزء الختامي من هذا المقال، هو حول الطريق إلى تحقيق هذا التآزر بصورةٍ عمليةٍ – خاصةً في الكليات والمعاهد اللاهوتية كنقطة انطلاق محورية.
ما السبيل إلى إعادة اختبار التآزر القائم بين علم اللاهوت والروحانية وتحقيق المصالحة بينهما بشكلٍ عملي في معاهدنا اللاهوتية؟ وللإجابة عن هذا السؤال، أُسلِط الضوء في السطور الآتية على بُعدين مُهمَين، أظن أن تأمينهما يُحقِق المصالحة عمليًا، أو على الأقل يقطع شوطًا كبيرًا فيها – بشرط ضمان سلامة المحتوى اللاهوتي المُقَدَم في المعهد اللاهوتي. هذان البعدان هما: (۱) تجسُد المصالحة المرجوة بين أكاديمية علم اللاهوت والروحانية الأصيلة في شخصية أستاذ اللاهوت (۲) السعي الدائم لاختبار الحضور الإلهي في المعاهد اللاهوتية – وللتأكيد؛ هذا بشرط ضمان سلامة المحتوى اللاهوتي.
أولاً: أساتذة علم اللاهوت: أيقونة المُصالحة المرجوة
ولمناقشة البُعد الأول – تجسُد المصالحة في أساتذة اللاهوت – سأستعين هنا باختصار بمنهجية غريغوريوس النزينزي لصناعة شخصية اللاهوتي – على أن أعود لمناقشتها باستفاضة في المقال القادم. تُسلِط هذه المنهجية الضوء على مركزية عمل الروح القدس في بناء شخصية اللاهوتي (المتحدث في الإلهيات)؛ مما يضع علم اللاهوت والروحانية في تلازمٍ عمليٍ حتمي. إذ تُبنَى هذه المنهجية على الوعي والالتزام بثلاثة محاور يراها النزينزي أساسية لتحديد هوية اللاهوتي، وهي (۱) التكريس (۲) الإعلان (۳) حياة الاتحاد بالله. ومن البديهي ملاحظة أن هذه المحاور لا يمكن أن تُتَمم بدون عمل الروح القدس في الإنسان. يبدأ غريغوريوس خطبه اللاهوتية بتوضيح أن علم اللاهوت أو “التفلسف عن الله” ليس للجميع. وعلى الرغم من أن غالبية مجتمع غريغوريوس كان يحاول ممارسة التفلسف حول الطبيعة الإلهية، غير أن النزينزي كان شجاعًا بما يكفي لإعلان الحاجة إلى مؤهلات مُحددة للحديث لاهوتيًا – وأعتقد أننا في احتياجٍ للتمسك بهذه المؤهلات وسط الفوضى اللاهوتية المنتشرة في هذه الأيام – هذه المؤهلات هي نفسها المحاور الثلاثة المُشَار إليها – التكريس، والإعلان، والاتحاد مع الله.
أي أنه بحسب النزينزي، لابد أن يُستَعلن عمل الروح القدس في المُتحَدِث في اللاهوت – على الأقل من خلال حياته المُكرَسَة – قبل أن يُقبَل حديثه في اللاهوت من الأصل! ويمكننا القول إن أستاذ علم اللاهوت (المتحدث في اللاهوت)، بشخصيته وتكريسه واستنارته الروحية وامتلائه بالروح القدس، ودراساته وأبحاثه الأكاديمية، يقف في مركز عملية استعادة التآزر عمليًا بين علم اللاهوت والروحانية. فهو نفسه ينبغي أن يكون أيقونة هذا التآزر مُجسَدة أمام دارسي علم اللاهوت. أي أنّ المصالحة عمليًا لابد أن تتم أولاً – أي تتصور – في مُدرسي علم اللاهوت وتُسَلَم من خلالهم – أكاديميًا وسرائريًا – إلى دارسي هذا العلم! إذ أننا عند النظر لركائز العملية التعليمية اللاهوتية بتدقيق، سنرى المعلم – أو أستاذ اللاهوت – في صدارة التأثير في هذه العملية، إذ يظل مُدرِس اللاهوت هو الأداة الأساسية التي يستخدمها الروح القدس لتسليم مفردات كل تقليد لاهوتي لدارسيه. فبينما تقف صناعة شخصية دارسي/طلبة اللاهوت كمحور وهدف نهائي للعملية التعليمية في المعاهد اللاهوتية، فإن شخصية المعلم/أستاذ اللاهوت تقف كركيزة أساسية تُحدد سمات المُنتج النهائي (أي طالب اللاهوت) – جنبًا إلى جنب مع مفردات القرينة التعليمية الأكاديمية العملية والمحتوى التعليمي.
ولضمان تحقيق هذا التآزر في أساتذة علم اللاهوت، لابد أن نضع في الاعتبار المؤهلات الأكاديمية جنبًا إلى جنب مع محاور النزينزي الروحانية الثلاثة. وكما أنّ المؤهلات الأكاديمية لا يُمكن تلخيصها في شهادات يتباهى بها أصحابها وألقاب توضع قبل أسمائهم (خاصةً عندما تكون المصداقية الأكاديمية لمصادر هذه الشهادات والألقاب ليست على المستوى المطلوب)، فإن الروحانية الحقيقية أيضًا لا يمكن تلخيصها في ادعاءات أشخاص عن أنفسهم بروحانية لم تُختَبَر وسط مجتمع أُناس الله – الكنيسة! فالمؤهلات الأكاديمية الحقيقية – بما تشمله من شهادات وألقاب – ينبغي أن يقف وراءها سنوات من الجهد الأكاديمي المبذُول في مؤسساتٍ تعليمية لها ثقلِها الأكاديمي ومصداقيتها التي تضمن أكاديمية أستاذ اللاهوت. والروحانية الحقيقية ينبغي أن تكون روحانية قد اختبرت ومُحِصَت وسط مجتمع أُناس الله، وشُهِد لأصحابها، بالروح القدس، بأصالة هذه الروحانية وعمق تأثيرها. أي أن الطريق إلى المصالحة عمليًا لابد أن يبدأ من اختبار “واقعية” و”مصداقية” المؤهلات الأكاديمية والروحانية لمُدرسي اللاهوت، من خلال توصيف وآليات يتم الاتفاق عليها وتفعيلها وسط مجتمع أناس الله – أي الكنيسة بمعاهدها اللاهوتية.
ثانيًا: السعي لاختبار الحضور الإلهي في المعاهد اللاهوتية
عند تجلي أيقونة تجسُد المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية في أساتذة اللاهوت، يُصبح السَعي وراء اختبار الحضور الإلهي في المعاهد اللاهوتية تلقائي ومُستَنِد على وعي روحي أصيل! منذ سنوات، أثناء دراستي للدكتوراة، نبهني أحد أساتذتي – وهو مؤرخ مُتخصص في النهضات الروحية – لحقيقة تاريخية مُوَثَّقَة، مُفادها أن الكثير من النهضات الروحية في القرن العشرين خرجت شرارتها الأولى من سياقٍ أكاديمي! فعلى سبيل المثال، لا الحصر، النهضات المتعددة التي شهدتها كلية “ويتون” بولاية إلينوي (Wheaton College – Illinois) بدءًا من الثلاثينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، وكان من أشهرها نهضة ١٩٤٣ والتي تأثر بها الواعظ المُبارَك “بيلي جراهام”. وأيضًا نهضة كلية لاهوت “أسبوري” بكنتاكي (Asbury Theological Seminary – Kentucky) عام ١٩٧٠ والتي بدأت في الثالث من فبراير باجتماع كان مخططًا له أن يُختَم بعد خمسين دقيقة من بدايته، فاستمر مائة وخمس وثمانين ساعة من بعد بدايته بدون توقف!! وأيضًا النهضة التي بدأت في قسم الإرساليات في كلية لاهوت “فُولر” بباسادينا كاليفورنيا (Fuller Theological Seminary – California) أثناء محاضرات “بيتر واجنر” أستاذ الإرساليات ونمو الكنيسة في الثمانينات من القرن الماضي والتي ساهمت بشكل كبير في ظهور الموجة الثالثة من حركات الروح القدس في القرن العشرين. كل هذه النهضات وغيرها تقف شاهدة على أن السياق الأكاديمي يمكن أن يكون أرضًا خصبة للنهضات الروحية، ولكن متى؟ حين نسعى ونصلي ونُكرس حياتنا لكي يجتاح الحضور الإلهي كلياتنا ومعاهدنا اللاهوتية!
إذًا، بافتراض توافر أيقونة التآزر بين علم اللاهوت والروحانية (أستاذ اللاهوت بوضعه الصحيح)، وبافتراض توافر كلٌ من المفردات العملية الأكاديمية لدراسة علم اللاهوت، والتي تشمل الأدبيات اللاهوتية (سواء عربية أو مُترجمة أو في لغات أجنبية)، مع توافر القرينة التعليمية من مكانٍ ووسطٍ مناسب للتعلُم والبحث اللاهوتي؛ ينبغي علينا عندئذٍ أن ندفع في اتجاه واضح في المعاهد اللاهوتية، وهو اختبار الحضور الإلهي بما يحمله من قوة تكريسية وإعلانية تقود إلى الاتحاد بالمسيح. فلكي تتكمل منظومة دراسة علم اللاهوت بشكلٍ جوهري ناضج، لابد أن يقابل دارس اللاهوت شخص الروح القدس، روح الحكمة والإعلان، في قاعات الدراسة في كليات اللاهوت! وينبغي أن يكون أساتذة اللاهوت (الأيقونة) هم الواقفين في الثغر لأجل هذا القصد، مُدركين إدراكًا واعيًا حتمية أن يَغْمُر الحضور الإلهي المعاهد اللاهوتية لإتمام العملية الأكاديمية بالحِرفِية المطلوبة!
وختامًا، يمكننا القول أنّ طريق استرداد المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية عمليًا؛ يبدأ من احترامنا لأكاديمية علم اللاهوت كعلم له فروعه ومتخصصيه، من خلال الدفع بكل آليات الإعداد والتقييم للوصول إلى نموذج أستاذ اللاهوت المُستَعلَن فيه المصالحة، مع الإدراك الواعي لعلم اللاهوت على أنه “عطية/هبة” من الروح القدس. إذ يتم إعطاء المعرفة الإلهية في علم اللاهوت، وضبطه أكاديميًا، من قِبَل الرب الروح نفسه عاملاً فينا ومن خلالنا. يبحث الروح أعماق الله/أمور الله العميقة ويعلنها لمدرسي علم اللاهوت ودارسِيه، بل وأقول بثقة، ولكل إنسانٍ يقترب من دائرة المعرفة اللاهوتية “باتضاع” حقيقي حتى خارج المنظومة التعليمية اللاهوتية ومدارس اللاهوت. مُدرس علم اللاهوت/ اللاهوتي هو “أداة/آلة” في يد الله – يريد الله أن يستخدمها بروحه ووفقًا لإرادته لأجل فائدة الكنيسة وبناء مجتمع أناس الله. هذا الفهم يجعلنا نقترب من المراجع اللاهوتية ومن أدبيات علم اللاهوت باتضاع شديد بين يدي الله ليُعلمنا ويستخدمنا. وبوعي أننا لا يمكننا أن نصير لاهوتيين أكاديميين إلا إذا صرنا مُكرسين بحق، مُعلَن لنا بالروح القدس، ومُتحدين بالمسيح له المجد، وعندئذ سنكتشف بالخبرة العملية التآزر والوحدة الأصيلة بين علم اللاهوت والروحانية، وسنفرح بالمصالحة التي تمت بداخلنا، في المقام الأول، بين علم اللاهوت والروحانية.
دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في سبتمبر ۲۰۱۹