Heaven Upon Earth Logo

الروح القدس وصناعة شخصية اللاهوتي (٤)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، توقفنا في الجزء السابق من هذا المقال – وهو المقال الثاني من سلسلة مُصالحة علم اللاهوت والروحانية – عند مركزية تقديس اللاهوتي ليصير “لاهوتيًا”، وذلك من خلال رؤية الله ومعاينة ضياءه “طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” (مت ٥: ۸). ورأينا كيف أن رحلة المعاينة هي بذاتها التي تُشكِل جوهر “صيرورة” اللاهوتي لاهوتيًا. ولهذه الرحلة – في فكر النزينزي – منهجية وأدوات يستخدمها الروح القدس لدفع استمرارية الرحلة بشكل تَقدُمي، ومن ثمَ إتمام تشكيل شخصية اللاهوتي بحسب القصد الإلهي. هذه المنهجية والأدوات هي موضوع حديثنا في هذا الجزء من المقال.

حفظ الوصايا ومعجزة تقديس اللاهوتي

بالنسبة للنزينزي، حفظ الوصايا هو حجر الزاوية في معجزة تقديس العقل والروح. يسأل النزينزي في أحد خُطبِه بكلمات مباشرة: “هل تريد أن تصبح لاهوتيًا يومًا ما، وأن تكون جديرًا باللاهوت؟” ويجيب بشكل مباشر: “أحفظ الوصايا، وشق طريقك للأمام من خلال الانتباه للمباديء الإلهية” (خطبة ۲۰). الاجتهاد في الأمانة لحفظ الوصية هو أحد الأدوات الأساسية التي يستخدمها الروح القدس لاستعلان المسيح في اللاهوتي. إذ يُرَى المسيح – الواحد الذي أكمل الكُل – حاضرًا بقوتِه من أجل تكميل الوصية في اللاهوتي، وفيه – أي في المسيح – النعمة المُنسَكِبة لأجل تمكين التقديس (أي تخصيص اللاهوتي لله ولوصاياه)، ومن ثَمَ الاشتراك في النور الإلهي، والمعاينة الفائضة بالإعلانات الإلهية! هذا، وفي منهجية الروح القدس لصناعة اللاهوتي، تظهر الصلاة كالأداة الأساسية المُلازِمَة لحفظ الوصية. فالاقتراب العملي من الوصية لتنفيذها يكشف للاهوتي (ولكل مجتهدٍ)، بشكلٍ مبدئي، احتياجه لمعجزة نعمة الله لتكميل الوصايا. والصلاة هي الوسط الذي تُعلِن فيه النفس عن هذا الاحتياج، فتأتي الاستجابة باستعلان المسيح للتتميم، ويصاحب استعلان المسيح – المُذَخَر فيه كل كُنوز الحكمة والمعرفة – المعاينة التي تفيض بالإعلانات الإلهية، ومن ثَمَ استعلان صيرورة اللاهوتي “لاهوتيًا”! لذا، بكل تأكيد، لا يعتمد تقديس اللاهوتي فقط على اجتهاده في الصلاة وحفظ الوصية، إنما يعتمد بشكلٍ سرائري على استقباله لنعمة الله في المسيح بالروح القدس. وهكذا، يعتبر كلاً من الانضباط النسكي وعمل نعمة الله عنصرين أساسيين في معجزة تقديس اللاهوتي! فالانضباط النُسكي هو الوعاء الذي تنسكب فيه نعمة الله، والذي – بديهيًا – بدون نعمة الله سيظل وعاء فارغ! من هذا المنظور، يدعو النزينزي كل لاهوتي إلى عملية ديناميكية للتحول الروحي الفائق للطبيعي من خلال التقديس، حيث شيئًا فشيئًا، يبدأ اللاهوتي في إدراكِ أسرار الله. وهكذا، فإن الانضباط النسكي لا يظهر كهدفٍ نهائي، وإنما كبوابة وطريق لرحلة الاستنارة والاتحاد ومعاينة الأسرار الإلهية.

الاستنارة والاتحاد: بنورك نرى نور! (مز ۳٦: ۹)

بالنسبة لغريغوريوس، الاستنارة هي الدخول لمعرفة الثالوث القدوس. وأساس استنارة اللاهوتي مُتأصِل في تجسُد الكلمة (اللوجوس/ العقل أو المنطق الإلهي). الكلمة صار جسدًا ليصير الإنسان إلهيًا من خلال استرداده – بالنعمة – إمكانية الاشتراك في النور الإلهي (خطاب ۲۹: ۱۸، ۲۸: ٤). علم اللاهوت الـمُعرَّف بشكلٍ صحيح هو الدخول لمعرفة (تذوق) سر الثالوث القدوس، وتُعرَّف هذه المعرفة بأنها المدخل لصيرورة الإنسان– من خلال الاتحاد بالمسيح – إلهيًا أي لاهوتيًا! وليلاحظ القاريء العلاقة بين الاتحاد بالمسيح – الذي هو اللوجوس (العقل والمنطق الإلهي) مُتجسدًا – وتَمكُن اللاهوتي من صياغة السبائك اللاهوتية – والذي يشمل برهانًا وتعبيرًا فائقًا لاسترداد الجوهر العقلي والمنطق السليم للإنسان!! إذًا، صيرورة اللاهوتي “لاهوتيًا” هي في جوهرها معرفة إعلانية اختبارية، من خلال الاتحاد بالمسيح، تؤدي إلى تقدم متواصل من التغيير في كينونة اللاهوتي من مجدٍ إلى مجد – وهي شركة دائمة في النور، صعود في تذوق الحياة، تتكمل من خلال اتحادًا حميميًا مع الثالوث الأقدس! أو كما عبّر اللاهوتي الآبائي جون ماكجوكين، فإنه وفقًا لغريغوريوس، فإن “الصعود والرؤية والإدراك” هي ثلاثة تعبيرات لمفهوم حياة الشركة والاتحاد التي يحياها اللاهوتي مع الثالوث القدوس وفيه. بحسب النزينزي، يمكن فهم جوهر الله والتعبير عنه فقط عن طريق الله (الخطاب ۲۸: ٦). الابن الوحيد يعرف الآب، والروح يفحص أعماق الله. يحتفل الله بحياته في هذه المعرفة الكاملة المتبادلة الموجودة في الشركة بين الآب والابن والروح في جوهر واحد. وتُشكِل هذه المعرفة الكاملة وعيًا ذاتيًا في الحياة الداخلية للثالوث وطبيعة إلهية خاصة تُشع كنور، يُستَقبَل هذا النور بواسطة اللاهوتي، فينطَبِع عليه (الخطاب ۳۱: ۲۹)؛ فينطلق اللاهوتي مُشعًا بدوره – بقدر تشبعه بالنور – بأحاديث وصياغات لاهوتية تحمل طاقة النور الذي استقبله، فتفتح الطريق أمام السامعين للتذوق، ومن ثَمَ الشوق للخبرة التشاركية الأصيلة مع الروح القدس. وقد انشغل النزينزي في بعض خطبه بوصف هذه الحالة من النطق اللاهوتي، التي تتجلى فيها ثمار التقديس والاستنارة والاتحاد التي يحياها المُشتغِل بعلم اللاهوت، عند مشاركته السامعين بالإعلانات الإلهية. وفي وصف النزينزي لهذه الحالة نقلةً تُمكِنُنا من فهم أحد ديناميكيات إنتاج الصياغات اللاهوتية ومركزية عمل الروح القدس فيها، وأيضًا تفتح الطريق أمامنا لاستيعاب أهمية النطق اللاهوتي في بناء مجتمع أناس الله، كما سنرى في الجزء الختامي من هذا المقال.

ديناميكية النطق اللاهوتي: فتحت فمي واجتذبت لي روحًا (مز۱۱۹: ۱۳۱/ السبعينية)

“فتحت فمي، وأُخِذتَ في الروح… وأعطيت نفسي وبالكلية للروح، في التمرن والكلمة وعدم التمرن والصمت. فقط لكي ما يحمل هذا (أي الروح القدس) ويوجه يدي وعقلي ولساني… أنا آلة إلهية، آلة عقلانية، آلة ضبطها وضرب عليها هذا الموسيقار الخبير، الروح القدس. بالأمس، أنتج صمتًا بداخلي – كانت فلسفتي ألا أتكلم. اليوم، يُشَغِّل عقلي – فسيُسمَع حديثي وستكون فلسفتي أن أتكلم…” (خطاب ۱۲: ۱).

يصف النزينزي نفسه في هذه الكلمات، كلاهوتي، على أنه آلة/أداة في يد الله يستخدمها كما يشاء. وبالطبع هذا مُرتبط ارتباطًا شرطيًا برحلة التقديس والاتحاد! توضح كلمات النزينزي إيمانه بالتأثير المباشر للروح على اللاهوتي المُكرس أثناء صياغته للتراكيب اللاهوتية أو حديثه عن الله. فهو يُعطي نفسه للروح كآلة، والروح يقوم بضبط أوتار هذه الآلة لإصدار النغمات. أي يُلهم الروح ويُنظِّم الأفكار اللاهوتية في ذهن اللاهوتي لتأهيله لتوصيل لاهوت منضبط ومُفصَّل جيدًا. ولينتبه القاريء العزيز لاستخدام النزينزي لعبارة “آلة إلهية عقلانية”، والتي تشير إلى هذا التكامل بين “التعقُّل/إعمال العقل” و”الإيمان” في فكره. فالإيمان والاتحاد بالمسيح (اللوجوس) لابد أن يهب القدرة على التَعقُّل ومن ثمَ ضبط الصياغات اللاهوتية. كما أن التأثير المباشر لمسحة الروح القدس أثناء النطق اللاهوتي هو الذي يقود العملية التعليمية. وهذا واضح في أقوال متعددة للنزينزي؛ فتارةً يبدأ خطابه بالقول: “الميرون والروح عليّ مرة أخرى” (خطاب ۹)، وتارة يؤكد أن الروح هو مَن يقود الحديث كله (خطاب ۲۸). أيضًا، في بداية خطابه الحادي والثلاثين يطلب من الروح أن يساعده في إلقاء خطاب مختصر موضح جيدًا، وفي ختام نفس الخطاب يوضح أن الروح – رفيقه الدائم – هو مَن ألهمه الكلمات، وهو مَن يعطي تفصيلات عن نفسه ومن ثمَ عن الثالوث. ويبدو أنه إذ تُنطَق وتُسمَع الكلمات المُلهَمَة بالروح يُستَعلَن مجال من الجذب الإلهي الذي يُفعِل بناء مجتمع أناس الله. وقد أدركت الكنيسة هذا في حقب مختلفة من تاريخها مما صنع جسورًا بين علم اللاهوت بصياغاته العقائدية والعبادة الكنسية بمفرداتها الاحتفالية، وهو ما سنتحدث عنه في المقال الثالث من هذه السلسلة في العدد القادم بمشيئة الرب. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يناير ۲۰۱۹

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.