Heaven Upon Earth Logo

علم اللاهوت وأبجدية العبادة في الكنيسة (۱)

مشاركة المقال:

المقدمة

أشرتُ في ختام المقال الثاني من هذه السلسلة – والذي جاء في أربعة أجزاء تحت عنوان “الروح القدس وصناعة شخصية اللاهوتي” – إشارةً موجزةً إلى إدراك الكنيسة باتجاهاتها المختلفة، عبر حقبٍ تاريخيةٍ متعددة، للعلاقة بين علم اللاهوت بصياغاته العقائدية والعبادة الكنسية بمفرداتها الاحتفالية. والحقيقة، فإن هذا المبحث – العلاقة بين علم اللاهوت والعبادة – يقف كشاهد أصيل على العلاقة الجوهرية بين علم اللاهوت والروحانية؛ إذ أن العبادة تُشكِل دائمًا محور الروحانية في التقاليد المسيحية المختلفة، بل وتظهر – بلطفٍ تارةٍ وبحدةٍ تارةٍ أخرى– كمؤشر واضح على صدق الروحانية ودرجة عمقها. لذا، فتأصيل العلاقة بين العبادة وعلم اللاهوت يصُب مباشرةً لصالحِ تأصيل العلاقة بين الروحانية وعلم اللاهوت. وببساطةٍ، فإن استكشاف أصالة العلاقة بين العبادة وعلم اللاهوت يدعم المصالحة بين هذا العلم والروحانية، وهو ما أسعى إليه في هذه السلسلة من المقالات. لذا، قارئي العزيز، فإن هذا المقال بأجزائه – وهو الثالث في هذه السلسلة – يناقش ماهية العلاقة بين العبادة وعلم اللاهوت، كما ينتقي من تاريخ الكنيسة لقطاتٍ تُجسِم هذه العلاقة وتشرح بعض تفصيلاتها.

العبادة وعلم اللاهوت: ماهية العلاقة

يُمْكِننا تعريف علم اللاهوت بإيجاز على أنه “الحديث عن الله”، بينما يُمْكِننا تعريف العبادة على أنها “الحديث مع الله”. وبالنسبة للكثير من اللاهوتيين عبر تاريخ الكنيسة، لا يستقيم الحديث “عن” إلا في سياق الحديث “مع”؛ أي أن الكلام عن الله (علم اللاهوت) يأخذ مكانه فقط في سياق خبرة الكلام مع الله (العبادة) وليس بمعزلٍ عنه. وهنا يظهر الكلام مع الله كشرط رئيسي للكلام عن الله، وتظهر العبادة ليس كعامل ثانوي في بناء التراكيب اللاهوتية، لكن كأساسٍ لا غنى عنه، وغيابه يتحدى التركيبة الجوهرية لعلم اللاهوت ككلام عن الله. وتأتي مركزية العبادة في الصياغات اللاهوتية من طبيعة العبادة كسياقٍ مفتوح للمقابلة الإلهية؛ حيث المقابلة الإلهية تتضمن إعلان، والإعلان مقابلة (revelation as encounter)، والصياغات اللاهوتية لابد أن تُؤسَس على حقٍ كتابي مُعلَن عنه لقلب اللاهوتي. وبينما تظهر العبادة هكذا كمُفرد تأسيسي للصياغات اللاهوتية، إلا أنه لا يمكن أن نغُض النظر عن الصياغات والتراكيب اللاهوتية في حد ذاتها كمُفرد تكويني للعبادة. فعلم اللاهوت بتراكيبه من المفترض به أن يوفر للعبادة جزءً أساسيًا من أبجديتها؛ تلك الأبجدية التي تُشكِل قوام الأغاني التعبدية! وبينما يتشكل جزء عظيم من أبجدية العبادة من مفردات علم اللاهوت، يُعاد تقديم هذه المفردات أثناء العبادة نفسها كذبيحةٍ قابلةٍ وخاضعةٍ للإنضاج بنيران الروح القدس وبأنواره! وهكذا تَنضُج التراكيب اللاهوتية ويزداد عمقها وتأثيرها. ولعل هذا المنظور يفسر قول عالم اللاهوت والمؤرخ الكنسي الألماني نياندر، في معرض حديثه عن أثناسيوس الرسولي، إن “القلب هو الذي يصنع اللاهوتي”. فالعبادة هي نبض القلب المُحب للمسيح، وتُعَد سياقًا من السياقات الأساسية التي يتم فيها نقش التراكيب اللاهوتية على قلب اللاهوتي الحقيقي.

أضاءت هذه العلاقة التبادلية – والتي تظهر فيها العبادة كسياق تأسيسي/اختباري/ مُنضِج للتراكيب اللاهوتية، كما تظهر فيها هذه التراكيب اللاهوتية بدورها كأبجدية تكوينية مُشكِلة لاحتفاليات العبادة – خلال حقب متعددة من تاريخ الكنيسة بشكلٍ يستحق أن نتمعن فيه عن قرب. وهذا ما سنفعله في الأجزاء التالية من هذا المقال من خلال قراءةٍ مُوجزةٍ في بعض التقاليد الروحية؛ مثل التقليد الآبائي الكبادوكي في القرن الرابع الميلادي، والتقليد الوسلي/تقليد القداسة في القرنين الثامن والتاسع عشر، والتقليد الخمسيني في القرن العشرين.

باسيليوس الكبير وكتابه عن الروح القدس: العبادة والتأصيل اللاهوتي

القديس باسيليوس الكبير – الذي عاش من عام ۳۳۰ إلى عام ۳۷۹ م – هو واحدٌ من الآباء الكبادوك (نسبةً إلى مقاطعة كبادوكية بآسيا الصغرى). ومن المعروف بشكلٍ عام، أن لاهوت الآباء الكبادوك لا يُقرر فصلاً واضحًا بين صياغات علم اللاهوت من ناحية، والعبادة وتقديم التسبيح والتمجيد للثالوث من ناحيةٍ أخرى. فبالنسبة للكبادوك، المعرفة اللاهوتية الكاملة هي في عبادة الآب والابن والروح القدس. وهذا المبدأ يتجلى واضحًا – على سبيل المثال لا الحصر – في الأحداث التي تكمن وراء تأليف باسيليوس لكتابهِ حول الروح القدس (De Spiritu Sancto – DSS)، الذي نحن بصدد التعليق عليه الآن.

يُقرر الكثير من العلماء أن باسيليوس كتب كتابه “الروح القدس” حوالي سنة ۳۷٥ ميلادية، أي بعد حوالي خمسين عام من انعقاد مجمع نيقية (۳۲٥ م)، وقبل سنواتٍ قليلةٍ من انعقاد مجمع القسطنطينية (۳۸۱ م). وأغلب الظن أن هذا الكتاب قد لعب دورًا كبيرًا في صياغة عقيدة الروح القدس في القسطنطينية. وكان الهدف من كتابة هذا الكتاب؛ هو الدفاع عن ألوهية الروح القدس من خلال الدفاع عن صيغة لاهوتية استخدمها باسيليوس في العبادة الكنسية واعترض عليها جماعة من منحرفي العقيدة. فبينما كان باسيليوس معتادًا على تقديم التمجيد لله من خلال صياغة لاهوتية تعطي “المجد للآب بالابن في الروح القدس”، بدأ في استخدام صياغة أخرى بالتبادل مع هذه الصياغة، وهي تقديم التمجيد لله بإعطاء “المجد للآب والابن مع الروح القدس”. وهنا اعترض المنحرفون. وظهر في اعتراضهم تقليلهم من شأن الروح القدس كأقنومٍ مساوٍ في الجوهر للآب والابن. وهنا هبَّ باسيليوس للدفاع عن ألوهية الروح من خلال كتابه “الروح القدس”.

القديس باسيليوس الكبير

وما أريد أن ألفت نظر القاريء العزيز إليه من خلال سرد هذا الحدث، هو العلاقة التكميلية التي تظهر ما بين العبادة وصياغة التعبيرات اللاهوتية. فباسيليوس كان يتغنى في عبادته بتمجيدٍ – أبجديته مُستمدة من قواعد لاهوتية كلاسيكية. فهو يُقدِم المجد للآب في الابن بالروح القدس، وهي صياغة تجد أساساتها في نصوص كتابية مُتعددة، وتلقي الضوء على تنوع أدوار الأقانيم الثلاثة مع وحدة جوهرهم. ثم فاض قلب باسيليوس بالروح أثناء عبادته في منطقةٍ لاهوتيةٍ مختلفةٍ، فانطلق يعبد بذكصولوجية (تمجيد) – لا تقل في أصالتها عن الأولى – وتُبرز التساوي بين الأقانيم مع وحدة الجوهر، وصار يُبادِل بين الصيغتين في عبادته. اشتعلت نيران الروح في القلب، ففاض بصياغات لاهوتية جديدة تُكمِل مع المعروفة روعة البناء اللاهوتي الإعلاني في الاحتفالية الكنسية، وتُثبت أن الليتورجيا الصحيحة هي علم لاهوت في حالةٍ ديناميكيةٍ موسيقيةٍ، وأن بالمثل علم اللاهوت هو أبجدية الليتورجيا الأصيلة في حالةِ سكونِ إيقاعها سكونًا ظاهريًا! وإذ اعترض الهراطقة على هذه الأبجدية في حالتها الديناميكية، عمل باسيليوس على تأصيلها – بشكلٍ استاتيكيٍ ظاهريٍ – من خلال نص لاهوتي مُطوَل يتمثل في كتابهِ “الروح القدس”، ضاربًا مثالاً حيًا لهذه العلاقة التبادلية التكاملية بين العبادة، وعلم اللاهوت، وفن صياغة التعبيرات اللاهوتية بالروح القدس!

والحقيقة، أن باسيليوس لم يكن مثالاً وحيدًا! إنما تعددت الأمثلة عبر تاريخ الكنيسة شرقًا وغربًا، تعزف سيمفونية التكامل بأصالةٍ، فكان التقليد الوسلي/ تقليد القداسة هو أحد النماذج اللامعة للعلاقة الوثيقة بين علم اللاهوت والعبادة في قرائن متعددة. وهذا هو قارئي العزيز، موضوع الجزء القادم من هذا المقال بنعمة الله. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في فبراير ۲۰۲۰

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.