Heaven Upon Earth Logo

علم اللاهوت وأبجدية العبادة في الكنيسة (۳)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز؛ تحدثنا في الجزءين الأول والثاني من هذا المقال – وهو المقال الثالث من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن ماهية العلاقة بين علم اللاهوت وأبجدية العبادة في الكنيسة. وقد رأينا شهادات حية من تاريخ الكنيسة للعلاقة التبادلية الديناميكية بين تطور صياغة التراكيب اللاهوتية من ناحيةٍ، واحتفاليات العبادة الكنسية من ناحيةٍ أخرى، وذلك من خلال دراسة مُبسطة لباسيليوس الكبير وسياق تأليفه لكتاب “الروح القدس”، وللأخوين وسلي ومركزية الأغاني الروحية في منظومتهما اللاهوتية. هذا، وقد سلطنا الضوء أيضًا على فكرة أن تأصيل العلاقة بين علم اللاهوت والعبادة يَصُبُ مباشرةً لصالحِ تأصيل العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية، ويَدعمُ المصالحة بينهما؛ إذ أن العبادة هي مركز الروحانية في معظم التقاليد المسيحية.

في الجزء الثالث من هذا المقال أعرض لك، عزيزي القاريء، نموذجًا آخر من نماذج التآزر الديناميكي بين صياغة التراكيب اللاهوتية وسياق العبادة الكنسية؛ وهو نموذج “تقليد القداسة”. وكما أشرتُ في الجزء السابق من هذا المقال، أقصد بتقليد القداسة: هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن التاسع عشر في أمريكا وكندا، ويُعد امتدادًا وتطورًا لاهوتيًا وتاريخيًا للتقليد الوسلي الكلاسيكي، مع الاحتفاظ بالأساسات اللاهوتية الوسلية، والبناء عليها بواسطة شخصيات تاريخية مُتعددة، سأتناول منها، على سبيل المثال في هذا المقال، الكندي رالف هورنر (۱۸٥٤ – ۱۹۲۱)، الذي كان فكره اللاهوتي هو أول نمط/نَسَق يأتي إلى مصر – وتحديدًا إلى صعيدها – من تقليد القداسة الوسلي.

تقليد القداسة وتكامل محاور التقوانية المستقيمة: الإيمان، والممارسات، والانفعالات (الاعتمالات)

قبل أن نخوض في الحديث عن سيمفونية التآزر التي تجمع الصياغات اللاهوتية والعبادة الكنسية في تقليد القداسة، ينبغي لنا عزيزي القاريء أن نُلقي الضوء على أن تقليد القداسة؛ هو واحدٌ من التقاليد التي تعكس – لاهوتيًا وتاريخيًا – هذا النمط من التقوانية الذي تتكامل فيه محاور ثلاثة: (۱) الإيمان المستقيم (Orthodoxy)، (۲) الممارسات المستقيمة (Orthopraxy)، (۳) الانفعالات/المشاعر/الاعتمالات المستقيمة (Orthopathy/right affections). بمعنى أنّ تقليد القداسة ينظر إلى هذه الأمور الثلاثة: العقيدة الإيمانية، وممارسات التقوى السلوكية والتعبدية، والانفعالات (البعض يفضل استخدام تعبير “الاعتمالات”)؛ على أنها محاور ثلاثة تُشَكِل معًا نسيج الحياة الروحية المستقيمة المتكاملة. وقد يكون المحوران الأول والثاني – العقائد والممارسات – بديهيين بالنسبة لكثيرين؛ بينما قد يبدو المحور الثالث – الانفعالات/المشاعر – ليس على نفس مستوى البديهية، لكن بنظرة سريعة على بعض الكلاسيكيات المسيحية مثل كتاب اللاهوتي جوناثان إدواردز (۱۷۰۳ – ۱۷٥۸) المُترجَم للعربية تحت عنوان “اعتمالات التقوى الأصيلة” (Religious Affections)، يمكن للقاريء أن يفهم أن أهمية المشاعر أو الانفعالات في هذه التقاليد تأتي من ارتباطها الجوهري بفضيلة الاتضاع والوعي العميق بعدم استحقاق الشخص لفيض نعمة ربنا يسوع المسيح، مما يُطلِق مشاعره – أي مشاعر الشخص – للتعبير عن الشعور بفضل النعمة (مثل داود النبي في احتفاله برجوع تابوت العهد)؛ وهذا التعبير تتفاوت درجاته لتبدأ من درجة الصمت (الذي قد يُدمَج في دهشٍ/غيبةٍ) وتصل إلى درجة البكاء أو الصياح أو الرقص. إن إدراك أبعاد هذه السبيكة الثلاثية المحاور مهمٌ بالنسبة لرؤيتنا لتآزر علم اللاهوت والعبادة في تقليد القداسة؛ إذ أن المحورين الثاني والثالث – أي الممارسات العملية، وتعبيرات المشاعر والانفعالات – قد تمَّ دمجهما معًا في سياق العبادة الكنسية التي تميزت بطابعها النهضوي في معظم حركات تقليد القداسة، وبالتالي تميز التعبير عن الاعتقادات والصياغات اللاهوتية في هذا التقليد بصيرورته تعبيرًا مُجسَدًا يتجلى في هذه العبادة النهضوية؛ أو بكلماتٍ أخرى صارت الاجتماعات الكنسية النهضوية لهذا التقليد هي مرآة الفهم اللاهوتي لعقائد القداسة بصياغاتها وتركيباتها! فصار فهم لاهوت تقليد القداسة – ومن بعده اللاهوت الخمسيني/الكاريزماتي – شبه مستحيل دون رؤية تراكيبه اللاهوتية مترجمة ومُجسدَة كيانيًا في اجتماعات العبادة النهضوية، مما صنع من لاهوت تقاليد القداسة مثالاً فريدًا للتآزر بين علم اللاهوت والعبادة؛ كما سيتضح لاحقًا من خلال تناولنا لنموذج من الأغاني الروحية المُستخدمَة في العبادة في تقليد القداسة، والتي تعكس التداخل الجوهري بين العقائد اللاهوتية ونمط العبادة الذي ساد هذا التقليد.

مبدئيًا، ولأجل فهم السياق التاريخي الذي صِيغَت فيه الأغاني الروحية/ أغاني العبادة التي سأتناول نموذجًا مُبسطًا لها لاحقًا، أُشير إلى أنّ هذا النمط من الأغاني الروحية كانت تتغنى به تحديدًا جماعات القداسة التي نشأت في قرينة التقليد اللاهوتي الذي أسسه الكندي رالف هورنر (۱۸٥٤ – ۱۹۲۱)، وهو نفسه الذي أرسل أول مرسلين قداسة يحملون الفهم اللاهوتي الوسلي إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر. هذا، ويمكننا القول بثقة بأن هورنر هو أحد أهم لاهوتيّ تقليد القداسة؛ إذ أنه طوَّر الوسلية الكلاسيكية من خلال صياغته لمنظومة لاهوتية نهضوية (لا يتسع المجال هنا للحديث عنها تفصيلاً)، مما كان له أبلغ الأثر في تغيير خريطة التقليد اللاهوتي الوسلي الكلاسيكي، وإشعال شرارة النهضة في كندا ومصر وأماكن أخرى حول العالم في القرن التاسع عشر، ويكفي أن نذكر في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر، أن في مصر وحدها كان لهورنر الفضل في تأسيس مذهبين من مذاهب القداسة الوسلية، والذين يتبعهما حوالي مئة وخمسين من الكنائس المصرية حتى يومنا هذا.

رالف هورنر (۱۸٥٤ – ۱۹۲۱)

أيضًا من الجدير بالذكر في سياقنا هذا، أنه أثناء صياغة هورنر للمفردات اللاهوتية المُؤسِسَة لتقليدهِ، قام بمراجعة كتابات جون وسلي – بحسب ترتيبها الزمني – وجمعَ منها اقتباسات متعددة حول الانفعالات/الاعتمالات التي كانت مُصاحبة باستمرار لاجتماعات وسلي، وقام هورنر بنشرها في كتابٍ واحدٍ. كان هدف هورنر من نشرهِ لهذا الكتاب؛ هو التأصيل التاريخي لنمط العبادة الموجود بالفعل في اجتماعاته، والذي تعكسه كلمات الأغاني الروحية المستخدمة في هذه العبادة، وربطه بشكل مباشر بالسياق اللاهوتي الوسلي، مما يتيح له تأصيل فكرة ارتباط نمط العبادة في اجتماعاته مع قواعد وصياغات لاهوتية محددة، كما سيتضح من السطور القليلة الباقية من هذا المقال.

"عواصف القوة" وتقليد القداسة الوسلي: صياغات لاهوتية أم واقع نهضوي؟

“بالروح القدس والنار… بالروح القدس والنار… عمدنا أجمعين!

هذا الوعد صار لنا.. ولكل القديسين.. مَن تطهروا تمامًا بالدم الزكي الثمين..

عاصفَ الخمسين أَرسِل.. على كل الطالبين.. بعلامةٍ واضحةٍ.. لجميعِ الحاضرين..”

(جزء من أغنية مُترجمة من الأغاني الروحية لتقليد القداسة)

يمكن رؤية نموذج واضح للعلاقة المتداخلة جوهريًا بين المعتقدات اللاهوتية والعبادة الكنسية في هذه الأبيات المُقتَبسَة من إحدى الأغاني الروحية الكلاسيكية لتقليد القداسة، والتي طالما تغنّت بها شعوب جماعات القداسة في عبادتهم. إذ تعكس كلمات الترنيمة حالة من الانتظار لعواصف القوة – كما سموها – يعيشها المُجتمِعون معًا لأجل العبادة، استنادًا على قناعة لاهوتية بحتمية استقرار “المسحة/ قوة الروح” على الكنيسة المُقدسة المُجتمعة للعبادة. شكّل هذا الاقتناع اللاهوتي بحتمية استعلان الحضور الإلهي/لسان النار/المسحة وسط عبادة المُقدسين، ركيزة أساسية في لاهوت القداسة المبكر، و”العلامة الواضحة” لهذا الحضور المُشار إليها في الأبيات موضع الدراسة؛ لم تقتصر على موهبةٍ بعينها من مواهب الروح (كما تجلى في تقاليد لاهوتية لاحقة)، وإنما قُصِد بها استعلان قوة الروح القدس وسط الحاضرين والتي تظهر (تُتَرجم) من خلال الانفعالات/المشاعر/الاعتمالات الروحية المختلفة. والممَيز في هذا السياق أن الفكرة/العقيدة اللاهوتية تحولت إلى انتظار يأخذ مكانه أثناء العبادة، ولا يُنظَر للعبادة على أنها قد بلغت محطتها النهائية في اجتماع المؤمنين؛ إلا من خلال اكتمال هذا الاستعلان الروحي لقوة الروح القدس. وبالتالي، فكل مرة يجتمع المؤمنون في التقليد الوسلي يسبحون ويصلون، لكن بالأولى ينتظرون مَن يعبدوه ويتحدثوا إليه، ليستعلن نفسه في وسطهم، ويضع ختمه بألسنة نيران روحهِ لإعلان التكميل الحقيقي لاجتماع العبادة، بكيفيةٍ يَصعُب جدًا فيها التمييز ما بين الواقع النهضوي والاشتياق لتذوق تحقق القناعات اللاهوتية، فيما يشبه سجالاً لاهوتيًا مُعاش/ قائم عمليًا للوقوف على أصالة عقيدة لاهوتية بعينها من خلال تذوقها! وهكذا؛ نرى سبيكة مُحكَمَة من تداخل الفكر اللاهوتي مع العبادة الكنسية، ويصل التداخل إلى حد عدم اكتمال الصورة النهائية لليتورجيا التعبدية بغير تحقُق شرط المُعتقَد اللاهوتي في سياق العبادة!

في العدد القادم، أتحدث معك عزيزي القاريء، مع بداية المقال الرابع من هذه السلسلة، عن بُعد جديد للمصالحة بين علم اللاهوت والروحانية؛ من خلال تسليط الضوء على الترادف الأصيل بين الجوهر العقلي (الإدراك وإعمال العقل) والتمييز الروحي بحسب الفكر اللاهوتي شرقًا وغربًا.

دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في إبريل ۲۰۲۰

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.