المقدمة
القاريء العزيز، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو المقال الرابع من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن تآخِي إعمال العقل والخبرة الروحية المستقيمة من خلال دراسة مُبسطة لرباعية البناء اللاهوتي الوسلي؛ حيث رأينا إعمال العقل والخبرة الروحية كضلعين يعملان معًا – ومع باقي أضلاع الرباعية – لإنتاج منظومة لاهوتية مُتَسِقَة تعمل على إنضاج الوعاء الفكري والعقائدي للكنيسة. ورأينا كيف أن الخبرة الروحية، في الرباعية الوسلية، تعمل كأحد مصادر التمييز والإعلان التي تمد العقل بمعطياتٍ مهمةٍ ولازمةٍ للتفكُر والوصول إلى نتائج مضبوطة. وقد أشرتُ إشارةً ضمنيةً إلى أن الدمج – غير المعتاد – لتعبيرات “التمييز” مع “إعمال العقل”، و”الإعلان” مع “التفكُر” قد لا يكون مُستساغًا للوهلةِ الأولى، خاصةً عند البعض ممن أصرُّوا على فصل التفكُر عن الروحانية فصلاً ليس أصيلاً ولم يعرفه تاريخ الفكر المسيحي. لذا، في هذا الجزء من المقال الرابع من هذه السلسلة، أود أن أُمَهِد لشرح الأُسس اللاهوتية للدمج بين تعبيرات “التمييز” و”العقل”، و”الإعلان” و “التفكُر”، من خلال التعريف بأحد التقاليد المسيحية المُبكرة؛ وهو تقليد آباء الصحراء، وتحديدًا رسائل أحد أعمدة هذا التقليد؛ وهو أنطونيوس الكبير (۲٥۱ م. – ۳٥٦ م.)، والتي تُعَدُّ مرجعًا مهمًا في هذا الدمج.
ومبدئيًا، أريد أن أوضح أن استخدام كلمة “التمييز” في هذا المقال بأجزائه لا يُقصَد به “موهبة التمييز” – إحدى المواهب الروحية التسع – المذكورة في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس والتي يُعطيها الروح القدس مُباشرةً كموهبةٍ روحيةٍ للبعض (وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ”/ ۱كو۱۲: ۱۰)؛ لكن يُقصَد به “التمييز كفضيلة” روحية تتطابَق مع قول كاتب رسالة العبرانيين: “أَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ” (عب٥: ۱٤)، وهي نفسها الفضيلة التي يشير إليها الآباء على أنها “أهم وأعظم الفضائل”.
أنطونيوس الكبير ومركزية أفكاره اللاهوتية في تاريخ الفكر المسيحي: ملاحظات تمهيدية
قبل الخوض في أفكاره اللاهوتية، أود أن أُعرِّف قارئي العزيز ببعض الملاحظات التمهيدية المهمة حول شخصية أنطونيوس الكبير والدور المركزي الذي لعبته رسائله في صياغة الفكر اللاهوتي المُبكر للكنيسة؛ إذ أن معرفة هذه النقاط التمهيدية يساعدنا على إدراك الأصالة الروحية للسياق الذي صاغ فيه أنطونيوس أفكاره، ويُمكِنُنا من رؤية محاور تكوين السبيكة اللاهوتية المتماسكة التي عبَّر من خلالها أنطونيوس عن تآخي فضيلة التمييز واستقبال الإعلان – من جانبٍ – كمفرداتٍ أصيلةٍ في الخبرة الروحية، مع إعمال العقل والتفكر – من جانبٍ آخر – كانعكاس لاسترداد صورة الله في الإنسان، كما سيتضح لاحقًا.
يُعدُّ أنطونيوس الكبير – الراهب المصري الذي وُلِد في يناير ۲٥۱ ميلادية (بالتقريب)، وتوفي في يناير ۳٥٦ ميلادية – واحدٌ من أبرز الشخصيات المحورية التي تُركِز عليها دراسات آباء الصحراء والرهبنة في الدوائر الأكاديمية؛ إذ يُشار إليه على أنه مُؤسس أول منهجية رهبانية ومجتَمع رهباني متكامل ومُلهِم لمَن أتى بعده من النُساك. بالطبع، كما تشير سيرته التي كتبها أثناسيوس الرسولي، لم يكن أنطونيوس هو أول الرهبان أو مؤسِس فكرة الرهبنة، بالرغم من شيوع هذا التَصوُر خارج الدوائر الأكاديمية؛ لكنه كان أول مَن وضع الرهبنة والنُسك في إطار منهجي يمكن استيعابه وتسليمه. وقد سَلَّمَ أنطونيوس بالفعل منهجيته الرهبانية إلى مقاريوس الكبير الذي صار بمثابة الوريث الشرعي لهذه المنهجية، التي انتشرت وصارت فيما بعد نموذجًا لمعظم الأنظمة الرهبانية والنسكية حول العالمز
واللافِت للانتباه هنا؛ هو أن أنطونيوس لم يأخذ تفرُّده وسط جيلٍ عظيمٍ من آباء الصحراء فقط نتيجة ما اشتهر به من ممارسة للنسك أو بسبب حروبه مع الشياطين والانتصارات الروحية التي أعطاه إياها الرب، على الرغم من عظمة هذه الجوانب بالتأكيد؛ غير أن أنطونيوس قد أخذ تفرده – كأب للرهبنة – من خلال تأسيسهِ لمنهج – منهج رهباني استردَّ فيه مركزية تآخي الإدراك العقلي الصحيح وتلازمِه مع التمييز الروحي – كما سأوضح بالتفصيل لاحقًا. صحيحٌ أن بعض الدارسين يرون أن أنطونيوس أخذ تفرده في تاريخ الكنيسة بسبب كتابة البابا أثناسيوس الرسولي بنفسه لسيرة حياة أنطونيوس، لكن الأطروحة التي أسعى لإثباتها – ولو بشكلٍ جزئي في هذا المقال – هي أن أثناسيوس لم يكن ليكتُب سيرة أنطونيوس من الأصل، لولا تفرُد أنطونيوس الفكري الذي ظهر جليًا من خلال منهجيته والمحتوى اللاهوتي الذي تعكسه رسائله. هذه الملحوظة التمهيدية مهمةٌ، إذ تُفنِد ذاك التَصوُر الخاطيء عن آباء البرية، والذي يُظهرهم فقط كأشخاص انعزاليين يحيون نمط نسكي من الحياة بعيدًا كل البُعد عن إعمال العقل وعن شركة الكنيسة، وهذا بالطبع ليس من الحقيقة بشيءٍ. لكن، على العكس تمامًا، يظهر أنطونيوس في التاريخ مُقدِمًا العون لأثناسيوس في صراعه ضد الأريوسيين. وبجانب صلوات أنطونيوس – المُتوقَعَة – لأثناسيوس، فإن بعضًا من أشهر دارسي الآباء يرون أن مساعدة أنطونيوس لأثناسيوس كانت على المستوى الفكري في المقام الأول، وهنا تأتي المكانة المتميزة لرسائل أنطونيوس وسط كتابات الآباء. فبحسب بعض دارسي الآباء، فإن رسائل أنطونيوس لعبت دورًا مركزيًا في تشكيل فكر أثناسيوس حول الخلاص. إذ يُجادِل، على سبيل المثال، عَالِم الآباء واللاهوتي الفرنسي “تشارلز كانينجيسر” لإثبات أن أثناسيوس كان تلميذًا لأنطونيوس، الذي كان يكبره في العمر بنحو أربعين عامًا، وأنَّ فكر أنطونيوس الخلاصي (Soteriological thought)، كان بمثابة القاعدة التي بنى عليها أثناسيوس الإطار اللاهوتي لتفسيراته الخلاصية؛ إذ إنه من غير المنطقي – بحسب كانينجيسر – أن يصير الابن تلميذًا لأبيه. هذا، ويشير متى المسكين إلى نفس الفكرة في كتابه “الروح القدس وعمله داخل النفس”، إذ يُقدِّم أثناسيوس كتلميذٍ لأنطونيوس، وكيرلس الكبير كتلميذٍ للأنبا مقار! وهكذا، بحسب هذه الأطروحة – وتبعًا لسجالات أكاديمية متعددة حول الترتيب الزمني للكتابات لا يتسع المجال للخوض فيها في مقالٍ قصيرٍ كهذا – تظهر لنا رسائل أنطونيوس كمصدرٍ أساسيٍ لكتاب “تجسد الكلمة” لأثناسيوس؛ الكتاب العظيم الذي يشغل مكانة مرموقة وسط أدبيات شرح الخلاص عبر تاريخ الفكر المسيحي.
إذًا، من خلال هذا المسار، يتضح أن أنطونيوس الكبير ورسائله إلى تلاميذهِ – والتي يتجلى فيها تآخي مفردات “التمييز” مع “العقل” أو “الطبيعة العقلية” – تُعَدُّ مصدرًا أساسيًا من مصادر تطور ونضوج الفكر الآبائي خاصةً فيما يخُص الإطار الخلاصي. وبناءً على هذا، فإن هذا المَبحَث لا يتناول نصوصًا على هامش الوعاء الفكري للكنيسة؛ بل نحن بصدد الحديث تفصيلاً عن تآزر بين الخبرة الروحية وإعمال العقل، من خلال نصوصٍ يراها بعض الدارسين كركيزةٍ محوريةٍ في صياغة الفكر الخلاصي في الكنيسة، مما يُؤصِل بمتانة لتماسك السبيكة الجامعة لكلٍ من “التمييز”– بتعريفه الذي أوضحته سابقًا – كمفرد أصيل في الخبرة الروحية، و”الطبيعة العقلية” كمرادف للتفكر وإعمال العقل، بل ويضع إعمال العقل أو استرداد عمل “الطبيعة العقلية” بشكلٍ صحيحٍ كمؤشرٍ واقعيٍ للروحانية الصحيحة، كما سأشرحُ باستفاضةٍ في الجزء القادم من هذا المقال. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يونية ۲۰۲۰