Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (١) – ما بين أكسفورد وبرية شيهيت!

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – نماذجًا مختلفةً تجلت فيها المصالحة؛ سواء من خلال شخصياتٍ جسّدت التآزر بين علم اللاهوت والروحانية – مثل: غريغوريوس النزينزي، وباسيليوس الكبير، والمسكين، وتشارلز فيني، والأخوين وسلي، وهورنر، وسينان – أو من خلال منهجيات عكست هذا التآزر وأصَّلَتُه مثل: منهجية النزينزي لصناعة شخصية اللاهوتي، والرباعية الوسلية للبناء اللاهوتي. في هذا المقال ومقالاتٍ تاليةٍ، أودُّ أن أتعمق في شرح بعض المفردات اللاهوتية التي تُشكِّل جوهر التقليد الوسلي/ تقليد القداسة كنموذجٍ واقعيٍ لفكرٍ لاهوتيٍ (مُنتَج لاهوتي متكامل) تمت صياغته من خلال منظور المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية. وأهدُفُ من وراء التعمق في شرح المفردات اللاهوتية الوسلية إلى: إثبات أن التحقُق من أصالة المصالحة المرجوة ممكنًا، ليس فقط من خلال عرض لشخصيات آمنت بالمصالحة أو تحليل منهجيات بُنيت على فكرة المصالحة، لكن أيضًا من خلال تذوق منظومة لاهوتية تاريخية نبتت ونضجت كثمرة لهذه المصالحة – المقصود منظومة اللاهوت الوسلي – والتي أعادت تشكيل خريطة الفكر اللاهوتي عبر تاريخ الكنيسة، لدرجة اعتبارها إصلاحًا للإصلاح بواسطة كثير من الدارسين. وللتذكرة؛ أقصد – عبر سلسلة المقالات هذه – بالتقليد الوسلي: هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن الثامن عشر في إنجلترا، ويعتمد على كلٍ من جون وسلي (۱۷۰۳ – ۱۷۹۱) وتشارلز وسلي (۱۷۰۷ – ۱۷۸۸) كمرجعية لاهوتية وتعليمية، بينما أقصد بتقليد القداسة: هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن التاسع عشر في أمريكا وكندا، ويُعد امتدادًا وتطورًا لاهوتيًا وتاريخيًا للتقليد الوسلي الكلاسيكي، مع الاحتفاظ بالأساسات اللاهوتية الوسلية، والبناء عليها بواسطة شخصيات تاريخية مُتعددة. والآن، قبل الخوض في مفردات اللاهوت الوسلي التي تشهد للمصالحة، قد يكون من المفيد أن نلقي نظرةً أقرب على مشاهد من حياة جون وسلي – مؤسس التقليد الوسلي – لنتعرف على السياق الذي شَكّل احتضان وسلي المُبكِر لفكرة المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية.

وسلي: سنوات النشأة في أكسفورد

بدأ جون وسلي رحلته في أكسفورد عام ١٧٢٠ عندما تمّ قبوله للدراسة بكلية كنيسة المسيح (Christ Church College)، ثم حصل بعدها بسنوات على زمالة كلية لينكولن (Lincoln College) بأكسفورد في مارس ١٧٢٦، وتمّ اختياره في نوفمبر من نفس العام كمحاضر للغة اليونانية، وبعدها بعام تقريبًا، نال وسلي درجة الماجستير في الآداب، وظل يقوم بمهام التدريس في نفس الكلية لسنوات (فيما عدا شهور قليلة) حتى نهاية عام ١٧٣٤. عاصر وسلي أثناء سنوات وجوده في أكسفورد نهضة لترجمة كتابات الآباء من اليونانية، كانت جزءًا من نهضة أشمل لقراءة الكلاسيكيات اليونانية، مما كان له أبلغ الأثر على تكوينه الفكري واللاهوتي. وبينما وسلي يقضي سنوات شبابه المبكر في أكسفورد في قلب الحقبة المعروفة بعصر التنوير (Age of Enlightenment) أو عصر المنطق/ التفكر (وهي حقبة شغلت السواد الأعظم من سني القرن الثامن عشر وتميزت بحركات فلسفية وفكرية تُعلِّي من شأن سيادة العقل والأدلة)، كان في نفس الوقت يقرأ الكثير من كتابات الآباء – خاصةً آباء الشرق – والتي تميزت بطابع سرائري مستيكي يختلف اختلافًا كبيرًا عن السمات الفكرية المنتشرة آنذاك في الغرب. فعلى سبيل المثال: احتلّت عظات مقاريوس الكبير من برية شيهيت بمصر – بما لها من طابع سرائري مميز – مكانةً لا يُستهان بها وسط قراءات وسلي كما يتضح من كتاباته! وفي ثنائية فريدة، يتلاقى في وجدان وسلي هدوء رهبنة شيهيت وسرائريتها، مع صخب أكسفورد الأكاديمي! إذًا، عاش وسلي سنواته المبكرة منخرطًا في سياق عصر التنوير بسجالاته في القرن الثامن عشر بأكسفورد، وفي نفس الوقت، قارئًا بشغف لمصادر آبائية مستيكية، معظمها آتٍ من الشرق، من القرون الميلادية الأربعة الأولى! وبينما تصاعدت وتيرة السجالات الفكرية في أكسفورد لاستبيان موقع “الإعلان/ (Revelation)” من نظريات المعرفة/ (Epistemology)، كانت بذار المنظومة الوسلية الجامعة للتفكر مع الخبرة المستيكية في طريقها للاصطفاف بداخله، مُكونةً الإرهاصات الأولى لمصالحة علم اللاهوت مع الروحانية في التقليد الوسلي!

وسلي مُغنيًا على أنغام قيثارة مقاريوس المصري!

جون وسلي
مقاريوس الكبير

مع تعدُد وتنوع اقتباسات وسلي من الآباء في كتاباته – والتي تبلغ أكثر من مائتي اقتباس – تلمع إشارات وسلي لمقاريوس الكبير لمعانًا خاصًا! إذ يشير وسلي إلى مقاريوس ثمانِ إشاراتٍ (تمّ جمعها وتحقيقها بواسطتي في رسالة الماجستير التي تمت مناقشتها عام ٢٠١٠)، بعضها يغلب عليه الإسهاب مثل: ترجمة وسلي لأجزاء كبيرة من عظات مقاريوس، وسيرة مقاريوس بقلم وسلي في الجزء الأول من مكتبته المسيحية، وإشارات أخرى مهمة جدًا لا يتسع المجال لذكرها كاملةً هنا. وسط هذه الإشارات تقف الإشارة المُدَونة في مذكرات وسلي في الثلاثين من يوليو عام ١٧٣٦شاهدةً عن عمق التأثير الذي صنعته عظات مقاريوس – من برية شيهيت – بداخل وسلي المرتدي لعباءة زمالة كليات أكسفورد آنذاك. إذ يكرر وسلي في مذكراته في ذلك اليوم عبارتي “قرأتُ مقاريوس”، “وغنيتُ” بالتبادل مرات عديدة ما بين الساعة السادسةِ فجرًا والرابعةِ عصرًا! وبمعرفة أنّ وسلي كان قد أبحر إلى مستعمرة جورجيا في أكتوبر ١٧٣٥، ووصل في فبراير من العام التالي، وغادر في ديسمبر ١٧٣٧، يتضح حرص وسلي على اصطحاب نسخة من عظات مقاريوس معه أثناء رحلته إلى أمريكا؛ حيث قضى وقته مع مقاريوس مستمتعًا بما يقرأه، وتاركًا العنان لكلمات مقاريوس المصري لتلهمه وتصل به لمرحلة الغناء! وعلى الرغم من أن وسلي – حتى هذا التاريخ – لم يكن قد عبر باختبار ألدرزجيت (Alders-gate) – ٢٤ مايو ١٧٣٨ – حيث تغيير حياته ويقينه من كفاية عمل المسيح لخلاصه، غير أنه من الواضح أن الروح القدس كان يستخدم معه عظات مقاريوس الكبير كإحدى أدوات النعمة البادئة (وهي ببساطةٍ، بحسب التعريف الوسلي، عمل الروح القدس في كلٍ منا أثناء مرحلة ما قبل التجديد، بهدف ولادة الإنسان ثانيةً) لتنويره واجتذابه إلى الحياة الروحية الحقيقية. وبإلقاء نظرة فاحصة على عظات مقاريوس بما تحتويه من تعاليم عن حياة الكمال المسيحي، ووضعها جنبًا إلى جنبٍ مع تعاليم وسلي واقتباساته من مقاريوس، خاصةً بعد اختبار تجديده، يكتشف الباحث عمق التقارب بين فكر مقاريوس واللاهوت الوسلي! ويبقى انجذاب وسلي لكتابات مقاريوس، واستخداماته المتعددة لها، كشاهد على التلاقي بين الأكاديمية الآتية من عصر التنوير في أكسفورد مع الروحانية السرائرية الآتية من قلب صحراء مصر الغربية حيث برية شيهيت، تلاقيًا أعطى للتقليد الوسلي أحد مصادره التي شكلت مكانته المتفردة في عالم المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية، والتي من النادر تكرارها في التاريخ من دونِ قطع نفس المسافة التنويرية/ الروحية التي قطعها وسلي في رحلته الفكرية بين أكسفورد وبرية شيهيت! في العدد القادم، استكملُ معك بنعمة الرب عزيزي القاريء، حديثنا حول مفرداتٍ أخرى من التقليد الوسلي تلمع في سياق المصالحة. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أكتوبر ۲۰۲۰

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.