المقدمة
القاريء العزيز، بدأنا الحديث في المقال السابق من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – حول بعض المفردات اللاهوتية التي تُشكِّل جوهر التقليد الوسلي/ تقليد القداسة، لنعطي من خلالها نموذجًا واقعيًا لفكرٍ لاهوتيٍ متكامل تمت صياغته من خلال منظور المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية أو المصالحة بين الأكاديمية والروحانية. وقد أوضحت أني أهدف من وراء رحلة التعمق في شرح مفردات المنظومة اللاهوتية الوسلية إلى: إثبات أن التحقُق من أصالة المصالحة المرجوة ممكنًا، ليس فقط من خلال عرض لشخصيات آمنت بالمصالحة، أو تحليل منهجيات بُنيت على فكرة المصالحة، لكن أيضًا من خلال تذوق منظومة لاهوتية تاريخية – المقصود اللاهوت الوسلي – نبتت ونضجت كثمرة لهذه المصالحة. وقد بدأنا رحلتنا هذه في المقال السابق – ما بين أكسفورد وبرية شيهيت – بالتركيز على أحد مفردات السياق التكويني للتقليد الوسلي، ألا وهو التلاقي بين الأكاديمية الآتية من عصر التنوير في أكسفورد مع الروحانية السرائرية الآتية من قلب صحراء مصر الغربية حيث برية شيهيت – روحانية مقاريوس المصري – كنموذج لروحانية آباء الشرق. في هذا المقال، نصل إلى محطة أخرى من محطات التلاقي بين الأكاديمية والروحانية في التقليد الوسلي، وذلك من خلال عرض مُبسط لقراءة جون وسلي لبعض نظريات المعرفة (Epistemology/Theories of Knowledge) التي كانت واسعة الانتشار في عصره في إطار علاقتها بانفتاح الحواس الروحية والاختبار الروحي الذي يظهر كأحد المفردات المركزية في التقليد الوسلي.
ما بين فلسفة ديكارت وفلسفة جون لوك
وًلِد جون وسلي عام ١٧٠٣، قبل قرابة عام واحد من انتقال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (١٦٣٢ – ١٧٠٤)، وإذ بلغ وسلي مرحلة الشباب، وأثناء دراسته في أكسفورد، كان السجال جليًا بين الفلسفة اللوكية – نسبة إلى جون لوك خريج كلية كنيسة المسيح بأكسفورد (نفس الكلية التي تخرج فيها وسلي) – والفلسفة الديكارتية – نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦ – ١٦٥٠) – بشأن نظريات المعرفة، تلك النظريات التي حاولت الإجابة عن الأسئلة المحورية حول مصدر معرفة الإنسان وكيفية هذه المعرفة والسبيل إلى تأكد الإنسان من حقيقة ما يعرفه. في السطور الآتية، سأعطي فكرة مُبسَطَة عن المدرستين؛ ليدخل معي قارئي العزيز في عمق سجالات وسلي مع المدرستين. ككن
بدأ ديكارت منهجه الفلسفي المعرفي – والذي يُسمى بالمنهج العقلاني (Rationalism) – من نقطة الشك في كل معرفة، لكن لم يكن الشك في حد ذاته هو نهاية المطاف عند ديكارت (مثل رواد مذهب الشك مثلاً/ Skepticism)، لكن كان الشك هو مدخل ديكارت لاختبار اليقين وأصالة المعرفة. وانطلق ديكارت في فلسفته من وعيه المؤكد بأن أول حقيقة يمكنه أن يثق فيها هي كونه “يفكر” فيما يشك فيه! أي أن جميع المعارف يمكن أن يُشَكَك فيها الإنسان، فيما عدا حقيقة معرفته في أنه يفكر في شكوكه! وهذا أدى بديكارت إلى وضع ثقته في العقل الإنساني الذي يفكر باعتباره الحقيقة التي لا يمكن التشكيك فيها. فمجرد الشك يشير إلى التفكير ويثبته، وبالتالي يشير إلى أصالة عقل الإنسان وواقعية عملية التفكير، بل ويشير إلى حقيقة وجود الإنسان كلها! لذا، صار المبدأ “أنا أفكر، إذًا أنا موجود” هو خير تعبير عن فلسفة ديكارت. من هذه اليقينية، انطلق ديكارت ليبني فلسفته مدافعًا عن العقل كمصدر أولي للأفكار، والذي يحتضن – تبعًا لديكارت – بشكلٍ طبيعيٍ معرفة سليقية/فطرية (innate knowledge) في استقلالية تامة عن المعرفة الحسية والخبرات التجريبية، وهذه الأفكار الفطرية إذ تُشغَل بواسطة العقل تنتج أفكارًا أخرى وليدة، وهكذا ينمو الوعاء الفكري للإنسان. بالنسبة لديكارت، الأفكار الفطرية هي جزء من طبيعة الإنسان العقلية، والكثير من المباديء المُتفَق عليها إنسانيًا هي أيضًا جزء لا يتجزأ من طبيعة/ فطرة الإنسان العقلية. فالإنسان، بحسب ديكارت، يولد بعقل يحتضن معرفة ومباديء فطرية غريزية كامنة، ويُرجَع ديكارت هذا إلى صلاح الله الذي خلق الإنسان. رفض ديكارت “إدراك الحواس” كمصدر مُوَثَق للمعرفة؛ فالإدراك الحسي، عند ديكارت، على الرغم من كونه مصدرًا لبعض المعارف، غير أن هذه المعارف الحسية لا يمكن أن تمدَّ الإنسان بأي معرفة يقينية، لأن الحسي متغير؛ لكن يمكن التعامل مع الإدراك الحسي فقط كمُحفِز للمعرفة الفطرية، لتظهر هذه المعرفة الفطرية – بأصالتها – في إطار تفاعلي مع المُحفِز، وإذ يقوم العقل بتشغيلها، ينتج أفكارًا جديدة وليدة هذا التشغيل. أي أن الإدراكات الحسية هي فقط مصدر تحفيزي لظهور ما هو منقوش بالفعل على ألواح العقل البشري؛ الذي هو الأفكار السليقية/ الفطرية، والتي ترتفع جوهريًا فوق أي أفكار أخرى مصدرها خبرات حسية.
أما بالنسبة لجون لوك، فقد بدأ منهجه الفلسفي برفض فكرة الأفكار الفطرية/ السليقية رفضًا قاطعًا. فالعقل أو الذهن البشري بالنسبة لجون لوك في جوهره هو صفحة بيضاء لا تحتوي أي أفكار فطرية كامنة. لكنه – أي العقل – يستقبل الخبرات والإدراكات الحسية والتي تمدَّه بالمصدر الأولي أو بالمادة الخام للمعرفة، ويُشَغِل العقل هذه الإدراكات الحسية مُستخدمًا ملكاته كعقل فاعل يفكر ويستنتج، لينتج معرفة يقينية مبنية على ما دخل إليه من معطيات حسية. وهنا، لابد أن ألفت نظر قارئي العزيز إلى أن النقطة الجوهرية في فلسفة لوك هي اعتماده على الحواس كمصدر للمدخلات التي يُشغلها العقل فيصل إلى المعرفة، مما يرفع من مقدار الخبرة (Experience) إلى علوٍ لم تبلغه في نظريات المعرفة من قبل. فالخبرة عند جون لوك تظهر كعامل أساسي يمكن الاعتماد عليه وموثوقٌ به (reliable) للحصول على المعرفة، وهذه النقطة تحديدًا كانت إحدى نقاط تلاقي فكر وسلي مع لوك، بعد إعادة بلورتها بواسطة وسلي لتناسب سياق المعرفة الروحية، كما سيتضح لنا لاحقًا.
مركزية يقظة الحواس الروحية في فكر وسلي وعلاقتها بنظريات المعرفة
مثلهُ مثل جون لوك، رفض وسلي المبدأ الديكارتي حول كون العقل يحتضن أفكارًا فطرية كامنة ينبغي الاعتماد عليها كأنقى مصادر المعرفة. ويمكننا ربط هذا الرفض الوسلي للمبدأ الديكارتي مباشرة بقناعة وسلي بنتائج السقوط وفساد الإنسان فسادًا كليًا. فإنه على عكس ما يظن كثيرون، وسلي كان مُقتنعًا تمامًا – مثلهُ مثل مصلحين آخرين – بفساد الإنسان كليًا، لكن وسلي اختلف عن الكثيرين في إيمانه بأن نعمة الله ترد للإنسان الفاسد بطريقةٍ معجزيةٍ فائقة للطبيعة بعضًا من مَلكَاتهِ بشكل جزئي (خاصةً في دائرة الإرادة)، فيما يعرف في اللاهوت الوسلي بالنعمة البادئة/ السابقة – وقد أشرت لها إشارة موجزة في المقال السابق وسأستفيض في شرحها بجانب الفهم الوسلي عن الخطية الأصلية والفساد في مقالات لاحقة.
وعودةً إلى حديثنا، بالنسبة لوسلي، فكرة ديكارت غير مقبولة لأن الإنسان سقط وفسد. وبالتالي، بافتراض احتواء عقل الإنسان على أي أفكار فطرية كامنة، فإنه لا يمكن الاعتماد عليها بثقة بعد السقوط لتشكيل معرفة الإنسان. وهنا يتفق وسلي مع لوك على لزوم وجود مصادر خارجية لإمداد العقل بالمفردات التي يُعمٍلُها، للوصول إلى أفضل النتائج (مع كونها لن تكون مثالية بسبب فساد العقل نفسه). وبالنسبة للوك ووسلي، فإن الحواس الطبيعية والمعرفة الحسية هي مصادر هذه المفردات. وهنا يتفق وسلي مع لوك على إعلاء “الخبرة” كمصدر يمكن الاعتماد عليه ليعمل متآزرًا مع العقل والتفكر لصياغة معرفة الإنسان. وانطلاقًا من مركزية الخبرات الحسية في معرفة الإنسان الطبيعية، ينطلق وسلي ليصيغ متوازيةً خاصةً بالمعرفة اللاهوتية.
ويبدأ وسلي بإيضاح أن المعرفة اللاهوتية لا يمكن أن تُبنى على الحواس الخمسة وإدركاتها الحسية، لكنها كنوع من المعرفة التي يقتنيها العقل الإنساني بإعمال مدخلات تصل إليه – وهي نوعٌ رفيعٌ – تحتاج حتمًا إلى مصادر لهذه المدخلات، وهذه المصادر لا يمكن أن تكون الحواس الخمسة! وهنا تظهر مركزية “استعادة ويقظة الحواس الروحية” في المنظومة اللاهوتية الوسلية! فوسلي يرى أنه في التجديد يبدأ استرداد الصورة الأولى للإنسان (Restoration of the First Image)، وهذا الاسترداد أول ما يُستعاد فيه هو الحواس الروحية. فاختبار التجديد يحمل يقظة حياة للحواس الروحية التي فُقدت في السقوط، وإذ تُستعاد الحواس الروحية بما تشمله من تذوقٍ (ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب/ مز ٣٤: ٨)، ورؤيةٍ (بعد قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضًا ترونني/ يو ١٦: ١٦)، ومعاينةٍ (طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله/ مت ٥: ٨)، وغيرها، يستعاد معها استقبال كيان الإنسان (شاملاً عقله) للمفردات التي يُمكن تشغيلها للحصول على المعرفة الروحية. فمن خلال عمل الروح القدس في إيقاظ الحواس الروحية، يدخل الإنسان المُجَدد إلى واقعية خبرة الشركة الإلهية، ومن ثَم بداية المعرفة الحقيقية. مثلهُ مثل لوك – كلٌ في تخصصه – يقف وسلي مُعلِنًا عدم كفاية عقل الإنسان ليكون مصدرًا أوحدًا للمعرفة! فالإنسان كائنٌ في الطبيعي لا يمكن أن تتكمل معرفته من دون خبرات خارجية، فكم بالحري احتياجه للخبرة/ للاختبار/ للتذوق لتتكمل معرفته الروحية! وهكذا تظهر الخبرة الروحية في المنظومة الوسلية كأحد الأعمدة الجوهرية لصياغة الفكر اللاهوتي وللشهادة لأصالة المعرفة الروحية. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في نوفمبر ۲۰۲۰