المقدمة
القاريء العزيز، أشرت في المقال السابق من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – وفي سياق حديثنا عن “النعمة البادئة” كمفرد رئيس في منظومة اللاهوت الوسلي، إشارةً موجزةً إلى الأساس المعجزي للحياة المسيحية – بحسب التقليد الوسلي – كما يظهر من خلال عمل النعمة البادئة في كيان كلِ إنسان، من أجل تفعيل الإرادة الحرة تفعيلاً جزئيًا، ومن ثم تعطيل قوى الفساد الكلي بشكلٍ جزئيٍ يسمح للإنسان باتخاذ قراره بقبول الخلاص أو رفضه، في مصالحةٍ واضحةٍ بين واقعية الفساد الكلي وصلاحية الإرادة الحرة، وفهمٍ متوازنٍ لمشيئة الله لخلاص الجميع جنبًا إلى جنبٍ مع مسئولية الإنسان في التجاوب مع هذا الخلاص العظيم المُقدَم من الله المحب لجنسِ البشر.
في هذا المقال بأجزائه – وهو التاسع من هذه السلسلة – أود أن أسلط الضوء على الأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي كما يظهر في التقليد الوسلي. وأبدأ بشرح البُعد المعجزي في تعاملات النعمة البادئة بوصفها بداية رحلة الإيمان المسيحي بحسب التقليد الوسلي، ثم أمضي معك قُدُمًا -عزيزي القاريء- في وصف رحلة الإيمان هذه؛ لإبراز استمرارية البُعد المعجزي فيها، من خلال دراستنا لمبدأ “قابلية النعمة للإدراك”، أو ما يمكن تسميته “بالمدركية الواعية/الحسية للنعمة” (Perceptibility of Grace)، وعلاقة هذا المبدأ بالحضور الإلهي المُعلن (Manifested Presence of God)، وانفتاح حواس المؤمن الروحية، موضحًا كيف تُشكل هذه التعريفات والمباديء معًا أساسًا لاهوتيًا مهمًا للتأصيل لديناميكيات الحركات النهضوية بدءًا من نهضات “جون وسلي” في القرن الثامن عشر، ومرورًا بنهضات تقاليد القداسة والنهضات الخمسينية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ووصولاً إلى النهضات الكاريزماتية المعاصرة. وأود هنا أن أُذكر القاريء العزيز – كما أشرت في مقالات سابقة – بأن عرضنا لهذه المفردات من التقليد الوسلي، يندرج تحت فحصنا لنموذجٍ واقعيٍ لفكرٍ لاهوتيٍ (مُنتَج لاهوتي متكامل) تمت صياغته من خلال منظور المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية؛ لإثبات أصالة المصالحة المرجوة وواقعية تَحقُقها.
المقصود بتعبير "الأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي"
بدايةً، أعطي تعريفًا لتعبير “الأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي” بأنه: الأصل أو المبدأ الفائق للطبيعة، المُستَمَد من قدرة الله اللانهائية، والذي يُشكل جوهر حياة الإيمان المسيحي. فجوهر الحياة المسيحية – بحسب التقليد الوسلي – معجزي (أي يعتمد في أصله على استعلان قدرة الله في حياة الإنسان). والمعجزة هي إظهار قدرة الله وقوته فيما يعجز عنه الإنسان. ومع أنها – أي المعجزة – تبدأ من حيث يعجز الإنسان، إلا أنها في الأغلب تُمكِن الإنسان –خاصةً مُستَقبِلُها– من تذوق خبرات تسمو فوق إمكانياته الطبيعية. وبالتالي، فالمقصود هنا بالأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي هو: التدخل الإلهي الفائق للطبيعة في حياة الإنسان، والذي يسمو بالإنسان من حالته الطبيعية لأخرى مُتجَلِية، وهو يُشكل الأصل والقاعدة الأساسية لحياة الإيمان المسيحي من بدايتها، ومرورًا بمراحلها المختلفة في هذه الحياة، ووصولاً إلى تجليها النهائي في الدهر الآتي. فحياة الإيمان المسيحي – كما تظهر في الفكر الوسلي – هي حياة معجزية فوق طبيعية في بدايتها واستمرار رحلتها وتجليها النهائي، كما سأوضح في التفصيلات التالية.
أولاً: الأساس المعجزي كما يظهر في عمل النعمة البادئة/ المُمَكِنة
في مقالاتٍ سابقةٍ، تناولنا الحديث تفصيلاً عن عقيدة النعمة البادئة في التقليد الوسلي. وما أود أن أسلط الضوء عليه في هذا المقال، هو الطبيعة المعجزية للنعمة البادئة/ المُمكِنَة؛ حيث تُرَى هي نفسها – النعمة البادئة – كمُدْخَل فوق طبيعي مُوَجَه للتأثير على/ في الكيان الإنساني، لتمكين الإنسان الفاسد من تشغيل وتوجيه إرادته لاختيار ما يختاره. فبالنسبة لوسلي، لا يوجد ما يُعرَف بالإرادة الحرة العاملة بكفاءة بشكل فطري في الإنسان الفاسد! نعمة الله البادئة/ المُمَكِنَة– وفقط نعمة الله – هي التي تُمكِن الإرادة الحرة من العمل في الإنسان الطبيعي.
في العهد الجديد، تَجسُد الكلمة وفر الأساس الكياني لتطعيم طاقات النعمة البادئة في الإنسان تطعيمًا كيانيًا، فصار الإنسان – وكل إنسان – في العهد الجديد – بعد موت الرب وقيامته – قادرًا على الاختيار الحر من خلال هذا التمكين الكياني المعجزي. أما في العهد القديم، فقد تجلت النعمة البادئة، بشكلٍ عامٍ، من خلال المصنوعات: “لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ” (رو١: ٢٠)، وبشكلٍ خاصٍ، من خلال الوصية: “إِنَّ هذِهِ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ لَيْسَتْ عَسِرَةً عَلَيْكَ وَلاَ بَعِيدَةً مِنْكَ” (تث٣٠: ١١). فالتمكين هنا – في العهد القديم – يتم من خلال تعاملات الله الموجَهة للتأثير على كيان الإنسان ليُدرك الحضور الإلهي ويتلامس مع القدرة الإلهية من خلال خليقة الله وصنائعه ووصاياه وأحكامه؛ وذلك ليصنع استعلان الحضور الإلهي وطاقاته، من خلال المفردات السابقة، تحريرًا جزئيًا للإرادة الإنسانية – موازيًا لهذا الذي يحدث جوهريًا في العهد الجديد – لكي يتمكن الإنسان من اختيار الطريق حسبما يشاء. وفي هذا الصدد، يمكن رؤية معجزة تمكين الإرادة هذه في العهد القديم في بُعدَين؛ البُعد الأول: ويتلخص في معجزة استخدام المصنوعات أو الوصية نفسها بشكل فائق للطبيعة من أجل خلق إدراك يصاحبه تمكين إرادة مُدرِكة عند الإنسان! فالمصنوعات أو الوصايا –بشكلٍ مجرد أو منفصل عن القدرة الإلهية– لا تُحفِز ولا تُمكِن! ولكن نعمة الله وقدرته السرمدية، تُفعِل هذه الأدوات كقنوات لإطلاق الطاقات الإلهية المُمَكنة لإرادة الإنسان الحرة. أما البعد الثاني: فيمكن تلخيصه في تأثير استخدام هذه المفردات على الإنسان؛ والذي يتضح في التعطيل الجزئي/ المؤقت الذي يحدث لمنظومة الفساد الكلي، من خلال الطاقات الإلهية المُوجَهَة عبر قنوات المصنوعات والوصايا، ومعه يحدث الشفاء والتمكين الجزئي لإرادة الإنسان. وتبعًا لهذا الفهم، فإن تراكيب اللاهوت الوسلي تُبنَى بناءً رصينًا على الإقرار بمركزية البُعد المعجزي الفائق للطبيعي في حياة كلِ إنسان. فالإنسان – كل إنسان – له نصيب في نعمة الله البادئة بكيفية معجزية لا يُمكن تتميمها إلا بتدخل فوق طبيعي لقدرة الله في حياة الإنسان.
وليلاحظ القاريء الفَطِن هنا، أنه بالرغم من اختلاف ديناميكية عمل النعمة البادئة بين العهدين القديم والجديد من “نعمةٍ مُوَجَهة عبر المصنوعات أو الوصية المعطاة” إلى “مُعَامل إصلاح أنثروبولوجي جوهري” – كما أوضحت في المقال السابق – فإن العامل المعجزي المُستَعلَن في التأثير فوق الطبيعي المُوَجه بالروح القدس للإنسان عبر رحلته مع الله، لا يتغير ولا يُنتَقَص منه سواء في العهد القديم أو الجديد. فسواء كان التأثير موجَهًا عبر مؤثر خارجي في العهد القديم، أو مُطَعمًا كيانيًا في الإنسان في العهد الجديد، فهو في الأصل معجزة تعتمد على القدرة الإلهية المُختَرِقة بمحبة فائضة لعجز الإنسان وفساده الكلي، لتَرُدَّ له قبسًا بسيطًا من إنسانيته التي أفسدها السقوط ولتَضعَهُ في موضع مسئولية حقيقية عن اختياراته. وما أن يبدأ الإنسان في استخدام هذه الفرصة المعجزية الإلهية المصدر والمُمَكنة لإرادته في الاتجاه الصحيح، حتى تنفتح له طاقات الروح في أبعاد معجزية أخرى، ويدخل إلى معجزة إدراك النعمة بشكلٍ واعٍ/حسي، فيما يُعرف في التقليد الوسلي “بالمدركية الواعية/الحسية للنعمة” أو “إمكانية إدراك النعمة والحضور الإلهي بالحواس الروحية”، والتي سأتحدث عنها باستفاضة في الجزء القادم من هذا المقال. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في فبراير ۲۰۲١