المقدمة
عزيزي القاريء، في الجزء الأول من هذا المقال – وهو التاسع من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – بدأنا الحديث عن الأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي، بحسب التقليد الوسلي، من خلال فهم البُعد فوق الطبيعي في تعاملات النعمة البادئة بوصفها بداية رحلة الإيمان المسيحي. في الجزء الثاني من هذا المقال، أمضي معك قُدُمًا -قارئي العزيز- في تَتبُع استمرارية البُعد المعجزي في حياة الإيمان المسيحي، وذلك من خلال الحديث عن مُفرد رئيس يتخلل نسيج رحلة الإيمان بتنوع محطاتها، ألا وهو مبدأ “قابلية النعمة للإدراك”، أو ما يمكن تسميته “بالمدركية الواعية/الحسية للنعمة” (Perceptibility of Grace)، وعلاقة هذا المبدأ بالحضور الإلهي المُعلن (Manifested Presence of God)، وانفتاح حواس المؤمن الروحية. فكما تظهر المعجزة في سياق عمل “النعمة البادئة” كأداة أساسية، ومبادرة إلهية خالصة، لإعداد المسرح لبداية رحلة خلاص الإنسان، فإنها تظهر أيضًا -أي المعجزة- في سياق مبدأ “مدركية النعمة الحسية” كأداة أساسية لتمكين الإنسان الذي يسير في رحلة الخلاص، وتشكيله وتغييره إلى صورة المسيح عينها، وترقيته من مجدٍ إلى مجدٍ، وذلك من خلال فتح حواسه الروحية، بطريقة فائقة للطبيعة، لإدراك مفاعيل النعمة في كيانه، جنبًا إلى جنبٍ مع إدراكه للحضور الإلهي المُعلَن، وتذوقه، والغوص فيه، والتشبُع به!
مبدأ "قابلية النعمة للإدراك" أو "المدركية الواعية/ الحسية للنعمة"
بدايةً، أود أن ألفت انتباه القاريء العزيز إلى الارتباط الوثيق بين المعجزة والنعمة في التقليد الوسلي. فكلما قصدنا أن نتحدث عن مركزية المعجزة والبعد فوق الطبيعي في الحياة المسيحية، نجد أنفسنا وجهًا إلى وجهٍ أمام نعمة الله بإظهاراتها المختلفة! فبحسب الفكر الوسلي، النعمة هي أساس البعد المعجزي/الفائق للطبيعة في الحياة المسيحية، بدايةً بعمل النعمة البادئة، واستمرارًا بإدراك تجلي النعمة الذي يلمع من خلال مبدأ “قابلية النعمة للإدراك” الذي نتناوله بالدراسة في هذا المقال.
ولأجل فهم المعنى الكامن وراء مبدأ “المدركية الواعية/ الحسية للنعمة” أو “قابلية النعمة للإدراك”؛ ينبغي أن نبدأ بمفهوم “الخبرة” في التقليد الوسلي، لنوضح ما الذي أضافه وسلي لمفهوم “النعمة” بتركيزه الدائم على بُعد “الخبرة/ الاختبار” في الحياة المسيحية، ومن ثم يتضح لنا مفهوم “المدركية الواعية للنعمة”. ولأجل إيضاح البُعد الذي أضافه وسلي لمفهوم النعمة، يكفي أن نشير ببساطة إلى تركيز الإصلاح الغربي في القرنين السادس والسابع عشر – ما قبل وسلي – على تعريف نعمة الله بأنها “الغفران أو القبول” (وهو بالطبع معنى صحيح، ولا يمكن تجاهله، لكنه ليس جامعًا)، مقارنةً بتركيز وسلي على تعريف نعمة الله بأنها “القوة” للتغيير واسترداد الصورة الإلهية (مع اشتمالها بالتأكيد على منحة الغفران والقبول). ولا يخفى على القاريء الفَطِن أن التباين القائم بين تعريف النعمة الذي كان سائدًا قبل وسلي في دوائر الإصلاح الغربي بتركيزه على الغفران كمرادف شبه حصري للنعمة، وتركيز وسلي بعد ذلك على تعريفه للنعمة على أنها القوة للتغيير (مع اشتمالها على الغفران)، إنما يعكس في الحقيقة جوهر التباين بين اللاهوت الغربي والشرقي بشكل عام.
فاللاهوت الغربي يُركز على النعمة بوصفها الغفران، بينما يركز اللاهوت الشرقي على النعمة بوصفها القوة المُمَكنة. وهنا يكمُن البعد الأساسي لمدركية النعمة أو قابلية النعمة للإدراك في اللاهوت الوسلي. فعوضًا عن اختباء النعمة بشكل ماورائي في بعض الأفكار السابقة للتقليد الوسلي، صار البحث عن النعمة – بحسب العدسة الوسلية – ليس بحثًا فقط عن الغفران، لكن بالأحرى بحثًا عن قوة مُمَكِنة للنفس الإنسانية للانفلات من الفساد بتمكين واقعي حياتي. نعم، تشمل النعمة الغفران، لكن تمتد مفاعيلها، لتُدرَك من خلال تجليات نتائج تمكينها، وإمكانية ترجمتها في تغيرات أنثروبولوجية تُتَمَم في كيان الإنسان ويُعبَر عنها في واقعه الذي يحياه من خلال حياة الكمال المسيحي. ولإيضاح هذا التباين في سياقه التاريخي، يمكن الإشارة لبعض المفردات – فيما قبل وسلي – مثل “صكوك الغفران” أو “الاختيار المُسبَق المزدوج”، والتي عملت على تعميق فكرة عدم إمكانية إدراك النعمة بشكل واعٍ (Consciously)؛ إذ تضمنت التعبير عن النعمة إما كمنحة مؤسساتية ذي أبعادٍ ماورائية (صكوك)، أو كاقتناع عقائدي بفرمانات جوهرها أيضًا ماورائي، إذ لا يمكن للإنسان أن يعي أسبابها (اختيار مُسبَق مُطلق)، وفي كلٍ من الحالتين نُقل تأثير النعمة إلى بُعدٍ ماورائي لا يمكن ترجمته إلى مُدرَك فعلي. فجاء التقليد الوسلي ليُعبر عن النعمة كقوة فاعلة ومجال تأثير مفتوح، يدخل فيه الإنسان مُستجيبًا بإرادته بكيفيةٍ واعية، فيولد بالروح، وتعمل فيه القوة، وتفيض روح البنوة، ويصرخ قلبه بالروح هاتفًا: “يَا أَبَا الآبُ” (رو٨: ١٥)! يُعلق وسلي في أحد خطاباته على هذه الآية مؤكدًا مبدأ المُدركية الواعية الحسية للنعمة في قلب الإنسان، ومُتعجبًا كيف يمكن للإنسان أن يحيا هذا المستوى بدون إدراك واعٍ.
ومن الواضح تمامًا عند وسلي أن الوعي بمفاعيل قوة الروح (المُستنِد على قابلية النعمة للإدراك) يرتبط ارتباطًا جوهريًا يانفتاح الحواس الروحية بقوة النعمة، لتمكين هذه الحواس من إدراك عمل الروح القدس بتنوع مستوياته: سواء على مستوى داخلي في نفس الإنسان، أو على مستوى خارجي – يحيط بالإنسان في واقعه – من خلال تجلي قوة الروح في موجات الحضور الإلهي المُعلن (Manifested Presence of God)، وهنا تتضح مركزية المعجزة في حياة الإيمان المسيحي، إذ أن القوة الإلهية العاملة في الإنسان (النعمة) تفتح حواسه، بكيفية معجزية، ليسترد الصورة الإلهية – والتي يُعد التمييز مُكون أساسي فيها – فيتمكن من إدراك التغيير الكياني الحادث فيه بالروح القدس إدراكًا عميقًا. وإذ يرى الإنسان مفاعيل هذا التغيير الكياني مُعبَر عنها بواقعية في تجلي حياته، وترقيها بشكلٍ اختباري إلى مستويات متتابعة من المجد والقوة والنصرة على الخطية وتذوق قوات الدهر الآتي بشكل عربوني، يتأكد من القيامة المعجزية التي حدثت لحواسه الروحية، ويدرك – من دون شكٍ – انتقاله من مجال سلطان العالم الطبيعي إلى مجال سلطان الروح القدس الفائق. ويصاحب هذا الإدراك الداخلي لمفاعيل القوة المُستعلنة في نفس الإنسان، إدراك عميق أيضًا للحضور الإلهي المُعلَن في حياته، إذ تَهُف عليه أذيال الحضور الإلهي المُعلَن، فتبدأ حواسه في إدراك واستيعاب النعمة المُتحركة في الحضور الإلهي الذي يحيط به، فيبدأ في تذوق انفعالات كيانية متنوعة من جراء التأثر بهذا الحضور الإلهي المُعلَن، فيما يُعَد أبسط رد فعل للمدركية الواعية الحسية للنعمة المستعلنة في الحضور الإلهي!
معجزة إدراك الحضور الإلهي المُعلَن
فهم مبدأ “المدركية الواعية/ الحسية للنعمة” في التقليد الوسلي ينقلنا انتقالاً مُتقنًا لفهم مركزية المعجزة – أو البعد فوق الطبيعي – في انفتاح الحواس الروحية للإنسان، ومن ثمَ يؤصل لاستمرارية البُعد المعجزي في مختلف مراحل حياة الإيمان المسيحي. فالخبرة الروحية في فكر وسلي – تبعًا لما عرضناه – هي خبرة/اختبار أو تذوق واقعي لقوة النعمة بشكل مُدرَك. وهذه الخبرة تُبنَى في الأصل على طبيعة النعمة، كنعمة قابلة للإدراك في جوهرها! فكما شعر الرب يسوع المسيح له المجد بالقوة التي خرجت منه، والتي ظهرت مفاعيلها مباشرةً في وقف النزف عند المرأة نازفة الدم، هكذا؛ فإن المُتذوق لقوة النعمة، يرى تأثيراتها مباشرةً، متجليةً فيه، ومن حوله، بإدراكٍ واعٍ. وتكمُن المعجزة هنا في عملية الإدراك هذه في حد ذاتها! إذ أن إدراك المُدرِك للنعمة من خلال انفتاح حواسه الروحية، والذي قد يُعبَر عنه بانفعالات/مشاعر/اعتمالات حسية (Orthopathy/ راجع الجزء الثالث من المقال الثالث من هذه السلسلة) هو في حد ذاته معجزة مستمرة شاهدة لقوة النعمة في استرداد الصورة الإلهية في الإنسان الجديد. وهنا، ينبغي الإشارة إلى أن الانفعالات/الاعتمالات المُختَبرَة من قِبَل الإنسان في هذه الحالة ليست ذاتية التَولُد، لكنها في الحقيقة تأتي كاستجابة لمؤثر خارجي أصيل، وهو الحضور الإلهي المُعلَن بكل ما يذخره من طاقات إلهية فائقة. وهذا يقودنا بشكل مباشر إلى فهم ديناميكيات الحركات النهضوية، والتأصيل لها لاهوتيًا، بدءًا من نهضات “جون وسلي” نفسه في القرن الثامن عشر، ومرورًا بنهضات تقاليد القداسة والنهضات الخمسينية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ووصولاً إلى النهضات الكاريزماتية المعاصرة. إذ أن جميع هذه النهضات قامت، وتقوم على، يقين بإدراك كياني/شخصاني/اختباري للحضور الإلهي المُعلَن. يتفق على هذا اليقين، ويشهد له مؤيدو هذه النهضات. وبالطبع، يجد هذا الإدراك اليقيني للحضور الإلهي المُعلَن تأصيلاً لاهوتيًا واضحًا – في التقليد الوسلي – من خلال مبدأ المدركية الواعية الحسية للنعمة، والتنبير على معجزة انفتاح الحواس الروحية بقوة الروح المُستعلنة في النعمة المتحركة في الحضور الإلهي المُعلَن. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في مارس ۲۰۲١