Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (٥) – الجزء الثاني – رؤية الزمان من الأبدية: وسلي وفلسفة بوئثيوس

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو العاشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – حول طبيعة علم الله المُطلَق/ المُسبق، وفهم علاقة علم الله – تبارك اسمه – مع أبعاد الزمن الأرضي/ الإنساني. وذلك، لتمكيننا من إدراك أصالة حرية الإرادة الإنسانية، بالتناغم مع الإيمان المستقيم بعلم الله المُطلَق؛ لنعرض إطارًا لاهوتيًا يقدم إجابةً للسجال الذي يبحث في كيفية اتفاق هاتين الحقيقتين – علم الله المُطلق وواقعية حرية الإرادة الإنسانية – رغم تناقضهما الظاهري. أو بكلمات أخرى؛ للإجابة عن أسئلة لاهوتية مهمة مثل: كيف تتسق حقيقة علم الله المُسبق بكل شيء مع واقعية الحرية الإنسانية؟ أليس علم الله الكلي بالمستقبل يفرض على الأحداث ضرورة حدوثها، وبالتالي يُقيِد حرية إرادة الإنسان؟

وبدأنا حديثنا، في الجزء الأول من هذا المقال، بوضعِ أساس مهم، وهو إيضاح كون الزمن مخلوق بواسطة الخالق. وبالتالي، فإن قوانين زمننا هذا ليست ضرورة في عالم الألوهة، شأنها في هذا شأن باقي المصنوعات. ثم أوضحنا حقيقة أن الزمن – حيث أنه مخلوق – غير مُطلَق. وأن اختبار الزمن وتذوقه، يختلف بشكل نسبي من إطار زمكاني لإطار زمكاني آخر، وذلك من خلال تقديمنا لشرح مُبسَط لكيفية تتابع الزمن على كوكب الأرض مقارنةً مع أزمنة الكواكب الأخرى. وهذا الشرح أعطانا مفتاحًا لفهم كيف أن “الآن” تَعبُر علينا، ونتذوقها بحسب وضعها في إطارنا الخاص (أي زماننا ومكاننا)، بينما نفس”الآن” تُرَى من جانب الله وتُختبَر بحسب وضعها/ماهيتها في زمنه السرمدي. ورأينا كيف أن فهم التناغم بين علم الله الكلي/المسبق وحرية الإرادة الإنسانية – كما شرحه جون وسلي – يكمن في إدراك الاختلاف بين طبيعة اختبار الزمن بالنسبة للإنسان وطبيعة اختبار الزمن بالنسبة لله، وهذه تُشكِل القاعدة الأساسية للتعامل مع قضية علم الله وحرية الإنسان. فبينما يُرى/يُختبَر الزمن من الجانب الإنساني في تتابع: ماضي، وحاضر، ومستقبل (Sequential)، وكل منها تشكل “الآن” في زمانها بالنسبة للإنسان؛ فإنه – أي الزمن – يُرى/يُختبر من الجانب الإلهي كدفقة واحدة – أو نبضة مفردة (Single Pulse) – تفاصيلها متزامنة/ في تزامن (Synchronization)، وكلها حاضرة – “الآن” – بالنسبة لله في زمنه الآني.

في الجزءين الثاني والثالث من هذا المقال، أود أن اتعمق أكثر في شرح هذه الأطروحة، من خلال عرض لأمثلة إيضاحية بسيطة، يصاحبه الإشارة لمصادر آبائية وفلسفية مبكرة، من المحتمل أن يكون وسلي قد اعتمد على بعضها في بناء أطروحته. كما أود أن أعرض بعض مفردات نظرية النسبية لأينشتاين، من أجل تسليط الضوء على إمكانية قراءة وجهة نظر وسلي والآباء، جنبًا إلى جنبٍ، مع نظريات الفيزياء الحديثة من دون تنافر، مما قد يدفع مَسَاعِى الحوار بين علم اللاهوت وفروع العلوم الأخرى، كما أشرت قبلاً.

التتابع والتزامن في تذوق الزمن: رؤية الماضي والحاضر والمستقبل كدفقة واحدة!

لشرح التباين/ الاختلاف بين اختبار الإنسان لأحداث الزمن في تتابع (ماضي، حاضر، مستقبل) في إطاره الزمكاني الأرضي، ورؤية الله لنفس الأحداث في تزامن كنبضة واحدة حاضرة/ آنية في إطاره السرمدي، سأبدأ بالاستعانة بمثال توضيحي بسيط. إذا تخيلنا رجلاً يجلس في غرفةٍ ما، وهذه الغرفة يفصلها عن غرفةٍ ثانية حائط، والغرفة الثانية تحتوي سجادة ومنضدةً وكرسي؛ فإن الرجل الجالس في الغرفة الأولى، بديهيًا، لا يمكنه رؤية أثاث الغرفة الأخرى؛ نظرًا لوجود الحائط الذي يفصل بين الغرفتين، وبسبب طبيعة رؤية الرجل التي لا يمكنها تخطي المنظور الأفقي، أي أنه يستطيع فقط رؤية ما يواجهه من ارتفاع الحائط الفاصل بين الغرفتين (ما يُسمى في اللوحات الهندسية مسقط أفقي أو جانبي: Elevation & Side view). ولكي يتمكن الرجل من رؤية محتويات الغرفة الثانية، لابد أن يخرج من باب الغرفة الأولى، ويسير صوب الغرفة الثانية، قاطعًا المسافة بين الغرفتين في زمن ما، ليتطلع للغرفة الثانية أو يدخلها ويرى محتوياتها. وبالتالي فإن رؤية الغرفتين – التي يمكن اعتبارها هنا حدثين منفصلين – تتم في هذا الإطار الأفقي في تتابع زمني مرتبط بالحركة (مثلاً؛ التواجد في الغرفة الأولى: ماضي، الانتقال بين الغرفتين: حاضر، رؤية الغرفة الثانية: مستقبل). بينما إذا افترضنا عدم وجود سقف للغرفتين، وافترضنا أن نفس الرجل يُحلق بطائرة هليوكوبتر فوق المبنى المُحتوي للغرفتين؛ فإن الرجل نفسه سيرى الغرفتين معًا في دفقةٍ واحدة/ لحظة واحدة/ تزامن من دون تتابع. سيرى الرجل من المنظور الرأسي (ما يُسمى في اللوحات الهندسية مسقط تخطيطي: Plan) الغرفتين بأضلاعهما، والحائط الفاصل بينهما كخط مستقيم، وأثاث الغرفة الثانية كخطوط ودوائر، في لحظة واحدة في تزامن من دون الحاجة إلى الحركة في الزمان والمكان! هذا المثال البسيط يشرح لنا إمكانية رؤية نفس المفردات/ الأحداث من منظورين مختلفين؛ أحدهما منظور تتابعي، والآخر تزامني، باختلاف السياق الذي تتم منه المشاهدة. وبالتطبيق على حركة الإنسان في الزمن، نفهم أن الإنسان يتذوق الزمن في أبعاده الثلاثة بالتتابع (ماضي، حاضر، مستقبل)، بينما في عالم الألوهة، يرى الله الزمن من خارج هذه الأبعاد الثلاثة، إذ هو خالق الزمن بأبعاده، فيراه من خلال عدسته الفوقية التي تحتوي الأبعاد الثلاثة في زمنه الآني/ مشاهدته الحاضرة دائمًا. كأنما تشمل لحظة المشاهدة/ الرؤية الإلهية كل زمن الأرض من بداية التكوين لنهاية الرؤيا في احتواء سرمدي، يُشكل العلم الإلهي الكلي (بالنسبة لنا: مُسبق)، وفي نفس الوقت لا يُخِل بحرية الإرادة للإنسان الذي يتذوق هذا الزمن بتتابعه في إطاره المخلوق.

يشرح الفيلسوف “بوئثيوس” (٤٧٧ – ٥٢٤ م.) – والذي قدم صموئيل وسلي فلسفته لإبنه جون وسلي للقراءة في بداية حياته، وذكره جون وسلي في سجالاته فيما بعد – ماهية اللحظة الآنية وكيفية احتوائها للزمن الإنساني بأبعاده الثلاثة، إذ يقول في كتابه المُترجم للعربية تحت عنوان “عزاء الفلسفة”: “يأبى العقل البشري أن يعتقد بأن الفكر الإلهي يمكنه أن يرى بأي أسلوبٍ يتجاوز أسلوبه هو في المعرفة… ولما كان كلُّ حُكمٍ يدرك تلك الأشياء التي تعرِض له وفق طبيعته هو، ولما كان وضع الله هو دائمًا وأبدًا وضع حضورٍ سرمدي، فإن معرفتَه أيضًا تتجاوز كلَّ تغيرٍ زمني، وتبقى قائمةً في فورية حضوره. إنها تَضُم كل الأعماق اللانهائية للماضي والمستقبل وتنظرها في فورية عرفانها كما لو أنها تحدث في الحاضر؛ ومن ثم، فإن شئت أن تتأمل المعرفة المسبقة، أو الرؤية المسبقة، التي يكشف بها كلَّ الأشياء، فسيكون من الأصوب أن تنظر إليها لا على أنها نوع من المعرفة المُسبقة بالمستقبل، بل على أنها المعرفة بحاضرٍ لا يريم… لأنها قائمةٌ بعيدًا عن الأمور السفلية وتَستشرِف جميع الأشياء كأن من ذروةٍ عاليةٍ عليها جميعًا” (انتهى الاقتباس).

ويضيف “بوئثيوس” موضحًا كيفية تناغم المعرفة الإلهية الكلية مع حرية الإرادة الإنسانية من هذا المنظور، قائلاً: “أنه كما أن معرفة الأشياء الحاضرة لا تُضفي ضرورةً على ما يجري (في الحاضر) فإن سبق العلم الإلهي لا يضفي ضرورةً على ما سوف يحدث (في المستقبل)… هذه المعرفة الإلهية المسبقة لا تُغيِّر من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرةً لها تمامًا كما سوف تَحدُث ذات يومٍ في المستقبل (في زماننا)، إنها لا تُوقِع اضطرابًا في الأشياء بل تميز بلمحةٍ واحدةٍ مِن عقلها كلَّ ما سوف يحدث… وبالمثل أنتَ عندما ترى في الوقت نفسه رجلًا يمشي على الأرض والشمس تشرق في السماء، فرغم تزامن المنظرين فأنت تُميز بينهما وتحكم أن أحدهما مراد والآخر ضروري، وبنفس الطريقة تُبصر عين الله الأشياء جميعًا من دون أن تُربك طبيعتها؛ فهي بالنسبة له أشياء حاضرةٌ وإن تكن تحت شرط الزمان أشياء مستقبليةً.” (انتهى الاقتباس).

هذا، ويمكن تفسير رأي بوئثيوس كالآتي:  كما أن معرفة الإنسان – من خلال المشاهدة – للأمور الحاضرة (التي تجري الآن في زمنه) لا تضفي ضرورة على ما يحدث أمامه، هكذا فإن العلم الإلهي (الذي بالنسبة لزماننا “سابق”) لا يضفي ضرورة على ما سيحدث (الذي بالنسبة لزماننا “مستقبل”)، وذلك لتوازي “الآن” في البعد الإلهي مع “الماضي والحاضر والمستقبل” في البعد الإنساني. فكما أن مشاهدة الإنسان للحدث الآني لا يُضفي ضرورة على ذات الحدث، هكذا فإن معرفة/رؤية الله للأحداث الماضية والحالية والمستقبلة لا تضفي أي ضرورة على الأحداث بتنوعات أزمنتها بالنسبة للإنسان، وذلك لأنها جميعها “آنية/الآن” عند الله. وبالتالي، تُرى – من هذا المنظور – حرية الإرادة الإنسانية  في تناغم مع علم الله المُطلق/ المُسبق بالنسبة لنا، من دون ارتباك.

ويوضح بوئثيوس تباين طبيعة المعرفة الإنسانية عن الإلهية بتشبيه بديع، بقوله: ” إن الناس تظن أن كل معرفتها تعتمد على طبيعة موضوعات المعرفة وقابليتها لأن تُعرف، وهذا خطأ فادح، والنقيض هو الصحيح: فكل ما يُعرَف إنما يُعرف وفقًا للقدرة المعرفية للعارف، لا لطبيعة الشيء المعروف/المُدرَك. دعني أوضح لك ذلك بمثال: فاستدارة جسمٍ ما قد تُدرَك بطريق البصر وقد تُدرَك بطريق اللمس، أما البصر فيظل على مسافةٍ من الجسم ويَرَى الكلَّ في آنٍ واحدٍ بواسطة أشعة الضوء، وأما اللمس فيقترب من الجسم ويمسك بمحيطه الحقيقي ويدرك استدارته جزءًا جزءًا” (انتهى الاقتباس).

والحقيقة، فإن بوئثيوس، من خلال هذا التشبيه، يقترب من مفردات الفيزياء الحديثة التي تساعدنا في فهم نسبية الزمن، ومن ثَمَّ فهم نسبية الإدراك باختلاف الوضع الزمكاني للمُدرِك، وهذا ما سأتناوله معك، عزيزي القاريء، تناولاً تحليليًا في الجزء القادم من هذا المقال، مع عرضٍ موجزٍ لبعض الآراء الآبائية التي تتوافق مع أطروحة وسلي وبوئثيوس لفهم طبيعة الزمن. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في يوليو ۲۰۲١

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.