المقدمة
القاريء العزيز، في المقال السابق تناولنا عقيدة “الكمال المسيحي” – تناولاً مبدئيًا – كمنوذج للمصالحة بين العقائد اللاهوتية وحياة الإيمان العملية. ورأينا كيف تُشكِل هذه العقيدة المحورية في التقليد الوسلي نقطة ربط جوهرية لاستعلان التآزر بين الفكر اللاهوتي والتَغيُر الكياني الذي يَحدُث في المؤمن منتجًا سلوكه العملي في الحياة، مما يرد للتقوانية المسيحية (أي سبيكة الفكر والممارسات) إتساقها التاريخي الذي تشهد عنه كتابات آباء الكنيسة في القرون الأولى.
في هذا المقال، الثاني عشر من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية، بأجزائه، أستعرض معك عزيزي القاريء بعضًا من ملامح رحلة الخلاص – بحسب التقليد الوسلي – من خلال إلقاء الضوء على مفرادات أساسية في هذه الرحلة؛ كالعلاقة الجوهرية بين التبرير والتقديس في حياة المؤمن، وماهية اختبار التقديس وموقعه كمدخل للكمال المسيحي في خريطة رحلة الخلاص، مما سيؤول بنا إلى رؤيةٍ سلسلة لحتمية برهنة العقيدة من خلال حياة الإيمان، ومن ثم المصالحة المرجوة بين حياة الإيمان والتعبير عنها لاهوتيًا في عقائد. وأبدأ هذا العرض بإيضاح مهم للتعبير الوسلي عن الطبيعة الديناميكية التفاعلية للاختبارات المسيحية، فيما يُطلَق عليه “خريطة طريق الخلاص” بحسب التقليد الوسلي.
مُخطط ترتيب الخلاص أم خريطة طريق الخلاص؟
بينما اعتاد دارسو التقاليد المصلحة التعبير عن خلاص الإنسان من خلال ما يسمى بمُخطط ترتيب الخلاص (Ordo Salutis/ Order of Salvation)، يرى الكثير من دارسي التقاليد الوسلية والآبائية أن التعبير الصحيح عن خلاص الإنسان – والأكثر اتساقًا مع المفاهيم الخلاصية الوسلية/الآبائية – لابد أن يكون من خلال ما يمكننا تسميته: خريطة طريق الخلاص (Via Salutis/ The Way of Salvation)، وليس مُخطط ترتيب الخلاص. وعلى الرغم من أن هذه الملاحظة قد تبدو للبعض فرعية وغير جوهرية، غير أنها – في الحقيقة – ملاحظة ذات ثقل في دراسات علم الخلاص (Soteriology)، ومهمة بشكل خاص لأجل فهم صحيح للتعليم الوسلي/ الآبائي حول مفردات الحياة المسيحية كالتبرير والتقديس والكمال المسيحي، ولأجل استرداد اتساق مفهوم العقيدة مع حياة الإيمان العملية.
تأتي أهمية هذه الملاحظة من كون التعبير الذي تركز عليه التقاليد المُصلحة – مُخطط ترتيب الخلاص – يُستخدم في قرائنه، غالبًا، للإشارة إلى ترتيب مراحل تبدو كجزر منفصلة بعضها عن بعض، ولا تؤثر أيًا منها في الأخرى. ويظهر فيها الإنسان كأنه ينتقل من حالة إلى حالة بشكل غير مترابط، ومؤسس على قرارات مصدرها سلطة أعلى منه، وترتيبها مُعد ليُنَفَّذ بغض النظر عن الاستجابة الإنسانية. ويرى بعض الدارسون؛ مثل أستاذ الدراسات الوسلية راندي مادوكس، واللاهوتي الوسلي الكلاسيكي هارالد ليندستروم، أن هذا يرجع إلى المنظور السكولاستيكي/ المدرسي (Scholasticism) للاهوت الإصلاح الغربي، بتركيزه شبه الحصري على البُعد القانوني للخلاص، والذي يؤدي دائمًا إلى التعبير عن الخلاص بشكلٍ نظري لا يُعبِر عن واقع الحياة العملية، مما يَدعم الفصل بين العقائد اللاهوتية وحياة الإيمان.
أما التعبير الآخر – خريطة طريق الخلاص – فهو يشير بوضوح إلى منظور ديناميكي تفاعلي (طريق وخريطة) – وليس مجرد تتابع مراحل أوتوماتيكي – لاستعلان الخلاص في الإنسان. الأمر الذي يمكن رؤيته وإثباته بالقراءة البسيطة للكتاب المقدس والآباء، وبمتابعة الخبرات العملية في حياة أناس الله. فطريق الخلاص – التعبير الذي يستخدمه وسلي في عظات كثيرة كعظة “الطريق الكتابي للخلاص”، وعظة “الطريق للملكوت”، وغيرهما – واضح فيه فهمه وقراءته للحياة المسيحية على أنها رحلة، الله والإنسان فيها فاعلان! فالله هو الباديء بنعمته، والإنسان هو المُستجيب بإرادته ليسير الرحلة، ويُكمِل في طريق الخلاص أو العكس – كما يتضح في جميع محطات هذا الطريق – كما سنرى لاحقًا.
مدخل الطريق: التبرير والولادة الجديدة
إن ملامح الطربق بالنسبة لوسلي، تبدأ بعمل النعمة البادئة – كما سبق الشرح في مقالات سابقة – ويركز وسلي على التمكين الجزئي الذي تصنعه النعمة في إرادة الإنسان التي هي فاسدة كليًا بالطبيعة، وفي هذا يقول بوضوح: أنه لا يعرف وجود لحرية الإرادة الإنسانية، في وضعها الصحيح، بكيفية طبيعية بعد السقوط. لكنه يؤكد أن هناك مقدار من الحرية الإنسانية، في وضعها الصحيح، يسترد بصورة فوق طبيعية لكل إنسان (عظة: “النظر بهدوء في التعيين المُسبق”). وفي هذه المرحلة المبكرة، مثلها مثل جميع المراحل اللاحقة، تُرى مركزية إرادة الإنسان واضحة جدًا في التقليد الوسلي. فالنعمة، بكيفية فائقة للطبيعة، ترد للإنسان قدرًا من حريته المسلوبة لتُمكِن حرية إرادته، والإنسان يختار إما البدء في الطريق بقبول خلاص المسيح أو المضي في طريقه للموت الأبدي. إذا اختار الإنسان قبول خلاص المسيح، فلابد أن يدخل تحت ربوبية المسيح (أي يحسب المسيح ربه) بقلبه وعزيمته. “آمن بالرب يسوع المسيح، فتخلص أنت وأهل بيتك/ أع ١٦: ٣١”. وإذ أخذ الإنسان المسيح ربًا وملكًا بإرادة قلبه بصدق، تسري فيه مفاعيل الخلاص، التي أولها التبرير والولادة الجديدة. ووسلي هنا لابد أن يقرأ في سياقه الخاص وفهمه الكتابي الذي يتجلى فيه تمايزه عن تقاليد غربية سبقته. فإرادة الإنسان العاملة في قبول الخلاص – الذي أول مفاعيله التبرير والولادة الجديدة – بالنسبة لوسلي، ليست مجرد تحصيل حاصل ناتج عن إجبار إلهي بمفهوم التعيين المسبق، الذي يرى الله واقفًا في نقطة في الماضي السحيق (الأزل) ليقرر للمخلوق بشكلٍ مُطلق، ثم منتظرًا ليحقق قراره في الزمن، مُضمنًا الإرادة الإنسانية في مخطط ترتيب الخلاص كمعامل شكلي، وجوده كعدمه. هذا أبعد ما يكون عن الفكر الوسلي أو الفكر الآبائي. فالإرادة الإنسانية بالنسبة لوسلي، بعد استردادها جزئيًا بكيفية معجزية، هي إرادة حقيقية فاعلة، لديها مقدرة حقيقية على القبول أو الرفض، ليست مُسيرة في اتجاه ما. وبالتالي، فإن قبولها (أي الإرادة) للخلاص – إذا كان أصيلاً – يقود لدخول الإنسان لرحلة الخلاص والأمجاد التابعة، ورفضها أيضًا للخلاص، على الجانب الآخر، يقود إلى بقاء الإنسان في الموت الأبدي. فالأمر جاد حقًا! والقبول والرفض ليس مُكمِلاً شكليًا، فاحتمالية كل منهما واقعية وموجودة في “الآن” التي تمثل نقطة الوصل بين الزمن الإلهي والإنساني (راجع المقالات حول الزمن والأبدية في هذه السلسلة)، والعملية تفاعلية بكيفية واقعية لا تحتمل الشك! وفعل الإرادة الإنسانية محوري في مصير الإنسان!
ووصولاً لهذه النقطة، لابد من إيضاح تمايز آخر مهم بين التقليد الوسلي وتقاليد غربية أخرى تاريخية ومعاصرة، فيما له علاقة بأصالة قبول الإنسان للخلاص واختباره للتبرير والولادة الثانية ومؤشرات هذه الأصالة. فاختبار التبرير والولادة الثانية، بالنسبة للتقليد الوسلي، ليس اختبارًا مُبهمًا، وليس اختبار ملامحه تتماهى مع ملامح الحياة الطبيعية، وهو أيضًا ليس اختبار يتم التأكد من تحققه من خلال التقييم الذاتي الإنساني لتحقق شروطه (التي هي التوبة والإيمان)، أي أن التأكد من تحققه لا يكون بمجرد تقييم الإنسان لنفسه إنه قد تاب وآمن! لكن اختبار التبرير والولادة الثانية، بحسب التقليد الوسلي، هو اختبار أقل ما يوصف به هو: أنه راديكالي! يظهر تحقق شروطه من خلال تحقق نتائجه، فهو اختبار تحققي في المقام الأول. ويُدعى “اختبار” لأنه خبرة ذاتية تحققية تذوقية، بُعدَها الاختباري الراديكالي هو برهان تحقق شروطها.
هذا المنظور التحققي يعاكس بالتأكيد النظرة التي تكاد تقصر الاختبار – في تقاليد أخرى – على شروط (التوبة – الإيمان)، استيفاءها يُحكَم بتتميمه بواسطة المتقدم نفسه لتتميم الشروط. وبالتالي، فالتقييم ذاتي ذهني (سكولاستيكي/ مدرسي)، لا يستند على الخبرة التحولية التي ينبغي أن ينتجها استيفاء الشروط إذا كان أصليًا! فبالرغم من صحة الشروط المذكورة آنفًا (التوبة والإيمان)، والتي لا جدال عليها على الإطلاق، غير أن تقييم أصالة أفعال التوبة والإيمان وعمقها لا يمكن مساواته بمجرد الإقدام على الأفعال نفسها. أي أن مقدار عمق فعلي التوبة والإيمان وأصالتهما لا يمكن مساواته بتقييم المرء الذاتي بأنه تاب وآمن! فالذي يرى عمق الفعل (التوبة والإيمان) هو وحده الرب. وبالتالي، فاختبار التبرير والولادة الثانية الأصيل، الذي هو ثمرة استيفاء الشروط “بأصالة”، هو اختبار يُعطى من فوق بحسب النظرة الإلهية لأصالة التوبة والإيمان، أو لنَقُل بحسب أصالة الاستجابة والتلامس مع الحياة الإلهية بالنعمة البادئة، وإذ يُعطَى اختبار التبرير والولادة من فوق بالنعمة الإلهية، يستقبل المرء ما تمّ سكبه من السماء من قِبَل الرب، وإذ يستقبل يحيا. ويشعر المتجدد بالحياة تمر فيه وبحواسه تنفتح بشكلٍ غير مسبوق! ويصير البرهان على شهادة السماء لأصالة التوبة والإيمان هو: الاختبار التحققي، وشهادة الروح المسموع دوي صوتها في القلب عاليًا، وليس مجرد استيفاء الشروط باقتراف الأفعال أو موافقة المحيطين على تحقق الشروط!! الأمر ليس في استيفاء الشروط بشكلٍ ذهني! نعم الأمر يبدأ باستيفاء الشروط “بأصالة قلبية وذهنية” – ولا غنى عن هذا – لكن لابد أن ينتج عن استيفاء الشروط هذا تلامس واقعي مع الحياة وطاقات الإحياء الإلهية في الرب، وهو أمر تلقائي، إذا كان استيفاء الشروط أصيل، وبالتالي تظهر الولادة الجديدة كاختبار تحققي، المولود فيه له حواس روحية، يتلامس من خلالها مع ما لم يتلامس معه من قبل، فيتأكد، هو أولاً، ومعه المحيطين من تحقق الاختبار ومن ثمَ أصالة أفعال التوبة والإيمان.
وهنا، تتضح جدًا العلاقة الإيجابية بين التبرير والتقديس في رحلة الخلاص. فالتبرير هنا يظهر كمعامل إيجابي في المعادلة، تلازمه الولادة الجديدة، ويعطي البداية الإلهية لرحلة التقديس. والتبرير هنا ليس فقط التبرئة قانونًا (وضع بر المسيح لحساب الإنسان الذي يؤمن، وهو الأمر الذي لا جدال فيه)، لكن التبرير أيضًا هنا هو جَعْل الإنسان بارًا؛ بتطعيم بر المسيح فيه، وسريان هذا البر في كيان الإنسان الذي يتوب ويؤمن، ومن ثم ظهور الإنسان الجديد المولود من الله الذي يصنع البر (إن علمتم أنه بار هو، فاعلموا أن كل مَن يصنع البر مولود منه / ١ يو ٢: ٢٩). دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أكتوبر ۲۰۲١