Heaven Upon Earth Logo

غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين (١٩١٩‏–‏ ٢٠٠٦)

مشاركة المقال:

المقدمة

“لأن الكلمة صار إنسانًا، لكي نصير نحن إلهيين”
تعتبر هذه العبارة مدخلاً مناسبًا لموضوع الدراسة في هذا البحث. فهذه العبارة كتبها القديس أثناسيوس الرسولي[1]. وهي تُمثل أفضل تعبيرًا عن الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين حول غاية تجسد الكلمة.

يتناول الباحث في هذا البحث دراسة مختصرة لفكر متى المسكين حول غاية التجسد. وغاية تجسد الكلمة عند المسكين هي أن يصير الإنسان إلهيا (أو تأله الإنسان بحسب التعبير الآبائي – ثيؤسيس). وتشتمل هذه الدراسة المختصرة على ثلاثة فصول قصيرة. الفصل الأول عبارة عن دراسة عامة لأهم المصطلحات المرتبطة بموضوع البحث.

والفصل الثاني هو قراءة في الأفكار المختلفة حول مفهوم الخلاص، باعتباره مدخلاً للتبنى والتأله عند متى المسكين. وأيضًا يشتمل الفصل الثاني على قراءة في الأفكار المختلفة حول مفهوم الامتلاء بالروح القدس، باعتباره مرادفًا للتأله في كتابات المسكين.

أما الفصل الثالث فهو عرض لفكر متى المسكين حول غاية التجسد مارًا بمفاهيم الخلاص والامتلاء بالروح، وذلك من خلال قراءة في بعض كتابات الأب متى المسكين وبعض كتابات تلاميذه من الرهبان.

هذا وسوف يقوم الباحث بعرض نماذج من كتابات تتناول أقوال معاصرة وأخرى آبائية، وذلك بهدف إثبات أنّ الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين حول التجسد لهو فكر أصيل نابع من فكر آبائي مستقيم، وليس غريبًا عن فكر الكنيسة، ولكنه يتطابق مع الفكر الذي يظهر في أقوال الآباء وكتاباتهم عبر الأجيال.

الفصل الأول: التعريف ببعض المصطلحات الهامة للبحث

كما سبق وأشار الباحث، فإن هذا البحث يتناول بالدراسة غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين. وقبل الخوض في جوانب البحث، يَجدُر بنا أن نتناول بالدراسة معاني بعض المصطلحات الرئيسية، مثل مصطلح “اللاهوت”، ومصطلح “التجسد”.

يُعَرف المعجم اللغوي المطول “البستان”، كلمة “اللاهوت” على أنها الألوهة. ويقول أن أصل الكلمة “لاه” بمعنى “إله”، زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة. كما زيدتا في كلمات أخرى مثل “ملكوت” و”جبروت”. كما يُعَرف كلمة “اللاهوتي” على أنه الشخص العالم بالعقائد اللاهوتية[2].

هذا ويُعَرف “المعجم الوجيز” كلمة اللاهوت فيقول أنّه يراد به الخالق. ويضيف أنّ علم اللاهوت هو العلم الذي يبحث في الخالق وصفاته وعلاقاته بمخلوقاته، ويقابل علم التوحيد في الاسلام. ويقول عن الشخص اللاهوتي أنه الشخص المشتغل بعلم اللاهوت[3].

وتعريف علم اللاهوت كعلم عند الإنجبليين المشيخيين، يتلخص فيما قاله جيمس أنس في كتابه “علم اللاهوت النظامي”، وهو المرجع الرئيسي لدارسي اللاهوت المشيخيين. يقول أنس عن ماهية علم اللاهوت: “هو علم يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها”[4].

أما التعريف الآبائي للاهوت وللاهوتي الحقيقي، فهو يضيء أمامنا بمفهوم آخر. وهو في رأي الباحث، تاج التعريفات وأدقها وأعمقها. فعلم اللاهوت عند آباء الكنيسة هو العلم الذي يدرس الإلهيات، أو هو العلم الذي يَدرس ليعرف ما لله. معرفة الله لا تكون إلا بإعلان. الله فقط هو القادر إن يُعلن عن ذاته. الله عندما يُعلن عن ذاته، يُعطي ذاته. وفي هذا يقول إيفاجريوس (٣٤٦ – ٣٩٩)[5] : “اللاهوتي الحقيقي هو مَن يصلي. إذا كنت لاهوتيًا حقيقيًا، إذًا فأنت تصلي، وإذا كنت بالحق تصلي، إذا فأنت لاهوتي حقيقي“. كما يقول العالم اللاهوتي نياندر[6] : “إن القلب هو الذي يصنع اللاهوتي“[7]. ويرى الباحث أن هذا التعريف الآبائي للاهوتي الحقيقي هو أنسب تعريف يمكن أن يُستخدم، خاصة عندما نتحدث عن الأب متى المسكين، الذي تَشكَل لاهوته بين جدران قلايته، فخرج لاهوتًا مصاغًا وممتزجًا بروح الصلاة الحقيقية.

وإذا انتقلنا إلى المصطلح الثاني ألا وهو “التجسد”. نجد أنّ المعجم الوجيز يذكر، تحت باب الجيم وفصل السين والحرف الأخير الدال، الفعل “تجسّد” أي صار ذا جسد[8]. ويتفق “مختار الصحاح” مع هذا التعريف، إذ يذكر في تعريف “الجسد” أنه “البدن”، ويقول منه “تجسّد”، كما نقول من الجسم تجسّم. هذا ويسير “البستان” على نفس النهج. فيُعرِف “تجسّد”، أنّه صار ذا جسد كقولهم تجسّم أي صار ذا جسم[9].

وعند اللاهوتيين، التجسد هو عقيدة أساسية في تعليم الخلاص. فنجد جيمس أنس يقول في الجزء الخاص بتجسد المسيح من كتابه علم اللاهوت النظامي: “إن التعليم البسيط البليغ الخلاصي… هو أنّ ابن الله الأزلي صار إنسانًا باتخاذه لنفسه جسدًا…”[10].

وعلى هذا فإننا عندما نتكلم عن غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين، فإننا نتكلم عن الهدف النهائي من أن يصبح الله ذا جسدٍ بحسب فكر الأب متى المسكين عن الله.

ولكن وقبل الخوض في فكر الأب متى المسكين، يجدُر بنا أن نلقي نظرةً عامة على بعض المفاهيم اللاهوتية التي سنتناولها في حديثنا عن فكر المسكين. والفصل القادم يلخص هذه النظرة العامة.

الفصل الثاني: قراءة في المفاهيم العامة عن الخلاص، والملء بالروح القدس

١- قراءة في المفاهيم المختلفة عن الخلاص:

بنظرة عامة على الآراء المختلفة الموجودة في الكنيسة بطوائفها، نجد أن الآراء اللاهوتية عامةً تنقسم إلى وجهتين نظر رئيسيتين في التعبير عن أمر خلاص الإنسان. غير أننا قبل عرض الاختلاف، لابد أن نوضح أن جميع الطوائف المسيحية تتفق فيما بينها على أن: المسيح أكمل وأنجز فداء الإنسان وخلاصه بالكامل وذلك بتجسد الرب وحياته وموته وقيامته وصعوده إلى السماوات وجلوسه عن يمين الآب وإرساله للرح القدس.

ولكن يبدأ الاختلاف في الأفكار اللاهوتية في الظهور عند هذه النقطة التي يحاول فيها كل طرف أن يصيغ فهمه ليقينية الخلاص في حياة الإنسان. وهنا يظهر إتجاهين أساسيين:

  • الاتجاه الأول هو الذي ينبر على أن يقينية خلاص الإنسان تصبح واقعًا غير قابل للشك بمجرد إيمان الإنسان بعمل المسيح الكفاري. ويؤكد هذا الاتجاه على أن الإيمان وحده كافٍ. وأن الإنسان بعد الإيمان يمكن النظر إليه على أنه (خاطيء ومُبرر بآن واحد). فقد يخطيء، لكن بسبب إيمانه بعمل المسيح الكفاري، فإن البر الذي للمسيح صار لهذا الإنسان الخاطيء، وعليه فإن هذا الإنسان يصبح متيقنًا من خلاصه الأبدي بمجرد إيمانه القلبي بالرب يسوع وعمله الكفاري. وعليه فالإنسان يمكن أن يحتفل بخلاصه في التو واللحظة، لحظة إشراقة الإيمان في قلبه، بدون انتظار لأي مفرادات أخرى (كالأعمال مثلاً). فلسان حال الشخص الذي نال عطية الإيمان هو “أنا آمنت وخلُصت”. وأعمال الإيمان تأتي بعد ذلك كثمر لهذا الإيمان. فالأعمال ثمر ولكنها ليست مفردًا من مفردات يقينية الخلاص. مفردات يقينية الخلاص في هذا الاتجاه تتشكل من كلمة واحدة هي “الإيمان“. ويُمثل هذا الاتجاه مختلف الكنائس الإنجيلية بمذاهبها. ويتضح هذا الفكر في كلاسيكيات الكتب المُعبرة عن اللاهوت الإنجيلي مثل “علم اللاهوت النظامي” لجيمس أنس، “المسيحية المجردة” لجون كالفن، وغيرها العديد من الكتب.
  • أما الاتجاه الثاني فيُنبر على أن مفردات يقينية الإيمان هي الإيمان والأعمال معًا. ولا يُقر هذا الاتجاه الاعتقاد بأن الشخص يمكنه أن يعلن يقينه من خلاصه الشخصي مقترنًا بإعلانه لإيمانه. وتبدو الأعمال، في هذا الاتجاه، وكأنها شرط للخلاص. ويمثل هذا الاتجاه بعضًا من الكنائس التقليدية. ومُعبر عنه في بعض الكتب وأشهرها “الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي”، و”بدعة الخلاص في لحظة”.[11]

٢- قراءة في المفاهيم المختلفة عن الملء بالروح القدس:

عن الروح القدس، جميع المذاهب المسيحية تتفق فيما بينها على ما جاء في قانون الإيمان النيقاوي عن ماهية الروح القدس. فهو الأقنوم الثالث في اللاهوت. وهو مساوٍ للآب والابن في الجوهر.
على أنه يوجد جانبان للاختلاف في عقيدة الروح القدس في ما بين المذاهب المسيحية؛ وهما:

أ- إنبثاق الروح القدس:

الرأي الأول في مسألة إنبثاق الروح، هو إنبثاق الروح القدس من الآب (من عند الآب ينبثق- يو١٥: ٢٦). وتتفق في هذا الرأي الكنائس التقليدية مع بعض مذاهب الكنائس المُصلَحة. فنجد أثناسيوس الرسولي يقرر بوضوح أن الروح القدس منبثق من الآب[12]. كما يكتب القديس باسيليوس أن “الروح القدس ينبثق من الآب في الابن”[13]. وتتفق الكنائس التقليدية في هذا الإيمان كما يتفق معها بعضًا من الكنائس المصلحة، مثل الكنيسة الخمسينية، إذ يقول صموئيل مشرقي: “أما الادعاء بأن الروح القدس منبثق من الإبن كما هو منبثق من الآب… فهو زعم باطل”[14].

هذا بينما نجد الرأي الآخر والذي يرى إنبثاق الروح من الآب والإبن مؤيدًا من بعض مذاهب الكنائس المصلحة مثل الكنيسة المشيخية ويظهر في كتاب اللاهوت النظامي لجيمس أنس.

هذا ويظهر للدارس أن الرأي الأول (إنبثاق الروح القدس من الآب في الإبن) هو الصواب، حيث أن:

    1. التغيير الذي أجرته الكنيسة الغربية في قانون الإيمان النيقاوي، لم يكن مرتكزًا على اقتناع لاهوتي. وإنما كان محاولة لإسكات الأريوسيين الذين يستغلون عبارة “المنبثق من الآب” لإثبات عدم المساواة بين الآب والابن. وعلى هذا قررت الكنائس الغربية في مجمع (توليدو- ٥٨٩م) إدراج كلمة الابن أيضًا. ويرى الباحث أن الأمور العقيدية لا ينبغي أن تصاغ كرد فعل.
    2. الشواهد التي تستند عليها الكنائس الغربية في إثبات إنبثاق الروح من الآب والابن، هي كلها شواهد تتكلم عن الإرسال وليس الانبثاق، وثمة اختلاف كبير جدًا ما بين الإرسال (الذي يحدث في الزمن) والانبثاق (الأزلي الأبدي)، مما لا يتسع المجال في هذا البحث للكلام عنه.

ب- الملء بالروح القدس:

يتفق الجميع على أن الملء بالروح القدس هو وصية كتابية (امتلئوا بالروح- أف5: 18)، كما يتفق الجميع أن الملء بالروح القدس يملأ حياة المؤمن بالثمار الروحية مثل المحبة والفرح والسلام، ويُطلق المؤمن في حياة الخدمة ليأت بثمر كثير. ولكن الاختلاف قائم حول توقيت المرة الأولى التي يختبر فيها المؤمن ملء الروح القدس، والتي تسمى “معمودية الروح القدس”. ويمكن تلخيص الآراء في هذا الموضوع في وجهتي نظر رئيسيتين: الأولى هي أن معمودية الروح تحدث في وقت الولادة الجديدة (عندما يولد الشخص بالروح)[16]. والثانية هي أن معمودية الروح هي إختبار ثانٍ محدد، يحدث بعد اختبار الولادة بالروح القدس، ولابد للمؤمن أن يطلبه ويسعى إليه.[17] هذا وجدير بالذكر أن وجهة النظر الأولى والتي تقول أن معمودية الروح تحدث لحظة الولادة الجديدة، يتفق حولها الكنائس التقليدية مع الكنائس المشيخية. مع أن كلاً منهما، لحظة الولادة الجديدة عنده مختلفة عن الآخر. فالتقليديون يرون أن الولادة الجديدة في معمودية الماء. أما المشيخيون فيرون الولادة الجديدة في لحظة قبول الرب مخلصًا شخصيًا.

 

الفصل الثالث: غاية التجسد عند متى المسكين

أ- مفهوم الخلاص:

الدارس لفكر متى المسكين يلاحظ تدرجًا في مفهوم الخلاص يظهر من خلال متابعة التطور التاريخي لكتاباته. ففي تفسير المسكين للرسالة إلى رومية، والذي نُشر عام ١٩٩٢، وتحديدًأ في تفسيره للعدد الرابع والخامس من الإصحاح الرابع، يقول المسكين:

وهذا الأمر لا يدخل في السجال المعروف بين العقائد: هل الخلاص بالإيمان
أم بالأعمال؟ فهذا لا وجود له عند ق. بولس ولا عند غير قديس بولس ولا في
الإنجيل جملة. فالخلاص بالإيمان والأعمال معًا. فلا خلاص بدون إيمان، ولا
إيمان بدون أعمال. والدينونة العتيدة لابد أن ندخل فيها بأعمالنا، ولكن بدون
إيمان لا يتزكى عمل ما ولا إنسان ما.[18]

بينما في شرحه للرسالة إلى غلاطية نجد مفهوم الخلاص أوضح، إذ يقول: “المسيح لا يطلب من الإنسان إلا إيمانه… وحينئذ يكون في مجال قوة المسيح الذي يتمم له كل شيء. ولا يعود له عمل إلا استيعاب عمل المسيح والفرح به”[19].

والمعمودية في فكر متى المسكين هي الميلاد الثاني. فنجده في تفسيره للإصحاح السادس من الرسالة إلى رومية يتكلم عن المعمودية، ويقول: “ولكن المعمودية… هي الميلاد الثاني، الخلقة الجديدة، الميلاد من فوق، الميلاد من الماء والروح، الميلاد لله، الميلاد بالكلمة، الختم الحي، الاستنارة[20]. وفي شرحه لجزء آخر من نفس الرسالة، يقول: “إذًا فبمعمودية الموت مع المسيح يكون الإنسان قد تقبل لحكم الموت عن خطاياه مع المسيح وقام مع المسيح”[21].

ولكن للمعمودية مفهوم واضح عند المسكين، فالمعمودية هي حالة استنارة، والاستنارة هي صفة مُلازمة للمعمودية[22]. إذًا فيكون فعل المعمودية متوقف بدون الاستنارة. حيث يستشهد المسكين بقول غريغوريوس النيسي (إذا بلغنا معرفة هذا السر (المعمودية) بلغنا الاستنارة)، ليدلل المسكين بذلك على أننا مطالبون بتحقيق معموديتنا عن طريق تدريب حواسنا الروحية ذهنيًا أيضًا لنفهم أسرار الله[23].

والباحث يستنتج أنّه بما أننا مُطالبون بتحقيق معموديتنا، إذًا فعل المعمودية غير مُتحقق لحين تحقُق الشرط. وبذلك يكون الخلاص متوقف على الاستنارة. وهذا يقترب بنا جدًا إلى المفهوم المُصلَح عن الخلاص والمعمودية. ألا وهو أن المعمودية هي إشارة إلى حقيقة، ولكنها ليست الحقيقة عينها. فهي علامة خارجية على نوال النعمة داخليًا. ولابد لإتمام معناها الخارجي إتمام المعنى الداخلي بالنعمة إى وهو الميلاد الثاني بالإيمان بالمخلص.

وبهذا المعنى المُحدد جدًا للمعمودية، يمكن تلخيص فكر متى المسكين في الخلاص، بأنه في المعمودية (التي لا يتحقق فعلها إلا بالاستنارة) يتم الميلاد الثاني، وهي سر الإيمان الأول والمدخل الأول للنعمة. وبالمعمودية ننال التبني فنصير “مولودين من الله”[24]. وبالميلاد الثاني ندخل بالنعمة إلى مجال الإيمان الذي بسببه توجد الأعمال. هذا ويمكن السقوط من النعمة[25]. ولا يمكن أيضًا تجاهل يقين المسكين من الخلاص في الماضي والحاضر والمستقبل الأبدي. وبأن خلاصنا في مختلف الحقب قد تمّ[26]. وينتقد المسكين عدم تمسك الرهبان بهذا وإصرارهم على الصراخ “أنا الخاطيء” والقرع على الصدور[27].

ب- مفهوم الامتلاء بالروح:

الروح القدس، في فكر المسكين، هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. منبثق من الآب[28] في الابن[29]. وإذ يمتليء الإنسان من الروح القدس، فإن الروح القدس يحل فيه أقنوميًا، حيث يقول متى المسكين: “كان لا يمكن ولا يستطيع التلاميذ أن يتقبلوا الطبيعة الإلهية بدون المسيح، بل ولم يكن ممكنًا أن يتقبلوا الروح القدس كأقنوم إلا على أساس الاتحاد بجسد المسيح”[30].

هذا وبينما يفرق آخرون بين الحلول والامتلاء، فيقولون أن الحلول هو حلول أقنومي وهذا للمسيح فقط، وأما الامتلاء فهو امتلاء غير أقنومي[31]، نجد المسكين لا يفرق بين الحلول والامتلاء، بل يستخدم الكلمتين بالترادف، فنجده يقول: “واستيعابنا لقوة يوم الخمسين هو المُعبر عنه بالملء من الروح القدس… وهو يتم على ثلاث درجات أو ثلاث مراحل من الحلول”[32].

ويعترض تلاميذ متى المسكين على التعليم الذي يُفرق بين الحلول الأقنومي والامتلاء. حيث يوضحون أن هذا التعليم فيه خطأين مدمرين ويقودا للهلاك. الخطأ الأول هو أنه إذا كان المؤمن يمتليء من مواهب الروح فقط ولا يمتليء من أقنوم الروح نفسه. فبحسب رأيهم، أنّ المواهب ستُبطَل في الأبدية، وهذا يعني فقد للشركة مع الله نهائيًا. والخطأ الثاني يتلخص في أن الله لا يمكن أن يعطى شركة في القوة (المواهب)، بدون شركة في المحبة (الأقنوم).[33] [34]

والحلول عند المسكين يتم بثلاث وسائط: حلول الروح القدس بكلمة الإنجيل، الحلول بالأسرار، والحلول بالصلاة.[35]

ج- التأله غاية التجسد:

حلول الروح القدس واتحاده بروح الإنسان هو الخلاص عند المسكين. فخلاص الإنسان يتم باتحادنا بالله. “فإن ما صار مُتحدًا بالله هذا وحده يخلص”[36]. واتحادنا بالله هو غاية التجسد الذي هو أيضًا التأله والتبني[37].

والتأله عند الأب متى المسكين هو لفظ آبائي أصيل، وهو الحقيقة العجيبة التي وقف أمامها الآباء مدهوشين، وفي هذا يقول المسكين:

الجسد- الترابي- أخذ الشركة في طبع الكلمة… لقد كانت هذه العبارة عينها “التبني”
مدهشة حقًا وعجيبة لدى المسيحيين الأوائل. ويظهر اندهاشهم أمامها من قول يوحنا
الرسول: انظروا أي محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله… ولسنا نعلم ما سنكون
(أي ما هي نهاية التبني الذي دخلنا إليه) ولكننا نعلم انه متى أظهر ذاك (المسيح) فإننا
سنكون مثله. (١يو٣: ١، ٢). سنكون مثله وهو الابن والإله والكلمة، بمعنى أننا سنأخذ
شركة في صفاته كإبن وإله وكلمة، وهذا ما دعاه الآباء بالتبني، وأحيانًا بالتأله والشركة
في طبع الكلمة، كما رأينا في القول السابق.[38]

وإذا تأمل الباحث في فكر الآباء، يجد الكثير من الأقوال التي تؤيد فكر المسكين. فيجد القديس باسيليوس الكبير، على سبيل المثال، يقول: “الإنسان كائن حي أرضي، نال نعمة خاصة ليصير إلهًا”، ويعلق أحد الرهبان على ذلك بقوله: “دعوة الإنسان العليا هي: أن يحقق الإنسان كمال بشريته بأن يصير إلهًا بالنعمة”[39].

كما يذكر القديس إيرينيئوس أن الرب يسوع صار على حالنا ليجعلنا نحن على حاله هو[40]. ويؤكد القديس غريغوريوس النزينزي أن الكلمة افتقر بأخذ جسدي لكي أغتني أنا بلاهوته[41].

وأما القديس أثناسيوس فيقول في دفاعه ضد الأريوسيين: “لقد أخذ (الكلمة) لنفسه جسدًا بشريًا مخلوقًا لكي يجدده بصفته هو خالقه، فيؤلهه في نفسه… لأجل ذلك صار مثل هذا الاتحاد، لكي يوحد بالذي له طبيعة اللاهوت، ذاك الذي بطبيعته مجرد إنسان، فيصير خلاصه وتأليهه مضمونين”[42]. كما يقول في نفس الكتاب: “قد صار الكلمة جسدًا لكي يجعل الإنسان قادرًا أن يستقبل اللاهوت”[43]. أما في كتاب تجسد الكلمة، فنجد أثناسيوس يقول: “هو تأنس لكي نتأله نحن”[44].

كما يؤكد القديس كيرلس الكبير على نفس المنهج، فنجده مثلاً يقول في تفسيره لإنجيل يوحنا: “إذن فالسر الحاصل في المسيح، قد صار لنا مثل بداية وطريق لاشتراكنا في الروح القدس ولاتحادنا بالله”[45]. والمسكين يسير على نهج كيرلس الكبير في كون إتحادنا بالله لا يكون فقط على مستوى الوحدة الأدبية الأخلاقية الإرادية، بل يتخطى هذا الاتحاد ليدخل إلى وحدة كيانية “طبيعية” في جسد واحد[46]. وفي هذا يقول كيرلس الكبير:

من الخطأ أن نقول إنّ اتحادنا بالله لا يتجاوز مستوى الإرادة معه، لأنه فوق هذا
الاتحاد (اتحاد الإرادة) هناك اتحاد آخر أكثر سموًا وأكثر رفعة، يتم بعطية اللاهوت
للإنسان. فمع أن الإنسان يحتفظ بطبيعته الخاصة، إلا أنه يتحول بنوع ما إلى شكل
الله نفسه… هذه هي طريقة الاتحاد بالله، التي يطلبها ربنا من أجل تلاميذه، وذلك
بحلول اللاهوت فيهم والشركة معه.[47]

وهكذا، بعد هذا العرض الموجز لبعض أقوال االآباء حول التجسد، فإن الباحث في فكر الآباء، يجد أن لاهوت الآباء، الذي يتجلى في أقوال وشروحات كثيرة، يؤيد فكر المسكين حول التأله كغاية للتجسد، بل أننا يمكننا القول أن لاهوت المسكين ما هو إلا انعكاس أصيل للاهوت الآباء. وعلى الرغم من مئات وآلاف السنين التي تفصل المسكين عن آبائه، إلا أن الزمن وقف عاجزًا عن أن يطمس الفكر الآبائي الأصيل أو يطمره. عجز الزمن أمام شعاع النور الآبائي الأصيل، الذي استمد أصالته من روح الإنجيل، وأمام قلب باحث متعطش ساعٍ لمعرفة الله ولمعرفة ميراث الخلاص.. تلاقى شعاع الفكر الآبائي الأصيل مع قلب المسكين وعينيه المستنيرة، فكان فكر متى المسكين، فكرًا معبرًا بالحق عن روح الآباء.

الخاتمة

مما سبق يتضح أن غاية التجسد في فكر المسكين هي تأله الإنسان. كما يتأكد أن هذا الفكر ليس مستحدثًا أو دخيلاً على الإيمان، وإنما هو فكر أصيل يستمد أصالته من الإنجيل ومن كتابات الآباء.

للمزيد حول التأله في الفكر الآبائي، يُرجى مراجعة بحث (التأله في الفكر الآبائي):

/www.heavenuponearth.com/link

المراجع

[1] St. Athanasius, “On the Incarnation of the Word,” paragraph 54, in The Nicene and Post-Nicene Fathers of Christian Church, vol. 4, second series, edited by Philip Schaff and Henry Wace (Grand Rapids, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing Company, 1978), 65.
أيضًا: رهبان دير القديس الأنبا مقار، المسيح المخلص في تعليم القديس أثناسيوس (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ٢٠٠٣)، ١٩.
[2]  عبد الله البستاني اللبناني، البستان (بيروت: المطبعة الأمريكانية، ١٩٢٧)، ١٠٠١.
[3]  مجمع اللغة العربية، المعجم الوجيز (القاهرة: مجمع اللغو العربية، ١٩٩٢)، ٦٥. 
[4]  جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي، ترجمة منيس عبد النور (القاهرة، الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، ١٩٩٩)، ١٩.
[5] /Treatise on Prayer, 61, from: www.orthodoxwiki.org/link
[6]  نياندر هو لاهوتي ألماني ومؤرخ كنسي (1789 – 1850) وقد قال هذه الكلمات في حديثه عن أثناسيوس الرسولي. 
[7] Matthew the Poor, St. Athanasius, 27.
[8]  مجمع اللغة العربية، مرجع سابق، ١٠٥.
[9]  عبد الله البستاني اللبناني، مرجع سابق، ١٦٣.
[10]  جيمس أنس، مرجع سابق، ٤٥٣.
[11]  كتابان لقداسة البابا شنودة الثالث.
[12]  متى المسكين، الروح القدس وكمال استعلان الثالوث عند القديس أثناسيوس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ٦٨.
[13]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الأول. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ١٥٢.
[14]  صموئيل مشرقي، الإلهيات. (القاهرة: الكنيسة المركزية للمجمع،١٩٨٧ )، ١٧٧.
[16]  جيمس أنس، ٢٦٦.
[17]  فانس ماسينجل، الإيمان الخمسيني. (القاهرة: أوتوبرنت، ٢٠٠٣)، ٧.
[18]  متى المسكين، شرح رسالة رومية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٢)، ٢٣٧.
[19]  متى المسكين، شرح رسالة غلاطية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٦)، ٣١٦.
[20]  متى المسكين، شرح رسالة رومية. مرجع سابق، ٢٩٦.
[21]  المرجع السابق.
[22]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الثاني. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقاار، ١٩٨١)، ٤٠٥.
[23]  المرجع السابق، ٤٠٦.
[24]  متى المسكين، النعمة في العقيدة والحياة النسكية. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨٧)، ١٧.
[25]  المرجع السابق، ٥١.
[26]  متى المسكين، شرح رسالة غلاطية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٦).
[27]  متى المسكين، ميلاد ابن الله ورجوع آدم وذريته إلى الله- عظة مُسجلة- عيد الميلاد ٢٠٠١- وادي النطرون: دير الأنبا مقار
[28]  متى المسكين، الروح القدس وكمال استعلان الثالوث عند القديس أثناسيوس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ٦٨.
[29]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الأول. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ١٥٢.
[30]  متى المسكين، التجسد الإلهي في تعليم القديس كيرلس الكبير مع عظة عن الميلاد. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٨٨)، ٢٥.
[31]  صموئيل مشرقي، الظهور الإلهي. (القاهرة: كنيسة يوم الخمسين، ١٩٦٤)، ١١٢.
[32]  متى المسكين، الباركليت الروح القدس في حياة الناس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٦١)، ٢٩.
[33]  أحد رهبان دير الأنبا مقار بالتعاون مع بعض العلماء اللاهوتيين الأكاديميين المتخصصين في آباء الكنيسة واللاهوت القبطي الأرثوذكسي، الأصول الأرثوذكسية الآبائية لكتابات الأب متى المسكين. الكتاب الثاني. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ٢٠٠٣)، ٥١، ٥٢.
[34]  يتفق الباحث مع الأب متى المسكين وتلاميذه في أن شركتنا هي مع أقنوم الروح القدس، وفي أنّ مَن يحل فينا هو أقنوم الروح القدس وليس قوته فقط، مع اختبارنا لقوته بالطبع، ويتفق الباحث تمامًا مع أن الله لا يمكن أن يعطي القوة (المواهب) بدون المحبة (الأقنوم). ولكن يختلف الباحث مع تلاميذ متى المسكين حول فكرة انتهاء وإبطال مواهب الروح في الأبدية، إذ أنه بالمتابعة المتروية لكلمات القديس بولس في كورنثوس، نفهم أن الممارسة الجزئية للمواهب التي نحياها الآن هي التي ستبطل، إذ ستبتلع في الممارسة الكاملة. فبولس يوضح أنه إذ صار ناضجًا أبطل ما للطفل، ولكن بالتأكيد احتفظ بولس بما للرجل!! فعلى سبيل المثال، الطفل يتهته في الكلام، وإذ يصير رجلاً ناضجًا، فإنه يبطل ما للطفل، فلا يعود يتهته، لكنه يتكلم كرجل كامل. أبطل التلعثم لكنه لم يبطل الكلام، بل صار متكلمًا ناضجًا. أي تم ابتلاع الناقص في الكامل. وهكذا مواهب الروح، نمارسها الآن بطريقة غير كاملة، بحسب اتساع إناء كل شخص فينا، لكن هناك سيبتلع الناقص في الكامل، إذ ستمجد الأواني.
[35]  متى المسكين، الباركليت الروح القدس في حياة الناس. مرجع سابق، ٢٩.
[36]  رهبان دير الأنبا مقار، وجودنا وكياننا في المسيح في فكر القديس كيرلس الكبير. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ٩.
[37]  رهبان دير الأنبا مقار، المسيح المخلص في تعليم وكنابات القديس أثناسيوس الرسولي. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ٢٠٠٤)، ٥١، ٧٤.
[38]  رهبان دير الأنبا مقار، التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ١٥.
[39]  رهبان دير الأنبا مقار، دعوة الإنسان العليا أو القصد الإلهي من إبداع الإنسان بحسب تعليم آباء الكنيسة. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ٥.
[40]  رهبان دير الأنبا مقار، التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة. مرجع سابق، ٦.
[41]  آباء الكنيسة، أقوال مضيئة لآباء الكنيسة. (القاهرة: دار القديس يوحنا الحبيب، ٢٠٠٨)، ٤٤.
[42]  المرجع السابق، ٥٦.
[43]  المرجع السابق، ٧٠.
[44]  المرجع السابق، ٦٦.
[45]  المرجع السابق، ٧٢.
[46]  رهبان دير الأنبا مقار، الكنيسة جسد المسيح في تعليم القديس كيرلس الكبير. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٣)، ١٣.
[47]  المرجع السابق، ٦١.

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.