المُلك الألفي الحرفي عند آباء ما قبل نيقية..

الملك الألفي

مشاركة المقال:

المقدمة

هذا المقال البحثي الموجز يهدف إلى تسليط الضوء على بعض من آباء الكنيسة الأولى (آباء ماقبل نيقية[1]) الذين آمنوا بعقيدة المُلك الألفي الحرفي (Pre-Millennialism)[2]. يهدف المقال إلى تعريف القاريء بأن عقيدة الملك الألفي الحرفي ليست عقيدة مستحدثة، إنما هي عقيدة أصيلة عُرفت في تاريخ الكنيسة الأولى وآمن بها الكثير من الآباء، على الرغم من الاختلاف الحادث حولها.

يقول فيليب شاف[3] إن النقطة الأكثر لفتًا للانتباه عند آباء ما قبل نيقية هي الإيمان بالملك الألفي الحرفي- أي الإيمان بملك المسيح على الأرض مع القديسيين القائمين من الأموات، وإن هذا الملك مدته ألف عام، وهو يسبق القيامة العامة والدينونة[4].

والباحث في نقاط سريعة سيعرض نبذة عن أهم آباء- ما قبل نيقية-  الذين آمنوا بالملك الألفي.

١- بابياس أسقف هيرابوليس

(ولد قبل 70م.ومات حوالي 155): كتب عن التقليد الشفهي، خاصة شرح أقوال الرب. لم يتبق من كتبه أي كتاب، ولكن وصلتنا مقتطفات من أرائه وكتاباته من خلال كتابات القديس إيريناوس، والعلامة يوسابيوس القيصري، فيما يُعرَف أكاديميًا بمقتطفات بابياس. يعتبر بابياس تلميذًا للقديس يوحنا، ورفيقًا لبوليكاربوس اسقف سميرنا.

من خلال كتابات إيريناوس ويوسابيوس، نعرف أن بابياس آمن بعقيدة الملك الألفي، وقد كتب بابياس يشرح أن القيامة من بين الأموات سيتبعها ألف سنة من ملك أرضي مجيد للمسيح، كما أن القديسيين القائمين سيملكون مع الرب، هذا ويؤكد القديس إيريناوس أنّ بابياس استلم هذا التعليم من فم الرسول يوحنا[5].

٢- القديس برناباس

(كتب رسالته حوالي 138م.): رسالة برناباس واحدة من الرسائل التي ترجع لحقبة الآباء الرسوليين[6]، وكاتبها من المؤمنين بعقيدة الملك الألفي، ويوضح أنه كما خلق الله العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، هكذا فإن الألفية السابعة (بحسب التقويم العبري) ستكون هي سبت الراحة حيث الملك الألفي[7].

٣- القديس إيريناوس أسقف ليون

(ولد 140م. ومات 202): إيريناوس هو تلميذ بوليكاربوس وبابياس اللذان هما تلميذا الرسول يوحنا. يؤكد إيريناوس على عقيدة الملك الألفي. ويقول أنها عقيدة تسلمها الشيوخ من فم الرسول يوحنا الذي استلمها من الرب.

هذا ويرى ماكجريس[8] في كتابه اللاهوت المسيحي، إن فكرة طبيعة الأجساد التي سيقوم بها المؤمنون هي فكرة مركزية في إيمان إيريناوس بالملك الألفي الحرفي[9]. إذ يتساءل إيريناوس عن كيفية تحقيق وعد الرب للمؤمنين بأنه سيشرب من نتاج الكرمة معهم في الملكوت، ويؤكد إيريناوس أن هذا سيحدث في الملك الألفي حيث الكروم التي تنتج عنبًا جيدًا (بحسب بابياس)[10].

ويرى الباحث أن ملاحظة ماكجريس هي ملاحظة حقيقية، إذ يذكر إيريناوس هذا في كتابه (ضد الهرطقات)، كما يذكر إيريناوس أيضًا أن إبراهيم أبا الإيمان سيتمتع بوعد الله له بامتلاك الأرض في الملك الألفي، إذ لم يمتلك إبراهيم أبو الآباء الأرض طوال حياته السابقة على الأرض[11].

٤- بوليكاربوس أسقف سميرنا

(ولد في الربع الثالث من القرن الأول ومات حوالي 155م.): هو تلميذ الرسول يوحنا، ومعلم إيريناوس، ومعاصر لبابياس. ليس لدينا إثباتات مُطولة مباشرة تدل على إيمان بوليكاربوس بعقيدة الملك الألفي. لكنه في رسالته إلى فيلبي يقول: “إذا أرضيناه في هذا الدهر، فإنه يكافئنا في الجيل العتيد وقد وعدنا بأنه سيقيمنا من بين الأموات، وإذا كان سلوكنا جدير به، فإننا سنحكم معه، بشرط أن نؤمن“[12].

ويرى الباحث أن بوليكاربوس هنا يتكلم عن قيامة من بين الأموات كمكافأة للحياة التقية (هذا ينطبق على القيامة الأولى التي للغالبين) وليس مجرد القيامة العامة، أيضًا ربط بوليكاربوس بين السلوك النقي والإيمان، والحُكم مع المسيح. هذا ويرى أيضًا الباحث إحتمالية قوية في أن بوليكاربوس هو أحد (الشيوخ) الذين يقول إيريناوس أنه تسلم تعليم الملك الألفي منهم[13]، إذ أن بوليكاربوس هو معلم إيريناوس، وبالتأكيد كان إيريناوس يتلقى منه التعليم.

٥- القديس يوستينوس الشهيد

(ولد 100م. ومات حوالي 167): يُعد يوستين الشهيد والفيلسوف من أهم الآباء المدافعين عن الإيمان في القرن الثاني، وهو أول مَن أنشأ مدرسة لاهوتية مسيحية[14].

وقد أفرد يوستينوس فصلان (الفصل 80، 81) من كتابه الحوار مع تريفو حول تأكيد إيمانه بالملك الألفي الحرفي تفصيلاً. ويربط يوستينوس بين الإيمان بالملك الألفي واستقامة العقيدة، فيقول: “…أما أنا وكل مسيحي قويم الاعتقاد فنؤمن بقيامة الأجساد يتبعها ألف سنة في مدينة أورشليم التي ستُبنى من جديد بشكل أوسع وأجمل كما يعلن الأنبياء حزقيال وإشعيا وغيرهم”[15].

وقد استفاض يوستينوس في شرح أجزاء من العهد القديم تصف الملك الألفي وما يحدث فيه. ويختم يوستينوس الفصل الواحد والثمانين بتأكيده على الملك الألفي الحرفي كما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، فيقول يوستينوس: “وقد كان بيننا رجل يدعى يوحنا وهو أحد رسل المسيح وقد رأى رؤيا بأن أتباع المسيح سيعيشون في أورشليم لمدة ألف سنة ثم بعد ذلك قيامة الأموات والأبدية والدينونة”[16].

٦- ميليتو أسقف ساردس

(مات حوالي 180م.): انتقل إليه التقليد اليوحناوي كاملاً من خلال بوليكاربوس وبابياس[17]. وقد آمن بعقيدة الملك الألفي الحرفي كما شرحها إيريناوس. شهد جيروم، في تفسيره لسفر حزقيال، الإصحاح 36، عن تمسُك ميليتو بعقيدة الملك الألفي الحرفي. كما أكد جناديوس من مارسيليا في كتابه (عقائد الكنيسة) على تمسك ميليتو بالملك الألفي الحرفي[18].

٧- ترتليان "أبو الفكر اللاهوتي اللاتيني"

(ولد حوالي 160م. ومات حوالي 240): سُمي ترتليان “أبو الفكر اللاهوتي اللاتيني”، لأنه من أوائل المُفكرين الذين صاغوا الكثير من التعبيرات اللاهوتية التي صارت مستخدمة بشكل أساسي فيما بعد في المباحثات اللاهوتية مثل مصطلح “الثالوث” ومصطلح “الجوهر”.

آمن ترتليان بعقيدة الملك الألفي، وعلمها ودافع عنها. في كتابه “ضد ماركيون”-جزء 3، فصل 24- إذ يكتب: ” إن طلبتنا مرتبطة بما هو سماوي وليس ما هو على الأرض. ولكننا نُقر أننا قد وعدنا بملكوت سيُعطـَى لنا على الأرض… بعد القيامة لمدة ألف عام في أورشليم… المدينة التي أعدها الله لتستقبل المُقدسيين في قيامتهم، كمكافأة عما فقدناه وعانيناه في العالم، لأن هذه هي عدالة الله لخدامه أنهم لابد أن يفرحوا في نفس الموضع الذي عانوا فيه قبلاً من الحزن لأجل اسم الرب. ثم بعد تمام الألف سنة تكون قيامة للذين لم يقوموا قبلاً”[19].

٨- هيبوليتوس الروماني

(ولد حوالي 170م. ومات 235): هيبوليتوس كان أسقفًا في كنيسة روما، وتلميذًا لإيريناوس. أمن بعقيدة الملك الألفي وكتب عنها. في تفسيره لمقتطفات من سفر دانيال، يقول: “لابد أن تكتمل ستة آلاف سنة، لكي يأتي السبت، الراحة، اليوم المقدس، حيث استراح الله من جميع أعماله. إذ أن السبت هو نموذج ومثال مملكة القديسيين المستقبلية، عندما سيملكون مع المسيح، عند مجيئه الثاني، كما قال القديس يوحنا في رؤيته. لأن اليوم عند الرب كألف سنة. لذا فلابد أن تكما ستة آلاف سنة، لأن الرب أكمل جميع ما خلقه في ستة أيام”[20].

٩- نيبوس المصري (القرن الثالث)

كان نيبوس أسقفًا مصريًا مُتمسكًا بالتفسير الحرفي للكتاب، وكان يعلم ضد الثفسير الرمزي، وكتب كتابًا دعاه “دحض للرمزيين”. وقد علم في كتابه بوضوح عن الملك الألفي الحرفي على الأرض[21].

١٠- أمبروسيوس أسقف ميلان

(ولد حوالي 339م. ومات حوالي 397): علم بوجود قيامتين[22] وهناك ظلال في تعليمه للملك الألفي[23].

 

بالإضافة لما تم عرضه في هذا المقال الموجز، هناك بعض الشخصيات الأخرى، بعضهم من آباء ما قبل نيقية وبعضهم من المعاصرين لهؤلاء الآباء، يوجد أيضًا استنتاجات أولية على إيمانهم بعقيدة الملك الألفي، وينصح الباحث بكتابة مقالات بحثية مستقبلية لتوثيق ما يُثبت هذا. من بين هؤلاء الآباء: لاكتانتيوس (240- 320)، ميثوديوس (مات حوالي 311)، القديس جيروم (347- 420)، وغيرهم.

المراجع

[1]  نيقية هو مجمع مسكوني عُقد لمواجهة بدعة هرطرقية تدعى بدعة أريوس عام 325 م.- ولأهمية هذا المجمع في التاريخ الكنسي صار يؤرَخ به- آباء ما قبل نيقية، آباء نيقية وما بعده.
[2]  الاعتقاد في الملك الألفي يشمل ثلاثة مدارس: 1- الاتجاه الأول: وهو ما يؤيده الباحث، وملخصه أن الملك الألفي حرفي ويحدث بعد القيامة الأولى ومجيء المسيح يسبقه، لذا يسمى Pre-Millennium أي سابق الألف سنة، ويعقب الألف سنة حل الشيطان مدة يسيرة، ثم معركة أخيرة، ثم القيامة الثانية، والدينونة.      -2- الاتجاه الثاني: والباحث لا يتفق مع هذا الاتجاه ولا يؤيده. وينادي هذا الاتجاه بأن مجيء المسيح والقيامة سيكونا بعد الملك الألفي، ولذا يسمى Post-Millennium أي لاحق الألف سنة. وهذا الاتجاه ينادي بأن الملك الألفي سيتم نتيجة ما يحدث الآن من الكرازة بالإنجيل وامتداد الكنيسة (والبعض يضيف تقدم العلم والسلام العالمي)، إذ يأتي الوقت الذي يكون المسيح فيه ملكًا على الأرض وذلك عندما يقبل العالم كله الإنجيل ويحيا في سلام، وبعد فترة الملك هذه يأتي المسيح في مجيئه الثاني. -3- الاتجاه الثالث: والباحث لا يتفق مع هذا الاتجاه ولا يؤيده. وينكر هذا الاتجاه مُلك الألف سنة تمامًا، ويدعى Amillennium، ويتعامل مع النصوص برمزية كاملة، ويرى الألف سنة مجاز.
[3]  فيليب شاف هو لاهوتي ومؤرخ كنسي سويسري الأصل. ولد في يناير 1819، ومات في 20 أكتوبر 1893. ويُعد فيليب شاف من أهم مؤرخي تاريخ الكنيسة في العصر الحديث. عمل شاف أستاذًا في معهد الاتحاد اللاهوتي (Union Theological Seminary) في نيويورك بدءًا من 1870 وحتى نهاية حياته. له العديد من الكتب والمراجع التي تُعد من أهم مراجع تاريخ الكنيسة في الأوساط الأكاديمية. من أهم أعماله: سلسلة تاريخ الكنيسة المسيحية (8 أجزاء)، آباء ما قبل نيقية (10 أجزاء)، وآباء نيقية وما بعده (28 جزء).
[4] Philip Schaff, History of Christian Church. Vol.2 (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, N.d.), 545.
[5] Irenaeus, Adv. Hearses, V, 32, 33, in Philip Schaff, Ante-Nicene Fathers, Vol.1: The Apostolic Fathers with Justin Martyr and Irenaeus (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, N.d.), 1379- 1383.
[6]  الآباء الرسوليون هم الآباء الذين تلامسوا مع حقبة الرسل وبعضهم تتلمذ على يد الرسل مباشرة.
[7]  تادرس يعقوب المالطي، نظرة عامة لعلم الباترولوجي في الستة قرون الأولى (الاسكندرية: مارجرجس اسبورتنج، 2009)، 16.
[8]  آليستر ماكجريس هو أستاذ اللاهوت التاريخي بجامعة أكسفورد، وله العديد من المؤلفات ذات الثقل في الوسط الأكاديمي مثل الروحانية المسيحية (1999)، الفكر المُصلح (1999)، العلم والدين (1998)، ومقدمة إلى المسيحية (1997).
[9] Alister E. McGrath, Christian Theology: An Introduction (Oxford: Blackwell, 2001), 572.
[10] Irenaeus, Adv. Hearses, V, 32, 33, in Philip Schaff, ibid.
[11] Ibid.
[12]  سلسلة آباء الكنيسة، الآباء الرسوليون. ترجمة إلياس معوض (بيروت: منشورات النور، 1982)، 151.
[13] Irenaeus, Adv. Hearses, V, 32, 33, in Philip Schaff, ibid.
[14]  سلسلة النصوص المسيحية في العصور الأولى، القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد: الدفاعان والحوار مع تريفو ونصوص أخرى (القاهرة: دار بانريون، 2012)، 11.
[15]  المرجع السابق، 243.
[16]  المرجع السابق، 244، 245.
[17] Philip Schaff, History of Christian Church. Vol.2, 650.
[18] http://en.wikipedia.org/wiki/Melito_of_Sardis, reviewed on 22, Dec. 2012.
[19] Tertullian, Anti Marcion, Book 3, Ch. 24, in Philip Schaff, Ante-Nicene Fathers, Vol.3 (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, N.d.), 746- 769. (Translated and revised by Selvi and Suzi Nasrat in an Arabic unpublished booklet by them titled Millennialism according to Justin Martyr and Tertullian).
[20] Hippolytus of Rome, On Daniel, 2: 4, in Philip Schaff, Ante-Nicene Fathers, Vol.5 (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, N.d.), 454.
[21] http://en.wikipedia.org/wiki/Book_of_Nepos, reviewed on 22, Dec. 2012.
[22] Ambrose of Milan, In the Belief of Resurrection, in Philip Schaff, Nicene and Post-Nicene Fathers, Vol.10 (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, N.d.), 407.
[23] http://en.wikipedia.org/wiki/Millennialism, reviewed on 22, Dec. 2012.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.