Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (٨) – الجزء الأول – تطور الفكر اللاهوتي بين النص، والخبرة، وصياغة العقيدة: وسلي وفلتشر

وسلي

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، تناولنا في المقال السابق بأجزائه الثلاثة، الملامح الرئيسية لخريطة طريق الخلاص بحسب التقليد الوسلي، بدءًا بالتبرير والولادة الجديدة باعتبارهما بوابة طريق الخلاص، ومرورًا بالتقديس التدريجي الذي تتزامن بدايته مع لحظة التبرير، ووصولاً إلى اختبار التقديس التام، والذي يُعد – بحسب وسلي – اختبارًا ثانيًا محددًا في الحياة الروحية ومدخلاً لحياة الكمال المسيحي. وقد أسهبت في شرح ماهية اختبار التقديس التام، من منظور استرداد النور وهيمنته على النفس الإنسانية، وفي علاقته بالبعد الاختباري لتحقُق انفصال الإنسان العتيق عن المؤمن انفصالاً كاملاً، وعلاقة هذا بجوهر التقديس التدريجي قبل اختبار التقديس التام وبعده.

في هذا المقال – بأجزائه – سأقدم عرضًا لتطور منظومة الفكر اللاهوتي الوسلي – تحديدًا فيما له علاقة بفهم ماهية اختبار التقديس التام وموقعه على خريطة طريق الخلاص – وذلك من خلال قراءة في صياغات لاهوتية متباينة، وضعها لاهوتيون وسليون لشرح الاختبار الثاني في الحياة الروحية، وشكَّلت عقائد متنوعة عبر حقب مختلفة من تاريخ التقليد الوسلي وتقاليد القداسة. يهدف هذا العرض إلى إظهار الدور الرئيس الذي يلعبه التآزر بين علم اللاهوت والروحانية في تجديد الفكر اللاهوتي، وذلك من خلال تباين عدسات قراءة الأسفار المقدسة، كمفرد جوهري في الروحانية، جنبًا إلى جنب مع تنوع أنماط الاختبارات الروحية، مما يُنتِج تنوع في الصياغات العقائدية وتجديد للفكر اللاهوتي بداخل نفس التقليد الروحي.

اختبار التقديس التام: بين العدسة الكلاسيكية والعدسة الفلتشرية

يُعَتبر جون فلتشر (١٧٢٩ – ١٧٨٥) – بحسب معظم الدارسين الوسليين – أول لاهوتي وسلي، بعد جون وسلي وتشارلز وسلي أخيه. وقد أسهمت مجهودات فلتشر لشرح اللاهوت الوسلي، خاصة في الأعوام بين ١٧٧٠ إلى ١٧٧٥، ضمن السجالات ضد “الأنتينوميان” – المعروفون بمنكري الأعمال الصالحة (Anti-nomianism) – في تبلور مكانته المرموقة في التقليد الوسلي، وذلك من خلال إنتاجه للدفاع المُكون من خمسة أجزاء ضد هذه البدعة، التي زعمت أن المؤمنين أحرارٌ من القوانين الأخلاقية (بما في هذا ما جاء منها في الوصايا العشر) نظرًا لحريتهم من ناموس العهد القديم! وقد تُرجٍم الجزء الأول من هذه الدفاعات الخمس إلى اللغة العربية منذ ما يقرب من مائة عام – في العقود الأولى للحركة الوسلية في مصر – ونُشر تحت عنوان: “الردود الواضحة على منكري الأعمال الصالحة لجون فلتشر”.

جون فلتشر

كان فلتشر خادمًا نشطًا في النهضة الوسلية، وتلميذًا لوسلي، ولاهوتيًا مُحنكًا، وقد ظل لعقود – حتى وفاته – المُرشَح الأول بواسطة جون وسلي لقيادة الحركة الوسلية من بعده، وإن لم يتحقق هذا الترشيح نظرًا لانتقال فلتشر قبل جون وسلي. وبالرغم من علاقة التلمذة والإخلاص العميقة بين وسلي وفلتشر، والتي لم تهتز إلى نهاية حياة فلتشر، غير أن هذا لم يمنع اختلافهما في فهم بعض المفردات اللاهوتية وطريقة التعبير عنها. فبينما أطلق وسلي على الاختبار الثاني في الحياة الروحية اسم “التقديس التام”، أصر فلتشر على إطلاق اسم “معمودية الروح القدس” على نفس الاختبار. ومع أن فلتشر اتفق تمامًا مع وسلي في وصفه للتأثير التقديسي للاختبار، وفي ماهية الاختبار من حيث انتزاع جذر الفساد وتحقق انفصال العتيق وكمدخل لحياة الكمال المسيحي، كما سبق الشرح في مقالات سابقة، إلا أن فلتشر رأى الاختبار من منظور عمل الروح القدس – أو ما نُطلِق عليه في الدراسات المنظور النيوماتولوجي (Pneumatological aspect) – حيث التركيز على استقبال المؤمن لقوة الروح القدس للدخول إلى حياة الكمال المسيحي، في اختلافٍ عن وسلي الذي رأى الاختبار من منظور كريستولوجي (Christological aspect) أي التركيز فيه على تقديس المؤمن وصيرورته على صورة المسيح في القداسة. ويمكن إرجاع هذا الاختلاف إلى تباين التركيز الكتابي عند كلٍ من وسلي وفلتشر. فبينما يُصور وسلي الحياة الروحية من عدسة كتابية بولسية/ يوحناوية، يصور فلتشر الحياة الروحية من عدسة لوقاوية. بمعنى أن وسلي يركز على رسائل بولس وإنجيل يوحنا ورسائله، في صياغته لخريطة الحياة الروحية. لذا، تعكس تعبيراته لغة التقديس والاتحاد مع المسيح التي تتميز بها كتابات بولس ويوحنا. بينما يركز فلتشر على كتابات لوقا، والتي يحتل فيها سفر أعمال الرسل مكانة مرموقة بتركيزه على معمودية الروح والقوة المصاحبة لها. لذا، تعكس تعبيرات فلتشر لغة انسكاب الروح ونيرانه. وهذا التباين في التركيز الكتابي لم ينتج عنه فقط اختلاف في تسمية الاختبار الثاني، بل نتج عنه اختلاف في قراءة التاريخ بجملته. فبينما يرى وسلي أن التاريخ ينقسم إلى حقبتين: قبل ميلاد المسيح وبعده، قسَّم فلتشر التاريخ إلى ثلاث حقب: ما قبل ميلاد المسيح، وأيام تجسد المسيح وحياته على الأرض، وحقبة الروح القدس وهي الممتدة من يوم الخمسين إلى مجيء الرب الثاني. وواضح بالطبع، في هذا التقسيم، تركيز فلتشر على مركزية عمل الروح القدس في رؤيته لتطور تاريخ البشرية في علاقته بتدبير الخلاص.

لكن، على الرغم من اختلاف وسلي وفلتشر في الأبعاد والمفردات المذكورة، غير أن وسلي لم يغير ترشيحه لفلتشر كخليفة له، بل أن وسلي لم يحاول أن يغير استخدام فلتشر لتعبير “معمودية الروح القدس” في كتابات الأخير في وصفه للاختبار الثاني، مع أن فلتشر كان يرجع دائمًا لوسلي لمراجعة كتاباته وتحريرها قبل نشرها. وعلى الرغم من تصحيح وسلي لأجزاء أخرى من كتابات فلتشر، غير أنه لم يصحح له تسميته للاختبار الثاني بمعمودية الروح القدس ولا مرة واحدة! مما جعل بعض الدارسين – وعلى رأسهم العالِم واللاهوتي الوسلي “لورينس وود” أستاذ الدراسات الوسلية الشهير بكلية لاهوت أسبوري – يجادلون بحتمية أن وسلي غير رأيه في العقدين الأخيرين من عمره، ووافق على التطور الذي أدخله فلتشر على اللاهوت الوسلي! وأن قراءة فلتشر لماهية الاختبار الثاني ينبغي أن تصير هي القراءة المعيارية للتقليد الوسلي! ولكن، الحقيقة أن الدراسة المُدققة لكتابات وسلي تثبت أنه – لنهاية حياته – احتفظ برؤيته للاختبار الثاني كتقديس تام وليس كمعمودية للروح القدس، وهذا ما يجادل أيضًا لإثباته لاهوتيون وسليون ذوو ثقل، مثل: البروفيسور راندي مادوكس – أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة ديوك بشمال كارولينا – الذي يرى أنه بالرغم من تقييم وسلي لرؤية فلتشر على أنها “ممكنة”، إلا أنه لم يتبناها أبدًا طوال حياته، بل على العكس، يرى مادوكس أن فلتشر، قبل نهاية حياته، عدَّل رؤيته للاختبار الثاني؛ لتصير بحسب رؤية وسلي الكلاسيكية. أيضًا، يُعد البروفيسور “دونالد دايتون” أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة درو بجيرسي سيتي، والبروفيسور “كينيث كولينز” أستاذ اللاهوت الوسلي الكلاسيكي بكلية لاهوت أسبوري من أشد المدافعين عن هذا الرأي الأخير.

النموذج الفلتشري ونشأة تقليد القداسة: التقديس الخمسيني

على الرغم من شدة السجالات والاختلاف في الدوائر الأكاديمية حول قبول وسلي أو رفضه للتغيير الذي أجراه فلتشر، غير أنه لا يوجد مَن يستطيع أن يغض النظر عن مركزية التطور الذي أدخله استخدام فلتشر لتعبير “معمودية الروح القدس” – كوصف للاختبار الثاني وبوابة للكمال المسيحي، بما يحمله من تركيز نيوماتولوجي – على التقليد الوسلي. إذ مهد استخدام هذا التعبير للانتقال من الوسلية الكلاسيكية إلى ما أدعوه بالطور الابتدائي للوسلية الراديكالية، أو تقليد القداسة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فقد انتقلت آراء فلتشر من إنجلترا إلى أمريكا مع كتاباته التي حملها فرانسيس أسبوري (١٧٤٥ – ١٨١٦)، عند ذهاب أسبوري لتأسيس أول مجتمعات وسلية في أمريكا. وإذ شجع أسبوري – الذي يُعد مع توماس كوك (١٧٤٧ – ١٨١٤)، أول أسقفين مُرتَسَمين بواسطة وسلي على الكنائس الوسلية في أمريكا – على قراءة كتابات فلتشر جنبًا إلى جنب مع كتابات وسلي، أُلتُقِط الفهم اللاهوتي الفلتشري للاختبار الثاني، بواسطة الكثير من رجال الله ونساؤه في أمريكا، مثل “تشارلس فني” (١٧٩٢ – ١٨٧٥)، وصديقه “أسا ماهان” (١٧٩٩ – ١٨٨٩)، و”فيبي بالمر” (١٨٠٧ – ١٨٧٤)، ليبدأ تحول في مفردات وصف الاختبار الثاني، بحيث يوصف كاختبار يحمل وجهين معًا: أحدهما كريستولوجي/مشابهة المسيح (كتقديس تام)، والأخر نيوماتولوجي/استقبال قوة الروح القدس (معمودية النار)، ليظهر في تاريخ الفكر اللاهوتي الوسلي ما يعرف باختبار “التقديس الخمسيني” كمدخل لحياة الكمال المسيحي. واختبار التقديس الخمسيني هو نفسه الاختبار الثاني في الحياة الروحية جامعًا للرؤيتين الوسلية والفلتشرية معًا.

وليلاحظ القاريء أن تعبيرات “معمودية الروح القدس” و “التقديس الخمسيني” لا تُستخدم في هذا السياق الوسلي بنفس استخدامها المتعارف عليه في السياق الخمسيني المعاصر، والذي سيتطرق الحديث إليه في الجزء القادم من هذا المقال. لكن، ينبغي الآن الإشارة إلى أن ظهور “التقديس الخمسيني” كاختبار يجمع التقديس ومعمودية النار معًا كوجهين لعملة واحدة، في الطور الابتدائي للوسلية الراديكالية، قد مهد لظهور ما يُعرف بلاهوت “الثلاث بركات”، الذي أثر في بلادنا تأثيرًا عظيمًا، والذي يُعد أيضَا مركز الانتقال إلى الطور النهائي والناضج من الوسلية الراديكالية، ومنها إلى الخمسينية المعاصرة، وهذا هو موضوع حديثنا في الجزء القادم من هذا المقال. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، يناير ٢٠٢٢

مقالات أخرى

تابعنا:

1 فكرة عن “التقليد الوسلي (٨) – الجزء الأول – تطور الفكر اللاهوتي بين النص، والخبرة، وصياغة العقيدة: وسلي وفلتشر”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.