التقليد الوسلي (٩) – الجزء الأول – الكنيسة: مجتمع أُناس الله بين التاريخ والتجديد

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، في حديثنا – عبر مقالات سابقة – عن التقليد الوسلي كمُنتَج لاهوتي يتجسد فيه التآزر بين علم اللاهوت والروحانية، تناولنا مفردات متعددة من وعاء هذا التقليد. وشملت أحاديثنا سجالات نظريات المعرفة، وأطروحات حول موضوعات الخلاص الجوهرية كالتبرير والتقديس، وعلم الله الكلي، والزمن والأبدية. كما تناولنا نماذج لتطور الفكر اللاهوتي بين النص والخبرة وصياغة العقيدة. في هذا المقال، بأجزائه، أتحدث معك باختصارٍ – قارئي العزيز – حول “الكنيسة” في التقليد الوسلي، أو الفكر الكنسي (Ecclesiastical Thought) كما يُعبَر عنه في الأدبيات الوسلية الكلاسيكية وأدبيات حركات القداسة. والحقيقة، فإن هذا الجانب من التعليم الوسلي يُعتبر – كما سنرى – من أكثر الجوانب التي تجلت فيها المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية.

جون وسلي: المُفكِر، والناشِر، واللاهوتي الكنسي

امتدت سنوات حياة جون وسلي حوالي ثمانٍ وثمانين عامٍ (١٧ يونيه ١٧٠٣ – ٢ مارس ١٧٩١م)، قضى معظمها – بعد اختبار تجديده في ألدرزجيت في ٢٨ مايو ١٧٣٨ – كمنوذج مُعاش لمصالحة علم اللاهوت والروحانية. وعلى الرغم من أن وسلي لم يكتب لاهوتًا نظاميًا (Systematic Theology)، غير أنه قد استقر إجماع آراء الدارسين الوسليين على أن ما تركه من كتابات لاهوتية وعقائدية وكتابية – سواء بقلمه أو ما جمعه ونقحه – بات يُشكل منظومة لاهوتية متكاملة. وبحسب الموسوعة الإرشادية لجون وسلي وأعماله التي نشرتها جامعة كامبريدج تحت عنوان “The Cambridge Companion to John Wesley”، فقد أُعتُبر جون وسلي واحدًا من هؤلاء الناشرين الأغزر إنتاجٍ أدبيٍ في القرن الثامن عشر. إذ كتب وسلي، ونقح، وجمع، وحرَّر ما يزيد عن ألف وخمسمائة وثلاثين مصدر منشور. ولأجل الإيضاح؛ يمكن مقارنة إنتاج وسلي المنشور بإنتاج السير إسحق واتس (Isaac Watts / ١٦٧٤ – ١٧٤٨م)، الذي لم يعبر حاجز الألف وثلاثمائة مصدر منشور، مع كونه واحد من أشهر مَن كتبوا ونشروا في عصر وسلي، وأغزرهم إنتاجًا.

ومن الجدير بالذكر، أن مفردات هذه المنظومة اللاهوتية الوسلية المُشار إليها لم تتم صياغتها بمعزلٍ عن خبرات مجتمع أناس الله. بل على العكس، تفاعلت صياغاتها وتطورت، مع تقدم الاختبار الروحي للمجتمعات الوسلية المتنوعة، فخرجت كسبيكة تشهد مكوناتها للتآزر بين علم اللاهوت والروحانية العملية المتجددة، بل وتتلاقى مع الفلسفة ومناحي العلم المتباينة في سجالات متعددة شكلت جزءًا أصيلاً من منشوراتها. والدارس لحياة وسلي يجد تراكيب فريدة تشهد لهذا التآزر. فوسلي الذي كتب ونشر هذا العدد الكبير من الأدبيات في اللاهوت وغيره من مناحي العلم، هو نفسه مَن قطع على ظهر حصانه حوالي مائتي وخمسة وعشرين ألف ميلاً في جولاته الكرازية والرعوية، منذ بدء انطلاقه للخدمة التجوالية عام ١٧٣٩ وحتى نهاية حياته، وهو نفسه رجل النهضات الذي وعظ ما يزيد عن أربعين ألف عظة، معظمها بلغت حشود مستمعيه فيها المئات والآلاف، وفي بعضها تضاعف العدد ليصل إلى عشرين ألف مستمع في العظة الواحدة! وحينما رحل وسلي في مارس ١٧٩١ – بعد حوالي اثنين وخمسين عامًا من الخدمة النهضوية – ترك وراءه اثنين وسبعين ألف عضوًا ومتتلمذًا في الحركة الوسلية في إنجلترا، وسبعًا وخمسين ألفَا مثلهم في أمريكا!

والآن، لماذا ذِكر هذه الأرقام؟ الحقيقة، أن هذه الاحصائيات تشير بوضوح شديد إلى الهدف النهائي الذي ابتغاه وسلي من وراء إنتاجه اللاهوتي والفكري الغزير، ألا وهو بناء مجتمع أناس الله – الكنيسة! فوسلي لم يكن أبدًا من هذه النوعية من المفكرين الذين ينتجون فكرًا في أبراجٍ عالية تفصلها عن المجتمع طبقات من التفلسف العقلي. كان وسلي مفكرًا ولاهوتيًا عمليًا، من الكنيسة ولأجل الكنيسة. فبينما كان يكتب وينشر أدبيات لاهوتية بغزارة، كان أيضًا ممتطيًا حصانه ليجول واعظًا ما يكتبه، ومعلمًا إياه للناس في كل مكان. وعلى الرغم من السجالات اللاهوتية العديدة والثقيلة التي خاضها وسلي والوسليون مع اتجاهات لاهوتية متباينة، غير أن تيارات هذه السجالات لم تجرفهم بعيدًا عن قصدهم الرئيس، ألا وهو بناء مجتمع أناس الله، وتلمذة المؤمنين ليصيروا أقوياء ويثبتوا في حياة الكمال المسيحي. كان وسلي يجمع من المتناقضات ما يجعل محاولة تصنيفه في معسكر من دون الآخر – مُفكر ولاهوتي أم راعٍ ورجل نهضات – محاولة صعبة، بل وشبه مستحيلة! فكما قيل: “عند البدء بالحديث عنه كمفكر لاهوتي، لا يلبث المرء إلا وينزلق في الحديث عنه باعتباره رجل نهضات عظيم، والعكس”! فقد امتزجت مفردات فكره اللاهوتي بمنهج روحانيته، وكان السر الأول في هذا هو مركزية مجتمع أناس الله في فكره، وتثبيت نظره على نمو هذا المجتمع بكيفية صحيحة، كما سيتضح لاحقًا.

جون وسلي والآباء: دراسة تاريخ الكنيسة لأجل تجديد واقعها

احتلت دراسة الآباء – كما أشرت في مقالات سابقة – مكانة كبيرة عند وسلي، للدرجة التي جعلت دارسو التقليد الوسلي، وعلى رأسهم الفيلسوف وعالم الدراسات الوسلية المعروف البروفيسور ألبرت أوتلر (١٩٠٨ – ١٩٨٩م)، يعتبرون فكر الآباء أحد الأضلاع الأربعة الرئيسة المكونة للفكر الوسلي، فيما يُعرف برباعية البناء اللاهوتي الوسلي (الكتاب المقدس – فكر الآباء – الخبرة الروحية – التفكُر). ويمكن رصد دراسة فكر الآباء عند وسلي في مرحلتين أساسيتين؛ الأولى: ما قبل اختبار تجديده في ألدرزجيت، وهي المرحلة المبكرة، وتظهر فيها دراسة وسلي للآباء كمظهر من مظاهر التقوانية الشخصية والانسجام مع السياق الفكري الذي عاصره وسلي في جامعة أكسفورد آنذاك. ثم المرحلة الثانية: ما بعد تجديده، وتشغل السواد الأعظم من حياته، وتظهر فيها دراسة الآباء عند وسلي كنوع من التنقيب في القديم لأجل اكتشاف نقاط القوة عبر حقب تاريخ الكنيسة الأولى، وتطبيقها لأجل تجديد واقع الكنيسة المُعاصر. هذا، ويمكن القول أنه بسبب هذا المنظور الذي يركز على تجديد واقع الكنيسة من خلال الرجوع إلى فكر الآباء، لم يجد وسلي أي غضاضة في التعامل مع كتابات الآباء – أو كتابات المصلحين الغربيين – بقراءة تحليلة نقدية، هدفها انتقاء الأفكار والتفسيرات الكتابية والممارسات التي أثمرت نموًا حقيقيًا في حياة الكنيسة، وتطبيقها لأجل تقدم مجتمع أناس الله ونموه. فلم يكن القديم في حد ذاته مصدرًا للإلهام عند وسلي، لكنه كان كالمنجم الذي ينبغي التنقيب فيه لإخراج الذهب. وكما يقول البروفيسور هووارد سنيدر أستاذ الدراسات الوسلية: فإن “بقدر المستطاع” هي العبارة المفتاحية في تفسير تمسُك وسلي بالقديم واعتزازه بالتقليد. ويمكننا القول بأن وسلي كان ممسكًا بالقديم بقدر استطاعته، إلا إذا أعاق القديم تقدُم الإنجيل أو عطل بناء مجتمع أناس الله بناءًا كتابيًا صحيحًا، فإن وسلي كان يجنح للتغيير والتجديد. وهكذا، ظهر الفكر الكنسي عند وسلي جامعًا لافتراضات عاملة: من القديم والحديث، المحافظ والراديكالي، التقليد والإبداع، في سبيكة يكاد يكون الفصل بين مركباتها شبه مستحيل!

درس وسلي الآباء وترجم من كتاباتهم، وحرَّرها، وأضافها إلى المصادر التي نشرها ونصح الخدام الوسليين بقراءتها، لأنه كان مقتنعًا بأن التجديد في الكنيسة يحتاج إلى بصيرة مستنيرة تأتي بالجديد، مستندة على أساساته الكتابية (أساسات الجديد)، ومميِزَة لجذوره الآبائية الأصيلة عبر تاريخ الكنيسة. ولأجل مصلحة مجتمع أُناس الله، قرأ وسلي آباء الكنيسة بإجلال شديد، من خلال عدسة كتابية نقدية، مكنته من رفض أمور كان الإجماع على تأييدها قبله شديدًا، وقبول أمور أخرى كان الإجماع على رفضها قبله أيضًا شديدًا! ذهب وسلي إلى تاريخ الكنيسة، ليبحث عن نماذج تحفيزية للنهضة الوسلية التي رآها كأداة في يد الرب لاستعادة اشتعال الكنيسة. كما درس كتابات الآباء ونشر أجزاءً منها لينقل لمعاصريه تفسيرات كُتبت بأيدي مَن عاشوا على مقربة من زمن كتبة أسفار العهد الجديد، أو ربما عاصروهم، كالآباء الرسوليون الذين قدَّر وسلي كتاباتهم جدًا. كان جُلَّ هدفه إطلاع معاصريه من مجتمع أناس الله على الكيفية التي قرأ بها أجدادهم النصوص المقدسة، لتكوين حِس كتابي أصيل، من خلال وضع هذه الكتابات الآبائية – في حياة قارئيها – تحت تصرُف الروح القدس، لاستخدامها لتشكيل حدس تفسيري عند المتتلمذين، يتماشى مع نهر التفسيرات الكلاسيكية المستقيمة عبر تاريخ الكنيسة، لضمان نمو صحيح في روحانية المجتمعات الوسلية. ولعل هذا الحدس – على صعيدٍ آخر – يقوى ويصير قادرًا على تفنيد الاتجاهات اللاهوتية – المعاصرة لوسلي – والتي رأى أفكارها منافية لإجماع اللاهوتيين عبر تاريخ الفكر المسيحي. وختامًا، فإن هدف وسلي النهائي من الرجوع لتاريخ الكنيسة وللآباء ونشر كتاباتهم لم يكن أبدًا التأريخ، ولم يكن أبدًا لتثبيت النصرة في معارك لاهوتية أو فكرية، لكن كان هدفه النهائي هو اكتشاف وتقديم نماذج وأفكار وشخصيات من تاريخ الكنيسة، لإثراء الحركة التجديدية النهضوية التي استأمنه الله عليها، من أجل تأسيس مجتمع كنسي تجديدي يعمل كزقاق جديد يتمكن فيه المؤمنون من النمو والتغير إلى صورة الرب يسوع المسيح، ومن ثم تحقيق القصد والتكليف الإلهي للكنيسة. في الجزء القادم من هذا المقال، سأتحدث بالتفصيل عن سمات هذا المجتمع كما يظهر في التقليد الوسلي. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، مارس ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.