التقليد الوسلي (٩) – الجزء الثالث – الكنيسة: المجموعات الصغيرة وبناء مجتمع أناس الله

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، في الجزئين الأول والثاني من هذا المقال – وهو الرابع عشر من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – أشرت إشارةً عابرةَ إلى “المجموعات الصغيرة” كأداة محورية اعتمد عليها جون وسلي لاستعادة النموذج الديناميكي لاجتماعات البيوت كما عُرِف في الكنيسة الأولى، مع الاحتفاظ – جنبًا إلى جنبٍ – بترتيب الوظائف الكنسية المُفعلّة من خلال استعادة مواهب الروح القدس، مُنضجًا بذلك نموذجًا وظيفيًا للكنيسة، تتجلى فيه الديناميكية المطلوبة في حرية العبادة وحياة المؤمنين معًا على مثال الكنيسة الأولى، وفي نفس الوقت، يَصُون الإطار الوقائي للعقائد والممارسات في الكنيسة، فتُحفَظ – بنعمة الله – من الانحرافات. في الجزء الثالث من هذا المقال، أود أن أُلقي الضوء على المجموعات الصغيرة من حيث تاريخيتها بشكلٍ عام، وعلاقة “وسلي المُبكر” بها من خلال السياق الذي عاش فيه آنذاك.

المجموعات الصغيرة: السياق التاريخي

مما لا شك فيه، أنه يُمكن التأصيل للمجموعات الصغيرة بشكلٍ رئيس من خلال الرجوع إلى النموذج الذي أرساه الرب يسوع المسيح نفسه، باختياره إثني عشر تلميذ ليعلمهم ويُعرِفهم أسرار الملكوت في تلمذةٍ تتميز بالشركة الحياتية العميقة بينهم. وقد استمرت الكنيسة، في حُقبها المبكرة، على هذا النهج، الذي لم يكن مغايرًا لتكوين المجتمع اليهودي آنذاك، كما أوضحت في الجزء السابق من هذا المقال. إذ نرى، في أسفار العهد الجديد، الكنيسة تجتمع في البيوت حيث كانوا “يواظبون على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات” (أع ٢: ٤٢).

ولكن، عبر التاريخ، وفي خِضّم المعارك مع الانحرافات اللاهوتية والهرطقات، هُجِر هذا النموذج البسيط بشكلٍ تدريجيٍ، لصالح تثبيت مقاييس معيارية للمارسات، لأجل مقاومة الانحرافات، في الكثير من المجتمعات المسيحية حول العالم. ومع جعل المسيحية ديانة رسمية في عهد قسطنطين (٢٧٢ – ٣٣٧م.)، وانتشار مباني الكاتدرائيات الضخمة التي نُقِلت الممارسات المسيحية إليها، وفقدان العبادة والشركة البسيطة بين العائلات المسيحية في بيوت المسيحيين، توطد التحول نحو مأسسة الكنيسة بوجهه غير المرغوب فيه. وكاد النموذج الديناميكي أن يختفي من المجتمعات المسيحية، لولا ظهور حركات الرهبنة في الشرق بديناميكياتها، والتي استعادت – بشكلٍ ما – الشركة بين المؤمنين، من خلال العودة إلى ممارسة الحياة المسيحية في سياق عائلي فيما يشبه المجموعات الصغيرة، وتَبلُور المجتمعات الرهبانية من خلال تعاليم آباء الصحراء، كمقاريوس المصري (٣٠٠ – ٣٩٠م.) تلميذ أنطونيوس الكبير (٢٥١ – ٣٥٦م.)، ومعاصره باخوميوس الكبير (٢٩٢ – ٣٤٨م.). وعلى الرغم من انتقال هذا النموذج الديناميكي إلى الغرب بواسطة آباء الغرب الذين زاروا مصر مثل: باسيليوس الكبير، وهيلاري أسقف بواتيه، والقديس جيروم، وغيرهم، إلا أن هذا النموذج ظل مقتصرًا على الأديرة والرهبانيات التي انتشرت شرقًا وغربًا، ولم يُستعاد أبدًا في حياة عامة المسيحيين لا في الشرق ولا في الغرب!

مع بداية الإصلاح الغربي في القرن السادس عشر، ظهر إدراك ملحوظ لدور المجموعات الصغيرة في إحياء النموذج الديناميكي للكنيسة في بيوت المؤمنين، تماشيًا مع مبدأ “كهنوت جميع المؤمنين” الذي نبَّر عليه الإصلاح آنذاك، حيث يشترك الجميع في العبادة ودراسة الكلمة، ويُفعّل النموذج الديناميكي. ولكن، بالرغم من اقتناع بعض المصلحين – في بداية الإصلاح – بدور المجموعات الصغيرة الرئيس في إحياء ديناميكية الحياة المسيحية، وعلى رأسهم لوثر نفسه، غير أنه لم يَتم وضع أو تفعيل أي منهجيات منظمة في هذا المسعَى. بل نجد – على العكس – مع مرور السنوات، يُشَدِد بعض قادة الإصلاح، ومنهم لوثر، على عدم إمكانية تطبيق هذه المنهجية، ويظهر عدم تفضيلهم لها لصالح حفظ تماسك حركة الإصلاح وحكمها المركزي، في تراجع يُشبه ذاك الذي حدث في الحقب المبكرة من تاريخ الكنيسة لصالح مجهودات الترسيخ والتعزيز. وعلى الرغم من محاولات جماعة المصلحين المعروفين بالأنابابتيست (Anabaptist) لتفعيل النموذج الديناميكي من خلال اجتماعاتهم في البيوت – (الأنابابتيست أو “معيدو المعمودية” هم مصلحون نادوا بضرورة إعادة معمودية الماء بعد الإيمان القلبي لمَن تعمدوا قبلاً ليس عن إيمان حقيقي بالرب يسوع كمخلص شخصي) – غير أن مجهوداتهم لم تنجح، بسبب مقاومة المصلحين الشديدة لهم، خوفًا على مركزية وحدة حكم الإصلاح في مقاطعاته المختلفة، مما جعل الأنابابتيست يتعرضون للاضطهاد الشديد، بجانب الحكم عليهم بالهرطقة من المصلحين الكلاسيكيين، مما أدى إلى التنكيل بهم وإعدامهم في كثير من مقاطعات الإصلاح!

وعلى هذا، لم تظهر محاولات ناجحة لتفعيل النموذج الديناميكي للكنيسة بما يشتمل عليه من مركزية للمجموعات الصغيرة إلا مع قيام الحركة التقوية اللوثرية (Pietistic Lutheranism) في نهاية القرن السابع عشر، والتي مع انتشار كتابات مُلهِمها اللاهوتي الألماني فيليب سبينِر (١٦٣٥ – ١٧٠٥م.) في أوروبا، لعبت دورًا كبيرًا في استرداد نموذج اجتماعات البيوت المبكر في الكنيسة كأداة فاعلة لإحياء نموذج الكنيسة الديناميكي، من خلال التركيز على اختبار الولادة الثانية، والتجديد، والتقوى الحقيقية، وتشجيع المؤمنين بداخل المجموعات الصغيرة على حياة التلمذة والالتزام الروحي في مناحي الاجتهاد المتنوعة، كالصلاة والصوم ودراسة الكلمة والشركة والتقدم للعشاء الرباني.

فيليب سبينِر

وقد كانت الحركة التقوية هي المُلهِم الرئيس للكونت نيوكلاس زينزيندورف (١٧٠٠ – ١٧٦٠م.)، الأب الروحي والمؤسس للنهضة المورافية (Moravian Movement) المعروفة باسم “المورافيان”. هذه النهضة التي نقلت نموذج المجموعات الصغيرة إلى مستوى جديد من التفعيل في تاريخ الحركات الروحية في أوروبا، وسلطت الضوء بشكل واضح على العلاقة بين تفعيل النموذج الديناميكي لحياة الشركة العميقة والعبادة الحقيقية في الكنيسة من جهةٍ، والإرساليات الفعَّالة من جهةٍ أخرى. وقد كان للحركة المورافية تأثير مباشر على جون وسلي في مراحل خدمته الأولى. لذا، تُعد – مع نماذج أخرى – من المصادر التي ألهمت وسلي في صياغة فكره فيما يخص المجموعات الصغيرة كأداة لتحقيق النهضة في حياة المؤمنين، كما سنرى لاحقًا.

علاقة "وسلي المُبكَر" بالمجموعات الصغيرة

اعتاد دارسو التقليد الوسلي تقسيم فكر جون وسلي لثلاث مراحل: وسلي المبكر (ويشمل فكره قبل تجديده، وقد يمتد لسنوات قليلة بعد تجديده حتى بداية الأربعينيات من القرن الثامن عشر)، ووسلي الأوسط (ويمتد من الأربعينيات إلى بداية السبعينيات تقريبًا من القرن الثامن عشر)، والمتأخر (ويشمل بقية سني عمر وسلي حتى انتقاله في ١٧٩١م). وسأتحدث في هذا الجزء عن علاقة وسلي المُبكر بالمجموعات الصغيرة.

نشأ جون وسلي فيما يُسمَى “بيت الرعوية”، إذ كان أبوه صموئيل وسلي قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجليكانية في إيبورث بإنجلترا، مما وفر لوسلي – منذ صغره – فرصةً عظيمةً للتعرُف على تقاليد الكنيسة الإنجليزية عن قرب، بما اشتملته من إرهاصات لمحاولات إصلاح متناثرة، قامت بفعل تأثير كتابات الحركة التقوية الألمانية على بلدان أوروبا، والتي سرعان ما نظر إليها وسلي، بعد تجديده، بنظرة تحليلية، ليلتقط منها ما يدفع عجلة الحركة النهضوية التي استخدمه الرب فيها.

ولوسلي خبرة مبكرة مع المجموعات الصغيرة، تعود إلى سنوات طفولته، من خلال أمه سوسنا وسلي، والتي من المعروف أن الحركة التقوية لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل روحانيتها. وقد بدأت سوسنا وسلي مجموعة صغيرة، أثناء سفر زوجها صموئيل وسلي في واحدة من رحلات خدمته والتي امتدت من ديسمبر ١٧١١ إلى فبراير ١٧١٢. كانت سوسنا تعقد المجموعة كل يوم أحد مساءً في بيتها كاجتماع عبادة عائلي صغير لأولادها، ثم دعت الخدم العاملين في بيتها للحضور معهم، ثم فتحت الباب لحضور مَن يشاء من الكنيسة. فاتسعت المجموعة، وسرعان ما اجتذبت ما يتراوح بين مائتي وثلاثمائة شخص يحضرون أسبوعيًا ويعبدون معًا في فناء المنزل. وبالرغم من توقف هذه المجموعة بمجرد عودة الأب صموئيل وسلي، غير أنه من الممكن جدًا استنتاج تأثير هذه المجموعة على شخصية الطفل جون وسلي آنذاك الذي رأى نفسه عضوًا في مجموعة أسبوعية تنمو بهذا المعدل في ثلاثة أشهر!

سوسنا وسلي

والحقيقة، فإن المجموعة التي عقدتها سوسنا وسلي، لم تكن فكرتها الخاصة في ذلك الوقت. لأن محاولة نشر فكرة المجتمعات الدينية (The Religious Societies) في إنجلترا – كأحد أشكال المجموعات الصغيرة – كانت من ضمن إرهاصات محاولات الإصلاح التي ذكرتها قبلاً، والتي انتهجتها كنيسة إنجلترا للهروب من الجمود الذي أصابها آنذاك، لكنها لم تُحقق الأهداف المرجوة، لأنها لم تُبن على تعريف واضح للاختبار المسيحي الحقيقي، مما جعلها مجرد مجموعات من أفراد يحاولون الاجتهاد في الحياة المسيحية من دون اختبار الحياة الجديدة. وللإيضاح، فإن الحركة التقوية في ألمانيا وسويسرا نظرت للمجموعات الصغيرة على أنها أداة لإنضاج أولئك المؤمنين الذين نالوا بالفعل اختبار الولادة الجديدة، ويسعون نحو النضوج الروحي والاشتعال، بينما غاب هذا الوعي عن المتحمسين لفكرة المجتمعات الدينية في الكنيسة الإنجليكانية آنذاك، وكأنما وُضعِت العربة أمام الحصان، بمحاولة إنعاش من لم يتذوق الحياة الجديدة من الأصل! وقد قام وسلي نفسه بتكوين إحدى هذه المجموعات في أكسفورد قبل تجديده، لكنها لم تعطه الشبع الحقيقي، الذي وجده في اختبار تجديده في ألدرزجيت في ٢٤ مايو ١٧٣٨م.

بعد اختبار تجديد جون وسلي الذي استخدم الرب في الإعداد له مؤمنين من الحركة المورافية عبر مواقف متعددة رتبتها النعمة لتغيير حياة وسلي، صار وسلي عضوًا في إحدى المجموعات الصغيرة التي عقدها المورافيون في إنجلترا، وكانت تُعرَف بمجتمع “فيترلان” (Fetter Lane Society)، حيث أُضيف مُفرد مركزي آخر في تشكيل فكر وسلي عن المجموعات الصغيرة كأداة للتلمذة ولإحياء النهضة، كما سنتناول بالدراسة تفصيلاً في الجزء القادم من هذا المقال. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، مايو ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.