التقليد الوسلي (٩) – الجزء الرابع – الكنيسة: النموذج الوسلي للمجموعات الصغيرة

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، في ختام الجزء الثالث من هذا المقال – وهو الرابع عشر من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – وفي سياق حديثنا حول المجموعات الصغيرة في الفكر الكنسي في التقليد الوسلي، أشرت بإيجاز إلى خبرة جون وسلي المبكرة مع المجموعات الصغيرة بعد تجديده في ألدرزجيت في ٢٤ مايو ١٧٣٨م، إذ التحق بعضوية إحدى المجموعات الصغيرة التي كان يقودها المورافي “بيتر بوهلر” في إنجلترا، وكانت تُعرَف بمجتمع “فيترلان” (Fetter Lane Society). في الجزء الرابع من هذا المقال، أود أن ألقي الضوء بشيء من التفصيل حول خبرة وسلي في مجتمع فيترلان، إذ أنها تلعب دورًا محوريًا في إنضاج صياغة فكره حول المجموعات الصغيرة في هذه المرحلة من خدمته، وذلك من خلال ما وافق عليه من مباديء فيترلان أو ما رفضه على السواء. ومن فيترلان، أنطلق معك أيضًا – عزيزي القاري – لأعرض بعض السمات الرئيسة للنموذج الناضج للمجموعات بحسب جون وسلي.

وسلي في مجتمع فيترلان

من المعروف أن الرب قد استخدم بنعمته خدمة المورافيان كقناة أساسية لافتقاد حياة جون وسلي وتجديده. فقد تقابل وسلي مع بعض من الإخوة المورافيان على ظهر السفينة أثناء رحلة سفره من لندن إلى جورجيا في أكتوبر ١٧٣٥. وقد لفت انتباهه ثباتهم أثناء العواصف التي كانت تهب على السفينة، ويقينهم من خلاصهم، مقارنةً بتذبذبه وأفكاره المتضاربة آنذاك حول الخلاص، إذ كان غير مُختبر لاختبار الولادة الجديدة في هذا الوقت. وقد ازداد عمق علاقة وسلي بالمورافيان أثناء سنوات وجوده في جورجيا حتى ديسمبر ١٧٣٧. ثم عاد وسلي إلى إنجلترا بعد انتهاء هذه الإرسالية الفاشلة التي تيقن فيها من حاجته للخلاص الحقيقي. وقد استخدم الرب في إنجلترا المورافي “بيتر بوهلر” مع جون وسلي ليشرح له معنى الخلاص الحقيقي بالإيمان، وكفاية دم الرب يسوع المسيح لهذا الخلاص، من دون الاعتماد على الأعمال. ونال وسلي اختبار التجديد في ألدرزجيت عند استماعه لقراءة مقدمة شرح لوثر لرسالة رومية، وكانت هذه هي اللحظة التي اختبر فيها وسلي اشتعال قلبه باليقين أن ما صنعه الرب لأجله فيه كل الكفاية لخلاصه. بعد هذه الأحداث، كان من الطبيعي أن يتطلع وسلي للمورافيان لأجل تلمذته. وبالفعل، سافر وسلي في يونيه ١٧٣٨ – بعد أقل من شهر من تجديده – إلى مارينبورن بألمانيا لمقابلة “الكونت زينزيندورف” الأب الروحي ومؤسس الحركة المورافية. وبالرغم من عدم الاندماج الذي ظهر بين شخصيتي وسلي وزينزيندورف في هذا اللقاء، غير أن هذا لم يمنع وسلي بعد عودته إلى إنجلترا من أن يصير عضوًا في مجتمع “فيترلان”، وهو أحد مجموعات التلمذة الصغيرة التي كونها المورافي بيتر بوهلر في لندن آنذاك.

بيتر بوهلر

كان مجتمع فيترلان قد أُسِس على مبدأ الاعتراف بالخطايا المذكور في رسالة يعقوب: “اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالزَّلاَتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ، لِكَيْ تُشْفَوْا…” (يع ٥: ١٦)، إذ كانت هذه الممارسة – الاعتراف الجماعي – أساسية لأعضاء المجموعة الذين يتقابلون أكثر من مرة في الأسبوع للصلاة ودراسة الكلمة معًا. وقد ظل وسلي مُلتزمًا بمجموعة فيترلان خلال السنوات الأولى بعد تجديده طالما كان موجودًا في لندن، إذ بدأت نيران النهضة الوسلية تشتعل، وتتسع دائرتها، وتتعدد معها أسفار وسلي إلى خارج لندن، وخاصة إلى بريستول، حيث تمركزت بدايات النهضة الوسلية.

بتولي المورافي فيليب هنري مولتر (١٧١٤ – ١٧٨٠ م) قيادة مجتمع فيترلان، في عام ١٧٤٠، حدث تغيُر جوهري في منهجية التلمذة. إذ بدأ مولتر يعلم (بموافقة زينزيتدورف) بأنه ينبغي على أعضاء المجموعة أن يتوقفوا عن الاجتهاد في ممارسة وسائط النعمة – خاصة الإفخارستيا – إذا عبروا بوقت شعروا فيه بأي خوف أو شكوك في حياتهم الروحية، إلى أن ينسكب في قلوبهم إيمان حقيقي كبرهان لأصالة خلاصهم، فيما عُرِف بعقيدة “السكون” (Stillness). رفض الأخوان وسلي عقيدة “السكون” بحسم. وقد كانت هذه العقيدة هي السبب الرئيس – بالإضافة للاختلاف حول إظهارات الروح التي اعترض عليها مولتر – وراء تركهما لمجتمع فيترلان في يوليو ١٧٤٠م. وعلى الرغم من مغادرة وسلي لفيترلان، غير أنه لا يمكننا بالطبع فصل تأثير الخبرة الروحية التي تكونت عند وسلي، خلال سني عضويته في هذه المجموعة المورافية القيادة عن فكره بشأن المجموعات الصغيرة. إذ أنه في فيترلان، كانت خبرة وسلي الأولى بعد تجديده في الانتماء لمجموعة صغيرة تحيا معًا النموذج الديناميكي للكنيسة. اختبر وسلي في هذه المجموعة المحبة العميقة بين الإخوة، هذه المحبة التي تستر الخطايا المُعترَف بها، وتطلق صلوات الشفاء. اختبر وسلي نموًا سريعًا وأصيلاً صاحَب تواجده في هذه المجموعة، كما اختبر إطلاقًا لدعوته في خدمة الرب. هذه العوامل مُجتَمِعَة معًا رسخت عند وسلي إدراك مركزية المجموعات الصغيرة كأداة فعالة في نمو الإنسان المُتجدد، بالإضافة إلى مركزية نموذج ممارسة جوانب الحياة المسيحية “في مجتمع شركة عميقة” في نمو الكنيسة، فيما يُعد ضمن أكثر نقاط الاتفاق قوة بين وسلي والمورافيان، والتي تأتي بالطبع بعد اتفاقهما، الذي لا هوادة فيه، على مركزية اختبار الخلاص بالإيمان في الحياة المسيحية.

أيضًا، لعب ما اختلف فيه وسلي مع المورافيان دورًا كبيرًا في صياغة مفردات منهجيته للمجموعات الصغيرة فيما بعد. فاختلاف وسلي مع المورافيان حول عقيدة “السكون” أبرز بشكلٍ مباشر مركزية سرائرية وسائط النعمة في الفكر الوسلي. فبالنسبة للأخوين وسلي، كما يتضح في سجالهما مع مولتر، وسائط النعمة – وخاصة الإفخارستيا – تنقل النعمة وعمل الروح القدس لمَن يمارسها بإيمان بشكلٍ سرائري فائق يدفع الشفاء والنمو الروحي في حياة المؤمن. بينما بالنسبة لمولتر، يظهر جليًا تفريغه لوسائط النعمة والأسرار من جوهرها السرائري! يؤكد هذا تشارلز وسلي معترضًا على مولتر، إذ يقول: “إنه ينكر أن النعمة – أو الروح – تنتقل خلال وسائط النعمة وخاصةً الأسرار”!! هذا الاختلاف دفع وسلي للتركيز على الاجتهاد في ممارسة وسائط النعمة بمفهومها السرائري، مُشكلاً أحد أهم أعمدة نظام التلمذة في المجموعات الوسلية. لذا، يمكن التعبير عن منهجية التلمذة في المجموعات الصغيرة الوسلية بكونها: تلمذة صارمة مبنية على الاجتهاد المُمَكن بالنعمة والمغروس في مجتمع محبة صادقة وشركة عميقة بين المؤمنين.

الصياغة الوسلية لمنهجية المجموعات الصغيرة

تميزت صياغة وسلي لمنهجية المجموعات الصغيرة في الحركة الوسلية عن غيرها من الصياغات التي سبقته في هذا المَسعَى. فوسلي، كعادته، يطلع على الخبرات المختلفة، فاحصًا الأصول الكتابية والآبائية، منتجًا النموذج الخاص به لأجل تقدم النهضة التي استأمنه عليها الرب. وبالنسبة للمجموعات الصغيرة، فإن مقدار تفرد منهجية وسلي أدى ببعض الدارسين لاعتبار وسلي أبًا للمجموعات الصغيرة في تاريخ الكنيسة الحديث، على الرغم من كونه ليس أول من أعاد اكتشافها!

بشكلٍ مبدئي، تميزت منهجية وسلي للمجموعات عن غيرها بقبول وسلي لكل مَن يرغب في حياة التلمذة من دون النظر إلى كونه عضوًا في الكنيسة الإنجليكانية أم لا. فقد وضع وسلي شرطًا واحدًا لقبول الأعضاء في المجتمعات الوسلية، وهو رغبة المتقدم في الفرار من الغضب الآتي بمعرفة المخلص ربنا يسوع المسيح. كان وسلي واضحًا في كونه لا يبحث عن أشخاص “بمؤهلات كنسية”، لكنه كان باحثًا عن النفوس التي – من خلال النعمة البادئة – تجاوبت أو تود التجاوب بشكلٍ حقيقيٍ مع خلاص المسيح المُقدَم، حتى لو ظهر هذا التجاوب كمجرد إرهاصات مبكرة. لذلك، ميّز وسلي بين نوعين أساسيين من المجموعات التي كونت المجتمعات الوسلية، وهي: الفصول والفرق.

كانت الفصول هي نقطة الدخول إلى المجتمعات الوسلية، وكانت تجمع مؤمنين قدامى وجدد، مع أشخاص لم يتجددوا بعد، لكن معظمهم كانوا ممَن حضروا اجتماعات وسلي، وأظهروا رغبة في الحياة مع الرب. كانت اجتماعات وسلي في هذا الوقت تعقد في أي مكان مُتاح – سواء مُغطَى أو في الهواء الطلق – من دون الالتزام بالشكل التقليدي للاجتماعات. لذا، اجتذبت الاجتماعات فئات غير معتادة من الناس، وكانت تُقدَم لهم الدعوة لقبول خلاص المسيح والالتحاق بالمجتمعات الوسلية. كان هؤلاء يلتحقون بالفصول، حيث يوجدوا مع المؤمنين الحقيقيين الذين يقدمون لهم الإنجيل ويصلون لأجلهم بحرارة شديدة. لذلك، كانت معظم حالات التجديد ونوال الحياة الجديدة تحدث في الفصول، التي صارت بمثابة مجتمعات نهضوية منتشرة عبر إنجلترا، مما أدى ببعض الدارسين إلى اعتبار الحركة الوسلية ليست نهضة واحدة، بل سلسلة من النهضات التي اندلعت في مدن إنجلترا المختلفة، تحت قيادة روحية ومنهجية موحدة.

بجانب الفصول، نُظِمَت الفرق كمجموعات صغيرة مُخصصة للمؤمنين فقط، وهي نوعية مختلفة من المجموعات الصغيرة التي تتميز بالعمق في التعليم، والمواظبة على مناحي الاجتهاد المختلفة بالتزام يناسب حياة الإيمان، وممارسة الاعتراف الجماعي بين أعضاءها. وقد اعتبرت الفرق كأداة أساسية للدفع تجاه نوال حياة الكمال المسيحي والاستمرار فيها بالنسبة للمتتلمذين. هذا، ويمكن تلخيص قوانين وسلي لحياة التلمذة في: بدء اليوم وختامه في حضور الله (في الصلاة)، عدم النوم بشكلٍ مفرط، تكريس ساعة على الأقل يوميًا للتأمل في كلمة الله، الانتفاع بكل أوقات الفراغ في اليوم لأجل البناء الروحي، الاجتهاد في تتميم الدعوة الإلهية بشكل مستمر، التعامل مع أيام الإجازات والعطلات (holidays) على أنها أيام مُقدسة (holy-days)، الابتعاد عن السكارى (لانتشارهم في المجتمع آنذاك) والفضوليين، تجنُب الفضول والمشغولية والمعرفة التي بلا نفع، امتحان المرء لنفسه بالروح القدس في كل ليلة، والابتعاد عن أي أمور يشعر الإنسان تجاهها بشغف وانجذاب نفسي (بلوغ اللاهوى). دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، يونيه ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.