التقليد الوسلي (١٠) – مركزية دور المرأة في الخدمة الكنسية في التقليد الوسلي

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، من خلال ما تم عرضه في مقالات سابقة من تطورات الفكر اللاهوتي والكنسي في التقليد الوسلي، أشرت إشارات متنوعة – من دونِ إسهابٍ – إلى دور المرأة في الخدمة في التقليد الوسلي، وذلك من خلال ما ذكرته عن نساء استخدمهن الرب مثل: سوسنا وسلي وفيبي بالمر. في هذا المقال – وهو الخامس عشر من سلسلة مقالات مصالحة علم اللاهوت والروحانية – أود أن أسلط الضوء على مركزية دور المرأة في الخدمة الكنسية عبر تاريخ التقليد الوسلي وتقاليد القداسة، من خلال رصد تاريخي مختصر لتطور هذا الدور عبر سنوات نشأة التقليد الوسلي ونضوجه، مصليًا أن يسهم هذا المقال في رأب الصدع المُلاحَظ في الشرق حول دور المرأة في خدمة الرب وسط مجتمع أُناس الله.

جون وسلي وإعادة اكتشاف دور المرأة في الخدمة

يُشِير الكثير من دارسي التقليد الوسلي، مثل البروفيسور “دونالد دايتون” أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة درو بجيرسي سيتي، و”سوزي ستانلي” أستاذة اللاهوت التاريخي والرئيس الأسبق لمجتمع الدراسات الوسلية، وغيرهم، إلى الدور الرئيس الذي لعبته تقاليد القداسة في القرن التاسع عشر، ومن بعدها التقليد الخمسيني في القرن العشرين، في إبراز مركزية خدمة المرأة في حياة الكنيسة خلال القرنين الماضيين. والحقيقة، فإن الدارس لتاريخ الفكر المسيحي والحركات الروحية المسيحية حول العالم من السهل أن يلاحظ صحة هذا الطرح؛ إذ نجحت حركات القداسة والحركات الخمسينية والكاريزماتية في دفع استرداد خدمة المرأة للنموذج الأصلي الذي يظهر عبر أسفار العهد الجديد دفعًا غير مسبوق في تاريخ الكنيسة المعاصر. هذا النموذج الأصلي الذي توارَى عبر القرون مع هيمنة النمط المؤسسي للكنيسة بوجهه غير الصحيح، والذي لم ينجح الإصلاح الغربي الكلاسيكي – في القرن السادس عشر – في استعادة أيٍ من ملامحه بشكل ممنهج. فعلى الرغم من وضوح مبدأ “كهنوت جميع المؤمنين” في أدبيات الإصلاح، وعلى الرغم من ظهور بعض السيدات اللاتي كانت مواهب الخدمة واضحة عندهن – بشكل فردي – في سياق دوائر الإصلاح، غير أن استعادة خدمة المرأة لفاعليتها المرجوة لم يظهر واقعيًا إلا مع إصلاح الإصلاح الذي حدث من خلال الحركات الوسلية بمراحلها المختلفة، والذي وجد جذوره في النموذج والقدوة العملية التي أعطاها جون وتشارلس وسلي خلال حياتهما وخدمتهما في القرن الثامن عشر فيما يخص هذا المسعى، ووصل إلى قمة نضوجه – بشكل راديكالي – من خلال تقاليد القداسة والتقليد الخمسيني في القرون اللاحقة.

بالتأكيد لعبت سوسنا وسلي – والدة جون وتشارلس وسلي – دورًا كبيرًا في إعطاء قدوة أصيلة لخدمة المرأة، مما كان له أبلغ الأثر على ولديها. فعبر رحلة الحياة، رأى وسلي والدته وهي تخدم الرب بطرقٍ متنوعة؛ بدايةً من قيادة الصلاة وشرح النصوص الكتابية لأولادها في المنزل، وتدريبهم على المعرفة اللاهوتية، مرورًا بقيادتها لمجموعة التلمذة التي نمت لتصير اجتماعًا أسبوعيًا يحضره مئات أثناء سفر زوجها، ووصولاً إلى كتاباتها ومراسلاتها مع وسلي وآخرين حول موضوعات متنوعة في الحياة الروحية. هذا النموذج الواضح للمرأة الخادمة، جعل وسلي لا يتردد منذ بداية النهضة الوسلية في إسناد قيادة بعضٍ من المجموعات الصغيرة (الفصول والفرق) إلى سيدات مشهود لهن بالتقوى، وعبر السنين بدأ بعضهن يأخذن مكانهن في خدمة الوعظ بموافقة وسلي. وعلى الرغم من تشجيع وسلي، منذ بداية الحركة، للسيدات – مثلهن مثل الرجال – على الشهادة الجهورية في الاجتماعات عن اختباراتهن الشخصية مع الرب، وتسبيح الرب بشكل جهوري وسط العبادة الجماعية. غير أن وسلي لم يصل في بداية خدمته إلى قناعة سريعة بأن المرأة يمكنها أن تعظ، لكن نما عنده هذا الوعي على مر السنين.

رائدات الوعظ في التقليد الوسلي: ماري فلتشر وسارة كروسبي

من المعروف أن شخصيتين محوريتين كان لهما الدور الأعظم في نمو وعي وسلي بمركزية خدمة المرأة في الكنيسة ودفعه للتخلي عن الرأي التقليدي الذي يمنع المرأة من الوعظ آنذاك، وهما: “سارة كروسبي” (١٧٢٩ – ١٨٠٤م.)، و”ماري بوسانكويت” (١٧٣٩ – ١٨١٥م. / زوجة جون فلتشر)، اللتان بسبب دعوتهما المميزة والمسحة الواضحة في خدمتيهما، اضطر وسلي لمراجعة آراءه حول خدمة المرأة في الوعظ. وعبر سلسلة من خطوات التصريح من قِبل وسلي – والتي تدرجت منذ عام ١٧٦١ بدءًا من السماح لماري فلتشر وسارة كروسبي بإعطاء كلمة تشجيعية لا تزيد عن خمس دقائق، إلى السماح بقراءة جزء من تفسير وسلي للعهد الجديد، ثم السماح باستخدام نص كتابي، والوعظ استنادًا عليه، لمُدة أطول من الوقت – وصل وسلي إلى قناعة بإمكانية التصريح الكامل للمرأة بالوعظ، والذي تم تفعيله مع عدد قليل من الأخوات، منهن”سارة ماليت” (١٧٦٤ – ١٨٤٦م.)، والتي صُرِحت من قِبَل وسلي للوعظ عام ١٧٨٧، في عُمر مبكر جدًا آنذاك، واستمرت تعظ لأربعين عامًا بعد رحيل وسلي. وعلق وسلي على تصريحها للوعظ آنذاك بأنها يمكنها أن تعظ طالما استمرت خاضعة لروح التعليم المُتفق عليه والتلمذة التي من المتوقع أن يخضع لها جميع الوعاظ في الحركة الوسلية. وعلى الرغم من ظهور واعظات أخريات في التقليد الوسلي، غير أن ماري فلتشر وسارة كروسبي ظلتا الأيقونتين الرئيستين لوعظ المرأة في زمن وسلي. فقد اجتذبت – على سبيل المثال – اجتماعات ماري فلتشر، في أواخر الستينيات من القرن الثامن عشر، مئات ومئات من الحاضرين، الذين استمعوا في بعض الأوقات لعظاتها في الهواء الطلق وتحت الأمطار! بينما ارتفعت الأعداد إلى قرابة الألفين من الحاضرين بمنتصف سبيعينيات العقد التالي! وقد وصف وسلي عظاتها بأنها “كالنيران التي تحمل نورًا وحرارة (اشتعال) لكل مَن يسمعها”!

هذا، ويتفق بعض الدارسين على أن وسلي استند، في بداية تصريحه بالوعظ للأخوات، بشكلٍ عام، على التشابه بين مفردات الحركة الوسلية ومفردات الكنيسة المُبكرة في زمن الرسل استنادًا مباشرًا، وبناءً عليه، رأى أنه حيث نيران النهضة حاضرة يمكن للأخوات أن يعظن. ثم تطورت قراءته الكتابية للأمر ليُظهر أثناء دفاعه عن خدمة المرأة اعتمادًا خاصًا على الأصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل، حيث انسكاب الروح على الجميع – رجالاً ونساءً – من دون تفرقة، وإعطاء الروح للمواهب والوزنات “لكل واحد” من دون تفرقة، وبالتالي إمكانية خدمة المرأة كما الرجل وسط جماعة أُناس الله، معتمدًا أيضًا على أن الجميع واحد في المسيح – “ليس ذكر ولا أنثى” (غلا ٣: ٢٨) – وأن الكتاب يُوصي المرأة أن تغطي رأسها وهي تتنبأ (معنى الكلمة الأصلي يتضمن الوعظ والتشجيع أيضًا) وسط الكنيسة. وبالتالي، فإن الآيات التي تتحدث عن صمت المرأة لابد أن تُقرأ بعمق يذهب إلى أبعد من مستوى القراءة الأولية المُتعارَف عليها. ولا يغيب عن القاريء الفطِن للتقليد الوسلي، ملاحظة ربط وسلي لوعظ المرأة مع اختبار التقديس التام المُتاح للجميع رجالاً ونساءً من دون تفرقة، والذي معه تنسكب نيران الروح القدس في حياة مَن يستقبله، وعليه ينطلق مَن تقدس ليخدم في بعدٍ جديدٍ فائق للطبيعي، وهذا يشمل كل مَن ينال هذا الاختبار – رجلاً أم امرأة – طالما كان الخادم خاضعًا لترتيب الروح القدس المُعلن في الجماعة الروحية التي ينتمي إليها، والتي بالنسبة لوسلي آنذاك كانت الحركة الوسلية نفسها.

تقاليد القداسة واستمرارية الدفاع عن خدمة المرأة

من خلال فكره وممارساته العملية، قدم جون وسلي الدعائم اللازمة لآخرين من معاصريه في الحركة الوسلية أو ممن جاءوا بعده في حركات القداسة والحركات الخمسينية ليسلكوا نفس مسلكه تجاه خدمة المرأة. فنجد – على سبيل المثال لا الحصر – المُفسِر الوسلي “آدم كلارك” (١٧٦٠ – ١٨٣٢م.) يُشدد على أن المرأة في المسيحية لها نفس الحقوق والامتيازات والبركات التي للرجل، ويسلط الضوء على أن الرب لايزال يدعو بناته إلى التنبؤ، بالمعنى الواسع للنبوة الذي يشمل الإخبار بالمستقبل، والوعظ، والشرح، والتشجيع، والصلاة، طالما وُجِد خضوعًا حقيقيًا للتعليم المُتفق عليه وسط الجماعة الروحية التي ينتمي إليها الخادم.

أيضًا في القرن التاسع عشر، نجد تشارلس فني (١٧٩٢ – ١٨٧٥م.)، وصديقه أسا ماهان (١٧٩٩ – ١٨٨٩م.) (الرئيسين الأولين لكلية أوبيرليان في ولاية أوهايو)، يسيران على نفس النهج، فبجانب إنتاجهما لأدبيات لاهوتية تشرح وتدافع عن اختبار التقديس التام وعلاقته بمعمودية الروح القدس (دُعيت آنذاك معمودية النار ولم تُربَط ربطًا حصريًا بأي موهبة من المواهب)، دعما خدمة المرأة دعمًا عظيمًا. ومن المعروف أن في مدة رئاستمها لكلية أوبيرليان، فتحت الكلية الباب للتعليم المختلط (حيث يتعلم الشباب والشبات معًا)، ومن ثمّ تعتبر كلية أوبيرليان هي السابقة الأولى في الولايات المتحدة في هذا المسعى. وقد دافع أسا ماهان بقوة عن حق المرأة في نوال الدرجات الأكاديمية العالية، بل وقدم الدعوة للخريجات لإلقاء الخطابات في احتفالات التخرج، على عكس تقاليد المجتمع آنذاك. صاحب هذا تشجيع تشارلس فني لخدمة المرأة وصلاتِها وشهادتِها في الاجتماعات العامة. ومن الجدير بالذكر، أن “أنتوانيت براون” (١٨٢٥ – ١٩٢١م.)، التي تُعَد أول خادمة مُرتَسمَة في الولايات المتحدة، كانت إحدى خريجات كلية أوبيرليان!

أسا ماهان

هذا، ويخبرنا تاريخ النهضات والحركات الروحية عن العديد من نساء الله الخادمات اللاتي استخدمهن الرب بقوة الروح القدس لربح النفوس وشفاء المرضى وحرية المقيدين، ومن أشهرهن: فيبي بالمر (١٨٠٧ – ١٨٧٤م.) التي سُميت “كولومبوس الروح”، نظرًا لكثرة أسفارها لعقد النهضات واعظة عن التقديس التام ومعمودية النار. كما تميزت اجتماعاتها بحضور الكثير من الأساقفة الوسليين. وقد ألهمت خدمة بالمر “كاثرين بوث” (١٨٢٩ – ١٨٩٠م.)، زوجة “وليم بوث” مؤسس جيش الخلاص. وانطلقت كاثرين لتعظ وتؤلف الكتب مدافعة بجسارة عن دور المرأة في الخدمة. شخصيات أخرى كثيرة مثل: “فرانسيس ويلارد”، و”أماندا بيري سميث”، و”كاري جود مونتجومري”، انطلقن للوعظ وللخدمة، وأيدهن الرب بمسحة وثمر مُبارك. واللافت للنظر هنا، أن معظم هؤلاء النساء ربطن دعوة الرب لهن للخدمة والوعظ، مع نوالهن لاختبار التقديس التام، في تطابُق عميق مع فكر جون وسلي حول خدمة المرأة في عصره. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

كاثرين بوث

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، يوليو ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.