Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (١٢) – الاتحاد بالمسيح عند جون وسلي ومقاريوس الكبير

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، في المقال السابق، ألقينا الضوء على علاقة التقليد الوسلي بتيارات التقليد الآبائي الشرقي، بحسب كثير من الدراسات الأكاديمية التي أصلت للإطار الفكري الذي يتبنى رؤية لاهوت آباء الشرق كأحد المصادر الرئيسة للاهوت الوسلي. كما عرضت لك، قارئي العزيز، بعض نقاط التلاقي والتباين بين التقليدين الآبائي والوسلي بشكلٍ عام، وملامح تآزر الفكر اللاهوتي مع الروحانية في كليهما.

في هذا المقال، نتحرك بعدسة الدراسة، لنلتقط صورة أقرب لأحد تيارات التقليد الآبائي الشرقي الأعمق تأثيرًا على تشكيل مفردات اللاهوت الوسلي، وهو تيار التقليد المقاري (نسبة إلى “مقاريوس الكبير/المصري” من القرن الرابع الميلادي). إذ يُركز هذا المقال على العلاقة بين التقليدين الوسلي والمقاري، من خلال إبراز المفاهيم اللاهوتية المشتركة، جنبًا إلى جنب مع المتباينات وأسبابها، بين التقليدين.

وسلي والعظات الخمسون لمقاريوس الكبير (المصري)

تُصنَف المخطوطات المقارية، عامةً، في خمسة مجموعات. وتُعد المجموعة الثانية منهم هي المصدر الرئيس للعظات الخمسين لمقاريوس. طُبِعَت العظات الخمسين – أول ما طبعت – في نسختها اليونانية مع ترجمة لاتينية، في القرن السادس عشر. ثم صدرت أول ترجمة إنجليزية لها عام ١٧٢١ بواسطة مترجم غير معروف، دُعيّ “أحد شيوخ الكنيسة الإنجليكانية”، وهذه هي الترجمة التي أعاد وسلي تحريرها، ونشر فصول منها – عام ١٧٥٠ – في الجزء الأول من مكتبته المسيحية، والتي صدرت في طبعتها الأولى في خمسين جزء، جمع فيهم وسلي أدبيات لاهوتية قام بتحريرها من تقاليد روحية متنوعة شرقًا وغربًا، وأضاف إليها كتابات بقلمه. فضّل وسلي أن يضع اثنين وعشرين عظة من عظات مقاريوس الخمسين في صدارة هذه المكتبة المهمة. وأضاف وسلي مقدمة لهذه العظات المختارة بقلمه تناول فيها سيرة مقاريوس ورأيه في كتاباته. يختم وسلي هذه المقدمة بتأكيده أن كلمات مقاريوس فيها من القوة الروحية ما يُحفِز مستمعيه، ويضع بداخلهم غيرة حقيقية لحياة الكمال المسيحي والاتحاد مع المسيح، هذه الحياة المنتصرة التي تغلب العالم. من دون شك، يمكننا اعتبار العظات الخمسين لمقاريوس بمثابة نقظة الارتكاز المحورية في علاقة التقليدين الوسلي والمقاري. بالإضافة لهذه العظات التي نشرها وسلي لمقاريوس، اعتمد وسلي على مقاريوس أيضًا في تعريفه لحياة الكمال المسيحي، ودفاعه عن استمرارية مواهب الروح القدس، وفي شرح بعض العقائد الأخروية، كما يتضح من إشارات وسلي لمقاريوس في مناسبات متنوعة. أيضًا، يمكننا القول أن عظات مقاريوس مثلت أحد مصادر تأملات وسلي الشخصية، كما يتضح من مذكراته.

جوهر حياة الكمال المسيحي عند مقار ووسلي: الاتحاد بالمسيح

يتضح من القراءة التحليلية لكتابات جون وسلي ومقاريوس الكبير أنهما يتفقان على كون الكمال المسيحي هو النموذج الكتابي للحياة المسيحية، وأن جوهر حياة الكمال المسيحي هو الاتحاد بالمسيح، وأن هذه الحياة مُقدمَة ومُتاحَة لكل مسيحي حقيقي من دون تمييز. والقاريء لوسلي ومقاريوس يستنتج ببساطة أن كل منهما يُعبِر عن طبيعة هذه الحياة بالمفردات اللاهوتية المناسبة للسياق التاريخي الذي عاش فيه. فمقاريوس المصري في القرن الرابع لا يجد غضاضة في وصف حياة الاتحاد مع المسيح في سياق عقيدة “التأله”، أو “الشركة في الطبيعة الإلهية”، التي كانت معروفة جيدًا في عصره من خلال كتابات “إيريناوس”، و”أكليمندس السكندري”، و”أثناسيوس الرسولي”، والآباء الكبادوك، وغيرهم. وتعبير “التأله” عند الآباء لا يعني بالتأكيد أن الإنسان يصير مساويًا لله، لكن يُقصَد به تَحقُق اختبار اشتراك الانسان في طبيعة الله – أي في محبته وقداسته – واستئصال جذر الطبيعة الفاسدة من كيان الإنسان، وذلك من خلال عمل الروح القدس الذي يُقدس الإنسان ويتمم اتحاده بالمسيح اتحادًا كاملاً. بهذا المعنى يتأله الإنسان – أي يصبح إلهيًا – من دون أن يفقد محدوديته كإنسان، بالضبط كما تجسد ابن الله وأخلى نفسه لأجلنا، من دون أن يفقد ألوهيته كابن الله. هكذا يُعبر مقاريوس عن حياة الكمال المسيحي والاتحاد بالمسيح. بينما يُعبر وسلي عن نفس سمات الحياة المسيحية مُفضِلاً التنبير على تعبيرات “التقديس التام” و”القداسة الكاملة” في كتاباته عوضًا عن تعبيرات “التأله” و”الشركة في الطبيعة الإلهية”، إذ بدت هذه التعبيرات لوسلي أنسب لعصره، مع أن وصفه لتفاصيل هذه الحياة يكشف عن تطابق سماتها مع الفهم المقاري، بل أنّ ترانيم تشارلز وسلي – والتي راجعها ووافق عليها جون وسلي – تظهر فيها تعبيرات التأله من دون مواربة!

ويُعَد التقليد الوسلي في مصر حالة دراسية فريدة يتجلى فيها تطابق الفهم الوسلي مع المقاري أو الآبائي الشرقي بشكلٍ عام. إذ يظهر التساوي بين “التقديس الكامل” و”الشركة في الطبيعة الإلهية” في نصوص أحد أقدم إقرارات الإيمان الصادر عن أحد المذاهب الوسلية في مصر. يقول هذا الإقرار في وصف التقديس الكامل: “هو الاشتراك في الطبيعة الإلهية التي تطرد الفساد الأصلي أو الخطية الأصلية من القلب، وتملأه بالمحبة الكاملة لله والناس، وهو عمل الروح القدس الذي به تموت الخطية بالتمام ويتطهر القلب تمامًا… وعندما تموت الخطية يتكمل القلب في المحبة، وبدون هذا الإختبار لا يقدر أحد أن يعاين الله”. كما يقول في وصف حياة القداسة الكاملة: ” هي حالة القلب بعد تمام التقديس الكامل، وهى حالة النفس التى تضمن استمرار التطهير من كل خطية، فتمنح النفس كل الفضائل التى فى المسيح يسوع فنصير كاملين كما أن أبانا الذى فى السموات هو كامل”. والكلمات المُقتبَسة هنا غنية عن الشرح، إذ تتجلى فيها المفردات الآبائية الشرقية – كمفردات “الاشتراك في الطبيعة الإلهية” و”المعاينة” – كتعبير شرقي أصيل عن العقيدة الوسلية الكلاسيكية في “التقديس التام” و”حياة القداسة”! جدير بالذكر، أن هذه المقاربات والتباينات التي ميزت التقليدين الوسلي والمقاري لم تقتصر فقط على التعريفات الرئيسة لطبيعة الحياة المسيحية الحقيقية وجوهرها، لكن امتدت لتصف تفاصيل هذه الحياة، والتي سألقي الضوء الآن على بعضٍ من جوانبها الأساسية، كالحرب الروحية، والمحبة الكاملة، والصلاة النقية.

الاتحاد بالمسيح والحرب الروحية

يرى كثير من دارسي التقاليد الآبائية الشرقية أن التعليم عن “الحرب الروحية” المتأصل في تلك التقاليد، لا يمكن أن تُفهَم أبعاده بشكلٍ صحيح ومتكامل خارج سياق حياة التلمذة الحقيقية، والنمو الروحي، والاتحاد بالمسيح. إذ أن النفس الساعية والنامية في طريق الاتحاد بالمسيح هي التي تواجه حروب مملكة الظلمة بمفهومها العميق، وذلك لإعاقتها عن التقدُم في حياة الاتحاد بالمسيح، لأن تقدمها يُشكل خطر حقيقي على إبليس، ويُمثِل إمكانية خسائر فادحة في مملكة الظلمة. القراءة المتأنية لوسلي ومقار تُظهِر فهمًا أصيلاً لهذا المبدأ. يفهم كلٌ من وسلي ومقار الحرب الروحية بأبعادها الثلاثة: ضد إبليس، والعالم، والإنسان العتيق.

بالنسبة لوسلي، يظهر اختبار التقديس التام اللحظي بمثابة انتصارًا رئيسًا في حياة المؤمن، إذ يُنتَزع فيه جذر الفساد، وينتهي تأثير الإنسان العتيق على حياة المؤمن. وبالتالي يصير الانتصار يسيرًا على إبليس والعالم. فالمؤمن صار قلبه مُقدسًا بالتمام من أي شيء يجذبه للشر، وبالتالي فالانتصار على الهجوم الخارجي للشر المُتمثِل في إبليس والعالم يصير سهلاً، ويحيا المؤمن في موكب نصرة المسيح في كل حين. بالنسبة لمقاريوس، بالرغم من أن الانتصار على العتيق يشغل مساحة كبيرة من التعليم عن الحرب الروحية، لكن الانتصار على العالم والتخلي عن مباهجه هو الذي يظهر كالبوابة المركزية لاختبار النصرة في الحرب الروحية بحسب التعليم المقاري. إذ يرى مقاريوس أنه فقط بالتخلي عن مباهج العالم أولاً، يتمكن الإنسان من تمييز نشاط العتيق والانتصار في حرب تقديس النفس تقديسًا تامًا. ويصف مقاريوس ترقي النفس في هذه الرحلة في إثنتي عشرة درجة من الكمال المسيحي، وهو منظور لم يتبناه وسلي، ويتضح فيه تأثير السياق الرهباني على صياغات مقاريوس المصري.

الاتحاد بالمسيح والمحبة الكاملة والصلاة النقية/المستمرة

يُعرِف كلٌ من وسلي ومقاريوس “المحبة الكاملة” و”الصلاة النقية/المستمرة” على أنهما الصفتان المحوريتان اللتان يميزا حياة الكمال المسيحي والاتحاد مع المسيح. بالنسبة للمحبة الكاملة، يتفق الاثنان على أنها المؤشر الحقيقي لبلوغ حياة الكمال المسيحي والاتحاد مع الله والاستمرار فيها. المحبة الكاملة تتلخص في وصية الرب يسوع: ” تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك” (لو١٠: ٢٧)، والقريب هنا يشمل الأعداء والمسيئين، الذين تتجلى محبتهم في الغفران لهم والصلاة لأجلهم.

أما عن الصلاة؛ فيرى كلٌ من وسلي ومقاريوس أنها القناة الرئيسة لانسكاب النعمة في حياة الإنسان، والواسطة الأساسية للنمو الروحي في حياة التلمذة. بالنسبة للتقليدين، هناك نوعان من الصلاة. النوع الأول: الصلاة البسيطة وهي التي يسأل الإنسان فيها الله لأجل احتياجاته، ويضع مشاعره وهمومه وأفكاره أمام الله، ويختبر من خلالها أبوة الله واهتمامه. النوع الثاني: الصلاة النقية/المستمرة وهي تلك الصلاة التي تختبر فيها النفس الاتحاد مع الله في المسيح وتتذوقه، وهي نوع من الصلاة لا تحده الطلبات، لكنه ينطلق في سماء الإلهيات، ليستقبل إعلانات الله عن نفسه بالروح القدس. هذه الصلاة تملأ النفس بالنور الإلهي في المسيح يسوع، ولا يمكن أن تختبر – بحسب التقليدين – إلا في سياق المحبة الكاملة الذي سبقت الإشارة له. حول هذا النوع من الصلاة، نجد الحديث عن خبرات الدهش والغيبة وانجذاب النفس السرائري للحضور الإلهي في المسيح والاختبارات العربونية لقوات الدهر الآتي، كما نجد أيضًا التأكيد على استمرارية حالة الصلاة هذه في قلب الإنسان حتى بعد انتهاء وقت الصلاة الفعلي، وبالتالي تجلي تغير كيان الإنسان بصيرورته حامل للحضور الإلهي ومُستَعلَن فيه الروح القدس بثبات، وهذا هو سبب تسمية مقاريوس بلقب “حامل الروح/ (The Spirit-Bearer)” في كثير من الكتابات. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، سبتمبر ٢٠٢٢

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.