التقليد الوسلي (١٣) – الخلاص كشفاء: المنظور العلاجي للخلاص في لاهوت وسلي وآباء الشرق

John Wesley

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا في مقالات سابقة تأثير لاهوت الشرق على التقليد الوسلي، وأشرنا إلى كثير من الدراسات الأكاديمية التي أصلت للإطار الفكري الذي يتبنى رؤية لاهوت آباء الشرق كأحد المصادر الرئيسة للاهوت الوسلي. كما عرضنا بعضًا من نقاط التلاقي والتباين بين التقليدين الآبائي والوسلي بشكلٍ عام، وملامح تآزر الفكر اللاهوتي مع الروحانية في كليهما، وأعطينا تركيزًا خاصًا لتلاقي التقليدين المقاري (المصري) مع الوسلي. وقد أشرت – إشارات متعددة – خلال عرض نقاط التلاقي بين التقاليد الشرقية والتقليد الوسلي إلى اتفاق التيارين اللاهوتين على فهم الخلاص كشفاء أو ما يُطلق عليه في الدراسات المدخل “العلاجي/ الدوائي” لفهم الخلاص (Therapeutic Understanding of Salvation)، وهو ما أود أن أستفيض في شرحه في هذا المقال.

وسلي والشرق حول الخطية والخلاص

يُسلط كثير من الدارسين الوسليين – مثل البروفيسور “ألبرت أوتلر” عالِم الدراسات الوسلية المعروف، و”راندي مادوكس” أستاذ اللاهوت الوسلي بجامعة ديوك بشمال كارولينا، و”هوارد سنايدر” أستاذ الدراسات الوسلية الشهير بكلية لاهوت تاندل بأونتاريو، وغيرهم – الضوء على المنظور العلاجي المُتغلغل في فهم وسلي وآباء الشرق للخلاص. وعادة ما يُشار إلى فهم وسلي والآباء للخطية الأصلية بكونه المدخل المبدئي لفهم المنظور العلاجي للخلاص. فوسلي يرى الخطية الأصلية ليست فقط بكونها ذنب عقابه الموت ويحتاج إلى براءة، لكن أيضًا بكونها مرض وفساد يلازم الموت ويحتاج إلى شفاء (علاج) واسترداد. فالخطية لم تترك الإنسان فقط مدانًا أمام الله ويحتاج لمصالحة، لكنها تركته بطبيعةٍ فاسدةٍ محتاجًا لدواء. الكمال الأصلي (الديناميكي) لآدم أُزيح بفسادٍ كلي. وفي تناغم مُدهش مع تعبيرات “أثناسيوس الرسولي”، يؤكد وسلي أن نسل آدم صار كثمار فاسدة تنمو من جذر فاسد. وهكذا، بالنسبة لوسلي، فإن تأثير الخطية الأصلية على الإنسان يأخذ منظورًا كيانيًا – بجانب المنظور القانوني. لذا، فإن استرداد الصورة الأصلية يحتاج ليس فقط للغفران (البراءة)، لكنه يحتاج لدواء يعالج الفساد المغروس في الطبيعة الإنسانية، ويداوي المرض الموروث من آدم الأول.

أثر هذا الفهم الثنائي الأبعاد للخطية على فهم وسلي لخريطة رحلة الخلاص، فجعله يرى التبرير بالإيمان كبداية لرحلة الخلاص، لابد أن يتبعها عمل ثانٍ محدد لنعمة الله، فيما يُعرَف باختبار التقديس التام، والذي يتعامل مع جذر الفساد في حد ذاته. فبالرغم من رؤية وسلي الواضحة لعمل النعمة في التقديس التدريجي الذي يبدأ لحظة التبرير ويستمر طول رحلة الحياة، إلا أنه شدّد على عمل النعمة الثاني “اللحظي” (Instantaneous Second Work of Grace) الذي يقود إلى حياة الكمال المسيحي أو الراحة الكاملة. وقد تخطى وسلي – بهذا الفهم الخلاصي – المنظور القانوني (Forensic Perspective) للخلاص الذي ميز التيارات المُصلحة، ليعبر إلى منظور علاجي (Therapeutic Perspective) – جذوره آبائية شرقية – مُتوقَع تحقيقه في هذه الحياة. ويرى الكثير من الدراسين الوسليين أن وسلي بهذا الفهم العلاجي للخلاص قد دخل إلى منطقة لاهوتية تصف “اسخاتولوجي مُعاش/مُختبر الآن” ولو بشكلٍ عربوني! فما يُحسَب في تقاليد لاهوتية أخرى أنه مستقبل أُخروي، يصير في التقليد الوسلي/الآبائي واقع مُتحقق (ولو عربونيًا) في حياة الكمال المسيحي.

تأثير المنظور العلاجي لفهم الخلاص على صياغة لاهوت الشفاء عند جون وسلي

يرى كثير من الدراسين الوسليين أن المنظور العلاجي للخلاص – الذي نتحدث عنه في هذا المقال – يخترق تقريبًا كل مناحي فكر وسلي اللاهوتي، بدايةً من عقيدته في الخلق ووصولاً للعقائد الإسخاتولوجية، ليقود الاتجاه العام للتقليد الوسلي في اتجاه شفاء واسترداد الإنسان بالكامل في كل دوائر حياته. فمثلاً، حينما يتحدث وسلي عن الخليقة، يبدأ دائمًا من التناغم الكامل الذي ميز الحالة الابتدائية للخليقة قبل السقوط. وفي اتفاق مع تعبيرات “إغناطيوس الأنطاكي” من الآباء الرسوليين، فإن وسلي يرى الخليقة بأكملها ما قبل السقوط في حالة إنسجام كوني بلا أي فجوات أو انقسامات. وكما يشير البروفيسور “بروكس هوليفيلد” أستاذ تاريخ الكنيسة بجامعة إيموري، فإن وسلي يرى كل عناصر الخليقة قبل السقوط متماسكة – من الأدنى للأعلى – في ترابط كامل واتساق فريد، يعكس رغبة الخالق في حفظ خليقته في حالة من الترتيب والسلام والفرح والابتهاج، والإنسان – بالتأكيد – على رأسها كملك. لذا، فإن استعادة هذا الاتساق والانسجام الأصلي يُرَى كأحد الأهداف الجوهرية للفداء في اللاهوت الوسلي، وأحد عناصر هذا الانسجام والترتيب هو الوجود الإنساني نفسه، مُتضمِنًا الحالة الصحيحة للإنسان روحيًا وجسديًا. أفعال الله كفادي (Redeemer) تتناغم مع أفعاله كخالق (Creator). لذا، فاستعادة طبيعة الإنسان وصحته للكمال الأصلي تُرى كنموذج قياسي لما ينبغي أن تؤول إليه الإنسانية المُفتداة. وكما يرى العديد من الدارسين الوسليين، فإن استرداد ترتيب الخليقة الأصلي من خلال عمل المسيح الفدائي، بالنسبة لوسلي، يشمل استعادة ترتيب جسد الإنسان وصحته إلى حالتها الأصلية. خلق الله الخليقة صالحة، متضمنة في صلاحها صحة الإنسان وترتيب جسده الصحيح، لذا فالصحة الجسدية تُرَى كأحد مساعي الاسترداد الذي يصنعه الفداء. وكما أن اختبار الكمال المسيحي مُتاح للمؤمن في هذه الحياة، ويُختبر كيانيًا اختبارًا تحققيًا، ويمكن السقوط منه، وتتميمه الغائي في مجيء الرب الثاني، هكذا فإن التمتع بالصحة والشفاء الجسدي مُتاح للإنسان– بسبب عمل المسيح الفدائي – في هذه الحياة، ويُختبر كيانيًا اختبارًا تحققيًا، ويمكن السقوط منه (إمكانية المرض)، وتتميمه الغائي في تمجيد الأجساد.

هذا المنظور العلاجي لفهم الخلاص عند وسلي – والذي يشمل صحة جسد الإنسان – لا يُعبر عنه فقط في فكره عن الخلاص والخليقة، إنما نجده أيضًا متغلغلاً في فكره عن الإنسان (Anthropology). إذ يؤكد وسلي مبدئيًا على وحدة نفس الإنسان مع جسده. فجسد الإنسان يسهم في تشكيل ماهيته. والنفس والجسد يوجدان معًا في وحدةٍ طبيعية، إذ تعتمد النفس على أعضاء الجسد – من خلال المخ – في التعبير عن مكنوناتها. الخطية لم تؤثر فقط على النفس، لكنها أفسدت الجسد أيضًا، ولم يفصل السقوط بين النفس والجسد، لذا، فمن البديهي – بالنسبة لوسلي – أن الفداء والخلاص لابد أن يشمل – بكيفيةٍ ما – استرداد الصحة النفسية والجسدية للإنسان. فعلى الرغم من أن البُعد العلاجي للخلاص يتعامل – في المقام الأول – مع النفس الإنسانية، من أجل شفاء الأمراض الروحية، واسترداد النفس لحالة القداسة الكاملة، غير أن غايته لابد أن تشمل استرداد الجسد أيضًا إلى حالته الصحيحة، والتي وإن كان اكتمالها النهائي سيُختبر في تمجيد الأجساد، ولكن عربونها متاح في هذه الحياة، ومُثبت في المشيئة الإلهية.

هذا الفهم للشفاء – مثله مثل باقي مناحي اللاهوت الوسلي – نجد التعبير عنه يتخطى السجالات والنقاشات اللاهوتية، إذ يمكن للباحث أن يلحظه – ببساطةٍ – في مراسلات وسلي مع أصدقاءه، كدليل واضح على عدم انفصال التعاليم اللاهوتية عن حياة المؤمن العملية. فمثلاً، يكتب وسلي إلى صديقه المُفكر الأيرلندي “ألكسندر نوكس” في أكتوبر ١٧٧٨: “ستكون بركة مُضاعفة إذا أعطيت نفسك للطبيب الأعظم، ليشفي نفسك وجسدك معًا. ومن دون شك أو تساؤل، هذا هو تصميمه الأصلي… وهو يود أن يعطيك كلاً من الصحة الروحية والجسدية (both inward and outward health)”. عند هذه النقطة، يرى بعض الدارسين – مثل هوليفيلد – أن وسلي يسلك مسلكًا خطرًا في صياغاته اللاهوتية، من خلال تنبيره على رؤية الشفاء والصحة الجسدية كأحد مواريث الخلاص، والتي قد تشير بشكلٍ ما إلى حتمية سيادة نغمة الغلبة على المرض – شأنها شأن الغلبة على الفساد – في حياة الكاملين! والحقيقة، فإن الباحث في مصادر وسلي الشرقية قد يصل لنفس التخمين الذي وصل إليه هوليفيلد وهؤلاء الدارسون، خاصةً إذا رجع الباحث – على سبيل المثال لا الحصر – إلى عظات مقاريوس المصري، والتي يوبخ فيها الأب الروحي أبناءه الرهبان على احتمالية افتقارهم للإيمان من أجل الشفاء الجسدي في حالة المرض، وجنوحهم إلى الأطباء مثلهم مثل باقي الناس (العظة الثامنة والأربعون من العظات الخمسين)!

ولكن، قد يزول تحفُظ هوليفيلد، وأولئك الباحثين، عند التركيز على فهم منظور التدرج التقدمي الذي يميز رحلة الحياة المسيحية عند وسلي. فعلى الرغم من تركيز وسلي على الأبعاد اللحظية (التي تُختبر لحظيًا) في الاختبار المسيحي، والتي يتجلى فيها الجانب المعجزي، غير أن وسلي يركز أيضًا على البُعد التقدمي المتدرج في طريق الخلاص، والذي فيه تُختَبَر نعمة الله المُحولة للإنسان في مجال الشركة العميقة مع الله، والتي تشكل عامل حرج (crucial factor) في تسامي الاختبار الروحي المُتدرج (Progressive Transcendence) في كافة جوانب حياة الإنسان. هذا المنظور – التدرج التقدمي للحياة الروحية – يمكننا من استيعاب اتساع التقليد الوسلي لفهم إمكانية المرض، ورحلة الصراع ضده، جنبًا إلى جنب مع تدرج واختلاف مستويات اختبار الشفاء وأنماطه، والتعامل مع المرض، والغلبة عليه. أيضًا تشجيع وسلي للطب، وانحيازه للأطباء، قد يصنع تمييزًا جوهريًا بين قناعاته حول الشفاء، وتلك التي لمقاريوس. رأى وسلي أن الصلاة لأجل الشفاء هي الفعل الأول الحتمي في حالة المرض، والتي قد يستجيبها الله بشفاء فوري معجزي، وقد يستجيبها تدريجيًا من خلال الطب، واستخدام الأدوية، والعمليات الجراحية. وأكد وسلي على استمرارية مواهب الشفاء المعجزية وأكدت مذكراته فاعلية هذه المواهب. كما أعطى وسلي اهتمامًا خاصًا للطب واستخدام الأدوية، ضمن المهام المطلوبة بشكل تقليدي آنذاك من القساوسة، لكن وسلي زاد على الدور التقليدي بقيامه بتأليف كتاب “Primitive Physick” الشهير، في أعراض الأمراض، وعلاجاتها، والتداوي منها. ويُعد هذا الكتاب من أكثر ما كتب وسلي انتشارًا على الاطلاق، وقد أصدر منه ثلاث وعشرين إصدار أثناء حياته، معظمهم يشمل تعديلات وإضافات! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، أكتوبر ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.