المقدمة
القاريء العزيز، أشرت في المقال السابق – إشارة سريعة – إلى مداخل التأريخ التي يستخدمها دارسو الحركات الروحية في دراسة تاريخ ولاهوت هذه الحركات، كما أشرت إلى ارتباط هذه المداخل بما يُعرف بنظرية “الموجات”. أود أن أسلط الضوء في هذا المقال على هذه المفردات المهمة، من خلال عرض مختصر لمداخل التأريخ المتنوعة ولنظرية الموجات. يسهم هذا العرض في تعريف القاريء بفرع من العلوم التجديدية؛ وهو التأريخ اللاهوتي التجديدي، الذي يُنظَر إليه كأحد الأدوات الرئيسة في دفع عجلة المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية. إذ يُمكِن لدارس التاريخ اللاهوتي التجديدي أن يرى بكل وضوح مركزية الأفكار اللاهوتية في تطور روحانية التقاليد والحركات الروحية المختلفة وتاريخها، ويتتبعها، ومن ثم يلمع تيار المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية، ويتأكد ببراهين من تاريخ الحركات النهضوية في الكنيسة شرقًا وغربًا.
المداخل التأريخية وعلاقتها بنظرية موجات النهضة
من المعروف في الدراسات التاريخية، أن للتأريخ بشكل عام مداخل متنوعة. فالتاريخ الذي نقرأه ليس مجرد سرد روائي مطلق، لكنه بالأحرى رؤية المؤرخ للأحداث من خلال عدسات تحليلية، يتم من خلالها تطيبق نظريات التأريخ المتنوعة على الأحداث المؤرخة. فمثلاً، البُعدان الفوقي والتحتي للتأريخ يعتبرا من أوضح الأمثلة على تعدُد عدسات التأريخ لرؤية نفس الأحداث من زوايا مختلفة. ففي التأريخ الفوقي (History from Above) – وهو الشائع – يركز المؤرخ على إبراز الشخصيات العامة المفتاحية، والمؤسسات المؤثرة والمشارِكة في الأحداث، ثم النتائج الجوهرية العامة التي تبلورت بفعل الأحداث. بينما في التأريخ التحتي (History from Below)، يميل المؤرخون إلى التركيز على التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالوعي الشعبي للأحداث، وتسجيلها بعدسة ضيقة، مثل: التغيرات الاجتماعية التي تصاحب الحدث، وتأثيرها في البيوت والعائلات، وما يصاحبها من تعبيرات ثقافية وفنية في المجتمع. وعادةً، تُستخدم السجلات والتقارير الرسمية كوثائق أولية (Primary Sources) للتأريخ الفوقي، بينما يُستخدم النتاج الثقافي والفني المجتمعي، مثل: اللوحات، والأغاني، والألحان، والتسجيلات، بجانب المقابلات الشخصية، كوثائق أولية للتأريخ التحتي.
أُسوةً بهذا النسق العام لعلم التأريخ، اعتاد دارسو الحركات الروحية النهضوية/التجديدية (Renewal Movements)، خلال العقود الأخيرة، استخدام مداخل تأريخية متنوعة لدراسة هذه الحركات دراسة تحليلية لاهوتية وتاريخية. وبشكل عام، يوجد أربعة مداخل تأريخية أساسية يستخدمها هؤلاء الدارسون: مدخل العناية الإلهية، المدخل الجيني، المدخل الوظيفي (اجتماعي/سيكلوجي)، ومدخل تعدد الثقافات. يركز المدخل الأول – مدخل العناية الإلهية – على رصد التدخلات الإلهية المعجزية في التقليد الروحي أو الحركة النهضوية، خاصةً في مراحل النشأة والتكوين، والمراحل الانتقالية. بينما يركز المدخل الثاني – والمعروف بالمدخل الجيني – على تحليل الجذور اللاهوتية للتقليد الروحي – الخريطة الجينية – من خلال تتبع أصل نشأة الأفكار اللاهوتية المركزية في التقليد وتطورها، والأحداث التاريخية التي صاحبت النشأة والتطور. أما المدخل الوظيفي ومدخل تعدد الثقافات – الثالث والرابع – فيركزا على الدراسة التحليلية للسياقات الثقافية والاجتماعية التي صاحبت نشأة التقليد الروحي أو قيام الحركة النهضوية، وتأثيراتها السيكولوجية على رواد ومعاصري الحركة.
يرتبط، ارتباطًا منهجيًا، بالمدخل الثاني – الجيني – ما يعرف بنظرية الموجات، وفيها يُنظر للتقاليد الروحية النهضوية كموجات متلاحقة، يستمر فيها القديم مع الأحدث في تزامن وتلاحم، وبعضها يستمد جيناته – أفكاره اللاهوتية وبعضًا من رواده – من الحركات التي سبقته (وهنا التلاحم مع المدخل الجيني). وعلى الرغم من أن فرانك بارتيلمان (١٨٧١ – ١٩٣٦) – المؤلف المعروف وأحد أبرز معاصري وراصدي نهضة شارع أزوسا في لوس أنجلوس بكاليفورنيا– هو أول من استخدم تعبير “الموجات” في وصف تتابع حركات التجديد النهضوي، غير أن بيتر واجنر (١٩٣٠ – ٢٠١٦) – أستاذ الإرساليات ونمو الكنيسة بكلية لاهوت “فُولر” بباسادينا كاليفورنيا – وديفيد باريت (١٩٢٧ – ٢٠١١) – بروفيسور الإحصائيات المرسلية المسيحية الشهير – يعتبرا أول من صاغا نظرية ترتكز فكرتها الأساسية حول تتابع موجات النهضة. ففي بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ واجنر يستخدم فكرة الموجات لوصف الحركات النهضوية، وأضاف باريت إلى واجنر، وأنضج نظريته، عندما قام بنشر مقال – في أواخر الثمانينيات – حول الحركات التجديدية في القرن العشرين، مرتبًا إياها في موجات متلاحقة. ويمكن الدمج بين نظرية الموجات والمدخل الجيني للتأريخ، من خلال تصنيف حركات التجديد النهضوي تبعًا لنشأتها التاريخية إلى ثلاث موجات، بحسب واجنر وباريت، مع الوضع في الاعتبار مركزية تطور الأفكار اللاهوتية في الانتقال من موجة إلى أخرى. ويرافق دائمًا دراسة نظرية الموجات – عند دمجها بالمدخل الجيني – الحديث عن التقاليد الوسلية/تقاليد القداسة الكلاسيكية والراديكالية كسابق للموجات الثلاثة، كما سأشرح فيما يلي.
موجات النهضة: مرآة لتلاحم الفكر اللاهوتي مع الروحانية
بالطبع، يبدأ دائمًا التأريخ لموجات الحركات النهضوية بالإشارة للموجة الأولى، والتي تعرف بالموجة الخمسينية الكلاسيكية، ويؤرخ لبدايتها بنهضة شارع إزوسا والتي بدأت في عام ١٩٠٦. لكن كثيرًا ما يعود الدارسون للحركة الوسلية في القرن الثامن عشر، وحركات القداسة الراديكالية في القرن التاسع عشر، كمصدر لمعظم الأفكار اللاهوتية (الجينات) التي قامت عليها الموجة الأولى للتجديد في القرن العشرين. فبشكل مبدئي، يعتبر الدارسون صياغة وسلي اللاهوتية لاختبار الكمال المسيحي كاختبار ثانٍ في الحياة المسيحية بمثابة البوابة المركزية لكل الحركات التجديدية التي لحقته. كما ينظر الكثير من الدارسين لإصرار وسلي عن الدفاع عن استمرارية مواهب الروح، ومركزية الحضور الإلهي المعلن والشفاء الإلهي في كتاباته على أنها دعائم قامت عليها الحركات التجديدية من بعده. والباحث في تطور الأفكار اللاهوتية التجديدية يرى بوضوح لا ريب فيه – كما أشرت تفصيلاً في مقالات سابقة – كيف امتدت أفكار اللاهوت الوسلي الكلاسيكي، لتشكل أفكار لاهوت القداسة الكلاسيكي والراديكالي، وتصيغ ملامح حركاتها النهضوية، في أمثلة حية على تآخي علم اللاهوت بصياغاته التجديدية مع الروحانية التي تُشكل خريطة التقاليد والمذاهب المسيحية حول العالم.
تقف حركة شارع أزوسا بقيادة “وليام سيمور” (١٨٧٠ – ١٩٢٢)، كحجر الزاوية في الموجة الخمسينية الكلاسيكية. وتشير الشهادة التي ميزت اختبارات أزوسا – “أنا خلصت، وتقدست بالتمام، واعتمدت بالروح القدس” – إلى مصدر جينات هذه الموجة الأولى للحركات النهضوية. فالتركيز على “الخلاص بالإيمان” بالنعمة يعود إلى إصلاح مارتن لوثر – بعد التأكيد على جذوره الكتابية بالطبع – وهكذا أيضًا، “التقديس التام” يعود إلى الحركة الوسلية الكلاسيكية، أما “معمودية النار” فتعود إلى تعاليم القداسة الوسلية في طورها الراديكالي. وهكذا، تقف حركة أزوسا، كموجة أولى، بتعاليم لاهوتية مبنية بعضها على بعضٍ بناءً متقنًا، لتمثل روحانية تراكمية جامعة، ترتكز على مفردات لاهوتية نهضوية لخلق تيار تجديدي، ينتج عنه تيارات تجديدية أخرى، كما يتضح في الموجات اللاحقة.
امتدت تعاليم أزوسا – أو الموجة الأولى الكلاسيكية – لتصل لكنائس الخط الرئيسي (كما تُسمى في الدراسات التجديدية)، وهي الكنائس التاريخية شرقًا وغربًا – كالكاثوليكية، والأرثوذكسية، والأسقفية، واللوثرية، والمشيخية، والمعمدانية، إلخ. – فيما يعرف في الدراسات التأريخية بالموجة الثانية من موجات الحركات النهضوية، أو “التجديد الكاريزماتي”. ويمكن تعريف هذه الموجة تاريخيًا على أنها حركات التجديد التي قامت في مختلف كنائس الخط الرئيسي، وتبنت مظاهر العبادة الكاريزماتية، وبعضًا من التعاليم اللاهوتية التي ميزت الموجة الأولى الكلاسيكية، مثل: تعدد الاختبارات الروحية في الحياة المسيحية، واستمرارية مواهب الروح القدس، مع التركيز على بعض المواهب الروحية مثل: التكلم بألسنة والشفاء والنبوة. ويرى بعض الدارسين أن مؤتمرات الشفاء الإلهي، التي انتشرت في الغرب في عقود منتصف القرن العشرين، والتي جمعت أعداد ضخمة من الحاضرين الذين أتوا من جميع المذاهب تقريبًا لنوال الشفاء الجسدي والنفسي، قد لعبت دورًا كبيرًا في تحفيز ونشر الموجة الثانية من الحركات النهضوية في كنائس الخط الرئيسي. لذا، في الغرب، يُنظَر – على سبيل المثال – لأورال روبرتس (١٩١٨ – ٢٠٠٩)، ولكاثرين كولمان (١٩٠٧ – ١٩٧٦)، على أنهما من حلقات الوصل المهمة – أو دعامات الانتقال – بين الموجتين الأولى والثانية، من خلال مؤتمراتهما واجتماعاتهما التي حضرتها حشود كثيرة، عادت إلى كنائسها – كنائس الخط الرئيسي – مُتحَمِسَة للتجديد النهضوي.
بحلول ثمانينيات القرن العشرين، صك بيتر واجنر تعبير “الموجة الثالثة” ليصف موجة نهضوية جديدة، أخذت مكانها على خريطة التقاليد الروحية، وصارت تُعرف في الدراسات بالموجة الكاريزماتية الحديثة (Neo-Charismatic)، والتي يُنظر إلى محاضرات “مادة الإرساليات ونمو الكنيسة” في كلية لاهوت فولر – والتي قادها واجنر، وجون ويمبر (١٩٣٤ – ١٩٩٧)، كدعامة مهمة في انتشارها. وتمتاز هذه الموجة بظهور خدمات أو كنائس “مستقلة”، في الغرب والشرق. بعض مؤسسي هذه الخدمات والكنائس كانوا لوقت جزءًا من الموجة الثانية في كنائس الخط الرئيسي، ثم انفصلوا – لسبب أو لآخر – وشكلوا كيانات مستقلة. تتعدد الاتجاهات اللاهوتية لكنائس الموجة الثالثة وخدماتها، لتشمل مفردات لاهوتية (جينات) كثيرة مما سبقها؛ من تقاليد الوسلية الكلاسيكية بما تضمه من تعاليم آباء الشرق، وحركات القداسة الراديكالية، والخمسينية الكلاسيكية، والتجديد الكاريزماتي. وعلى الرغم من تعدد الاتجاهات اللاهوتية لهذه الكيانات، غير أن ما يميزهم لاهوتيًا هو اشتراكهم فيما يسميه بعض الدراسين “التشابه اللاهوتي العائلي” والذي تتحدد سماته من خلال التنبير المستمر على اختبار الحضور الإلهي المعلن الذي تصاحبه اختبارات التقديس والامتلاء بالروح القدس، واستمرارية ممارسة مواهب الروح القدس الفائقة، وإظهارات الروح في الاجتماعات، والاهتمام بالتعليم عن الحرب الروحية والتمييز وممارسة السلطان الروحي، والتركيز على التلمذة الروحية الجادة المغروسة في روح الشركة العميقة، والاعتماد على المعجزات كأحد طرق استعلان رعاية الرب الحاضرة لشعبه. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، يناير ٢٠٢٣