بعد رحيل أبي، وأثناء العزاء مساء الأحد 8 يناير 2023، كان العزاء في الشارع في سُرادِق عزاء كبير (خيمة)، وكانت هذه الخيمة مُغطاةً كلها من فوق ومن جانبيها، وكان يوجد جزءٌ صغيرٌ في المقدمةِ غيرَ مُغطىً من فوق، وهذا الجزء كان فيه مَن يستقبلون المُعَزّينَ. كانت الساعة حوالي 8:45 م وبدأت السماء تُمطر ببطئٍ، وظلت هكذا حوال 10 دقائق. بعد ذلك، بدأت تزداد هذه الأمطار -لكن لم تكن شديدة- حتى جعلت مَن في مقدمة الخيمة يختبئون في الداخل. أثناء هذا المشهد، تذكرتُ حادثةً حدثت مع أبي.
منذ حوالي عشرين عامٍ، كان لدينا مزرعة في إحدى المناطق الجبلية خارج القاهرة. وفي أحد المرات، كان أبي وأخي إسحاق عائدين من المزرعة بعد أسبوعٍ من العمل الشاق. وبمجرد جلوسهم في السيارة وقبل التحرك مباشرة متجهين للمنزل بالقاهرة، بدأت السماء تُمطر بشدة، وكانت مَسَّاحة زجاج السيارة بها عطل ولا تعمل، ولا بد لهم أن يعودوا إلى القاهرة.. حينها قال إسحاق لأبي: “لن نستطيع العودة في ظل هذه الأمطار”. وبعدما سمع أبي هذه الكلمات من إسحاق نظر إلى السماء مُخاطبًا صديقَهُ بدالة الحب والثقة قائلاً: “يارب أنا تعبان ومانقدرش نروّح في المطر ده، وقّف المطر عشان نروح”. أنهى أبي هذه الكلمات ونظر إلى إسحاق قائلاً له: “يللا يا إسحاق اتحرك.. المطر هيقف”. فنظر إليه متعجبًا غيرَ مصدقٍ ما يقوله، وأحس أن هذا الكلام ساذج. فخاطبه أبي ثانيةً بأن يتحرك بالسيارة. بدأ إسحاق في التحرك للعودة إلى المنزل وبعد التحرك بدقائقٍ قليلةٍ جدًا، توقفت الأمطار. وعند الوصول للمنزل، نظر أبي إلى السماء مرةً أخرى مخاطبًا صديقه: “احنا وصلنا بالسلامة، براحتك بقى.. خليها تمطر زي ما أنت عايز”. وبالفعل بعدما تَحدَّث إلى الرب بهذه الكلمات، بدأت السماء تمطر بغزارة حتى أنهم لم يستطعوا أن يأخذوا أغراضهم من السيارة، فدخلوا البيت وتركوا كل شيء بالسيارة لحين انتهاء الأمطار.
عندما تذكرتُ هذه الحادثة، نظرتُ إلى السماء مُبتسِمًا في بساطة الأطفال، وذكَّرتُ الربَّ بها مرةً أخرى قائلاً له: “أكيد انت هتعمل مع صاحبك اللي عملته من سنين.. صح؟” تحدثتُ للربِّ بهذه الكلمات، ومرَّت دقائق ومِن ثَمَّ توقفت الأمطار، ولكنها ظلت تُمطر بغزارةٍ في مناطقٍ أخرى متفرقةً داخل القاهرة في نفس ذاتِ الوقت، للدرجة التي منعت بعض الأشخاص المُقربين من التحرك من منازلهم لحضور العزاء! أيضا في ثاني يوم من العزاء، ونحن جالسون قال أحد الأقرباء -دون أن يعلم قصة (أبي وصديقه) التي حدثت منذ سنوات- ببساطة مُتحدثًا عن الرب عندما رأى السماء تُمطر: “العزاء ده بتاع صاحبه وأكيد هيوَّقف المطر عشان خاطره”، وأيضا إسحاق تذكر هذه الحادثة التي حدثت معه وأبي وشارَكَنا بها في وجود قريبي ذاك.
لماذا أكتب هذه الأحداث؟ البعض يكتُب كي يُخَّلِد ذكرى شخصٍ يحبه، والبعض الآخر يكتٌب كي يُخرِج ما في قلبهِ من مشاعرٍ عن حبيبٍ رحلَ. أنا لا أعرف لماذا أكتب؟ أو لمَن أكتب؟ أو ماذا أكتب؟ هل أكتب كي أُخلَّد ذكرى أبي؟ فهو لا يحتاج أن تُخَلَّد ذكراهُ في الأرضِ؛ لأن سيرتَهُ هي في السماوات (في20:3). هل أكتب إلى أبي؟ هو لا يحتاج أن أكتب إليه لأنه في مجال روحي أخر، وإن كان هذا المجال يبدو لنا غير مرئيٍ، إلا أنه محيط بنا وقد يرانا (عب1:12). هل أكتب عن أبي؟ لقد وجدتُ أنه من الصعب أن أكتبَ عنه من خلال مواقفٍ شخصيةٍ أو بطولاتٍ إيمانيةٍ؛ فمسيرةُ شخصٍ مع الربِ لمدةِ 50 عامٍ ممتلئةٌ بالكثيرِ من الأمور سواء في حياتهِ الشخصية أو في حياتهِ التي تخص الخدمة وعمل الرب. صمتُّ في حيرتي لأني لا أعرف ماذا أكتب. فرفعتُ قلبي إلى الربِّ قائلاً له: “أنا مش عارف أكتب ايه…”. وإذ به يُذكرني بحادثة المطر التي حدثت منذ عشرين عامٍ، ويهمس في قلبي: “اُكتب عن صاحبي”.
صاحبك؟! وما هي بطولةُ الإيمانِ في هذا الأمر؟! كنتُ متوقعًا أن أكتب عن بطولةٍ إيمانيةٍ من نوعيةِ “قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرًّا، نَالُوا مَوَاعِيدَ، سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ، أَطْفَأُوا قُوَّةَ النَّارِ، نَجَوْا مِنْ حَدِّ السَّيْفِ، تَقَوَّوْا مِنْ ضُعَفٍ، صَارُوا أَشِدَّاءَ فِي الْحَرْبِ، هَزَمُوا جُيُوشَ غُرَبَاءَ،…” (عب33:11-34)، ولكنني تذكرتُ أن أبطال الإيمان في رسالة العبرانين، رغم المواقف الكثيرة التي عاشوها مع الرب، غير أن الروح القدس في بعض الشخصيات اختار أن يُسلِّط الضوء على مشهدٍ معينٍ في مسيرة هؤلاء الأبطال. قد يكون هذا المشهد الذي اختاره الرب ليس هو المحور الأساسي في مسيرة الشخص مع الرب من وجهةِ نظرِنا، إلا أن الرب عندما يُسلِّط الضوءَ عليهِ، فهو يريد أن يتحدث عن شيءٍ مختلفٍ؛ فمسيرةُ أبطال الإيمان بدأت من ألاف السنين ولم تنتهِ، وها نحن اليوم أمام أحد هؤلاء الأبطال. فعندما أراد الرب أن يُسلِّط الضوءَ على هذه المسيرة، اختار أن يقول عن هذه البطولة كلمتين اثنتين: “إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي” (إش8:41). ويبدو هنا كأنني أسأل الربَّ: ما هي البطولة في أن “إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ – خليلك في العبرية جاءت بمعنى حبيبك”؟ (2 أخ 7:20)، وإذ بالربِ يسترسل في الحديثِ عن إبراهيم وعن تعريف بطولتهِ. فالبطولة هي أن إبراهيم سار معي “بِالإِيمَانِ” (عب8:11) وصَدَّق فيَّ وفي كل ما قُلته إليه.. صَدَّق أني “مُحِبٌّ أَلْزَقُ مِنَ الأَخِ” (أم 24:18).. صَدَّق أني “حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ للسائرين أمامي بكلِّ قلوبِهِم” (2 أخ 14:6).. إبراهيم الذي أحبني ولم (يُمْسِكِ) أيَّ شيءٍ عني (تك12:22).. إبراهيم الذي أدركَ أن حياتَهُ بكلِّ ما فيها، قد تَشكَّلَت بصديقهِ الذي سار معه في كلِّ دروب الحياة.. أدرك إبراهيم أن “الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ”. (أم 17:27).. أدرك أن صداقةَ الربِّ ليست كلمةً خفيفةً على اللسان من كثرة تكرارها، ولكنها كلمةٌ عميقةٌ جدًا ولها وزنها.
دائمًا ما كنتُ أسمع أبي متحدثًا عن الربِّ كالصديق قائلاً: “لمَّا تحب الرب وتُقدّره وتحترمه، يحترمك. لما تعمل له ألف حساب، يعمل لك خاطر”. وهذه حقيقةٌ قالها الرب بنفسهِ عن علاقتهِ بإبراهيم؛ “فَقَالَ الرَّبُّ: هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ؟” (تك 17:18). الرب كان مُقَدِّرًا جدًا علاقتَهُ بإبراهيم في الكتاب المقدس، وأبي كان مُقدِّرًا جدًا هذه العلاقة للدرجةِ التي كانت له رؤيتَهُ الخاصة في موقف إبراهيم مع الرب عندما كان يتشفع من أجل سدوم فكان يقول لي: “الرب وقَّف كلامه في تقليل العدد عن 10 أشخاص لما إبراهيم وقَّف أنه يطلب من الرب تاني أنه يقلل العدد… لو إبراهيم مَلَقاش حد يتفاوض بيه في سدوم، وكان قال للرب عشان خاطري بلاش تحرقها، الرب كان هيسمع ليه ومش هيحرق سدوم”. أبي كان يعرف صديقَهُ جيدًا، وله رصيدٌ كافِ معه في هذا النوع من الصلوات والتشفعات التي كانت فيها الأمور محسومةٌ بشكلٍ واضحٍ، إلا أنه كان ببساطة قلب وبدالة الحب والثقة يتحدث إلى صديقهِ من أجلِ أشخاصٍ آخرين، وصديقه لم يُخزهِ… كان يعرف قلب الرب جيدًا وكان يعرف كيف يطلب وماذا يطلب… لقد كان يطلب مشيئة الرب. ومثلما كانت علاقة الرب بإبراهيم في الكتاب المقدس علاقةً ثمينةً من قِبل الطرفين للدرجة التي لا يخفي الربُّ فيها عن إبراهيم ما هو فاعل، كان الرب يفعل هكذا مع أبي؛ فبعض الأمور تَحدَّث بها الرب لأبي كصديقٍ “سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ” (مز 14:25). هذه الصداقةُ لم يكن لها إطار من الزمان والمكان كي يُحدد أوقات اللقاء وأماكنه، بل تعددت الأماكن والمواقف.. فهذه الصداقةُ مرت بكل المواقف في أماكنٍ ومجالاتٍ مختلفةٍ؛ مرت بمواقف فرحٍ ومواقف حزنٍ… فرحوا معًا “َكَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلهُكِ” (إش 5:62). وفي أوقات الألم، كان الرب يتضايق لأجلهِ “فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ…” (إش 9:63). مرَّت السنوات بأوقاتٍ كانوا يتمشون سويًا ويتحدثون سويًا في أوقات العمل وغيرها.. مرَّت السنوات أيضا بليالِ سهرٍ كثيرةٍ جدًا يتحدثون معًا حتى الفجر.. مرَّت بمواقفٍ كان فيها الرب الصديق الذي يقف كتفًا بكتفٍ جوار صديقهِ في أمورهِ الصعبة وأمورهِ المُفرحة.. ومرَّت بمواقفٍ كان فيها أبي يقف كتفًا بكتفٍ بجوار الرب في أمور الخدمةِ الصعبة قائلاً له: “هأَنَذَا” (تك 1:22).. مرَّت بمواقفٍ كان فيها أبي مُخطئًا في مواقفٍ وقرارتٍ وكان يرجع إلى الرب بكلِّ بساطة قلب قائلاً له: “أنا غلطان. حقك عليَّ”.
حتى في الأوقات التي فيها “انْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ” (تك 10:12)، لم يغير الله علاقتَهُ بهِ، ولم يتخلَ عنه، ولم يقل: هذا ليس صديقي… ظلَّ الرب في الكتاب المقدس متمسكًا بهذا التعريف فيما يخص علاقته بإبراهيم؛ “إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي”، وأيضًا في علاقتهِ بأبي، فرغم المواقف والقرارت التي يَظهر فيها ضعف الخزف، غير أن الربَّ أمينٌ جدًا ولم يتخلَ عنه في أوقات الضعف، وظل مُتمسكًا بهِ “كصاحبٍ”. فالله لم ينخدع فينا؛ فهو جابلُنا ويعلم ضعف الخزف… ولكن، هللويا للرب! ما أعجب عمل النعمة! وما أجمل الرب! فهو “الإِلهُ الأَمِينُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيل” (تث 9:7).
وأنت عزيزي القارىء، هذه الرحلة بكل ما فيها غيرُ مُقتصرةٍ على أشخاصٍ بعينِهِم، ولكنها متاحةٌ لك ولكل مَن يُصدّق ويقبل بإيمانٍ. فالربُّ يدعوك من خلال هذه الكلمات إلى صداقةٍ معه مثلما شهد الرب عن إبراهيم: “إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي = إبراهيم صديقي الودود، المحبوب”. أيًا كانت المنطقة الروحية التي أنت بها الآن، سواء كنتَ بعيدًا عن الربِّ كل البُعد وترى نفسك أَشرَّ خاطئ على وجه الأرض، أو سواء كنتَ مُؤمِنًا تَمُر بوقت ضعف، أو حتى مُؤمِنًا في مستوى جيدٍ من الشركةِ مع الرب… في جميع الحالات، الرب يدعوك إلى هذا المستوى من الشركة والصداقة والحميمية معه، بل وأعظم وأعظم من كل ما قرأته أو سمعته عن أيِّ شخصٍ.أنت قطعةٌ فنيةٌ فريدةٌ، وكلُّ قطعةٍ فريدةٍ هي فريدةٌ بعلاقتِها بالرب جابلها.
فهل تقبل دعوة الرب لك، لكي تكون صديقًا له؟