التقليد الوسلي (١٦) – نهضة أسبوري: فبراير ٢٠٢٣، وفبراير ١٩٧٠

التقليد الوسلي

مشاركة المقال:

المقدمة

يتابع الكثيرون حول العالم بشغف النهضة الروحية التي بدأت في جامعة أسبوري بولاية كنتاكي مع بداية الأسبوع الثاني من فبراير ٢٠٢٣ – منذ حوالي أسبوعين تقريبًا، وقت كتابة هذا المقال – ومازالت مستمرة حتى الآن، وامتدت لجامعات وأماكن أخرى متنوعة في ولايات متعددة بالولايات المتحدة، وتُرى ثمارها المباركة على مستويات مختلفة.

وجامعة أسبوري هي جامعة أمريكية مستقلة تضرب جذورها بعمقٍ في التقليد الوسلي وتقاليد القداسة. وقد سميت عند تأسيسها عام ١٨٩٠ باسم “كلية القداسة بكنتاكي”، ثم تغير اسمها بعد وقت قصير ليصبح كلية “أسبوري” تخليدًا لذكرى “فرانسيس أسبوري” أول من أرسله چون وسلي لتأسيس كنائس ومجتمعات وسلية في أمريكا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ثم تغير لقب “أسبوري” في مارس ٢٠١٠، من “كلية” إلى “جامعة أسبوري”، ليعكس النمو الحادث لهذه المؤسسة العريقة وتأثيرها العالمي. 

وقد ذكرت بالفعل هذه الجامعة في مقالات سابقة من هذه السلسلة كنموذج للجامعات التي اندلعت فيها نهضات روحية سابقة، وكنت أشير وقتها إلى نهضة تاريخية أخذت مكانها في جامعة أسبوري عام ١٩٧٠، وقد بدأت – آنذاك – في الثالث من فبراير باجتماع كان مخططًا له أن يُختَم بعد خمسين دقيقة من بدايته، فاستمر مائة وخمس وثمانين ساعة من بعد بدايته من دون توقف!! كما استعنت أيضًا في مقالات سابقة بآراء أساتذة وعلماء أجلاء من كلية لاهوت أسبوري مثل: البروفيسور روبرت تاتيل، والبروفيسور لورينس وود – أساتذة الدراسات الوسلية بكلية لاهوت أسبوري.

فرانسيس أسبوري
فرانسيس أسبوري

لذا، ليسمح لي القاريء الكريم أن أكرس هذا المقال للحديث عن بعض الملاحظات التي أراها مهمة حول نهضة أسبوري المعاصرة، مقارنةً بنهضة أسبوري عام ١٩٧٠، وهو حديث – بحسب ما أوضحت أعلاه – لا ينبغي أن يُقرأ بمعزل عن سياق هذه السلسلة من المقالات حول التقليد الوسلي كمثالٍ للمصالحة بين علم اللاهوت والروحانية.

"المبادرة الإلهية" في نهضتي أسبوري ١٩٧٠ و٢٠٢٣

على الرغم من الفاصل الذي يُقدر بأكثر من خمسة عقود بين نهضتي أسبوري (١٩٧٠ و٢٠٢٣)، غير أن المُراقِب للنهضتين سيلحظ على الفور مفردات متشابهة بين النهضتين لم تتغير أو تتأثر بمرور السنين عليها! أولى هذه المتشابهات هي “المبادرة الإلهية”! ففي نهضة أسبوري الحالية، بدأت النهضة – المستمرة لأسابيعٍ حتى الآن – في الدقائق الختامية للاجتماع الأسبوعي للجامعة، والذي اعتاد المجتمعون أن يختموه أسبوعيًا، ويعود كلٌ منهم لحياته اليومية الطبيعية. وإذ فجأةً، يجتاح حضور الله المعلن (Manifested Presence of God) المكان، بالطبع من دون إعدادات بشرية مُسبقة، لكن بمبادرة إلهية، بنعمة االله! يختار الله – الإله الذي حضوره كلي (Omnipresence) – الذي يملأ السموات والأرض (إر ٢٣: ٢٤)، والذي “يملأ الكل في الكل” (أف ١: ٢٣) – بنعمته، أن يعلن عن حضوره الكلي – المستتر عادةً – بإظهار واضح في زمان ومكان محددين، فيجعل حضوره معلنًا محسوسًا للإنسان في سياق زمكاني، بما يصاحب هذا الحضور من محبة وسلام وفرح لا ينطق به ومجيد، أو تبكيت عميق، أو إظهارات روحية تتفاوت في مظاهرها وشدتها من نهضة لأخرى، أو هذه المفردات، وغيرها، مجتمعةً معًا في نفس الوقت! هذا هو ما حدث يوم الأربعاء ٨ فبراير ٢٠٢٣، وهو نفسه ما حدث يوم الثلاثاء ٣ فبراير ١٩٧٠!

Asbury Revival – February 2023
Asbury Revival – February 1970

يخبرنا “جيف بلاك” – طالب بكلية أسبوري عام ١٩٧٠ – في مذكراته المُدمجة في كتاب “نهضة أسبوري” بقلم “روبرت كولمان” – والمترجم في اللغة العربية تحت عنوان “افتقاد إلهي: قصة النهضة في كلية أسبوري”، ضمن سلسلة “فتشوا الكتب” – عن المبادرة الإلهية لإشعال النهضة في أسبوري آنذاك، قائلاً: “في ٣ فبراير ١٩٧٠، أجلس كما في يوم خمسين معاصر، فمن لحظات قليلة هبت علينا موجة تلقائية من الروح القدس. ولم أر من قبل مثل هذا الانسكاب العظيم من الله على شعبه، والمنظر يصعب تصديقه… في ٦ فبراير ١٩٧٠، وصلت النهضة إلى ذروتها… لم نكن مستحقين قط لهذا الانسكاب العظيم، وقد تواضع كل  واحد أمام حضور الله الذي اختار هذا الوقت ليعمل بيننا!” (انتهى الاقتباس).

واضح في كلمات بلاك مركزية المبادرة الإلهية في النهضة، وأسبقية نعمة الله المبادِرة في استعلان الحضور الإلهي، الذي باستعلانه تحدث النهضات بشكل جماعي وبشكل فردي! نعم “بشكل فردي” أيضًا! فبما أن النهضة هي حضور الرب المعلن الذي يخترق الواقع اليومي فيغيره، إذًا يمكن اختبار النهضة بشكل فردي من خلال اختبار هذا الحضور المعلن في اختبارات شخصية فردية. إذ يعمل الروح القدس ليزرع عطش وجوع بداخل الإنسان لتذوق حضور الرب المعلن، والمكوث فيه – “عطشت إليك نفسي” (مز ٦٣: ١) – ويتراءى الرب بحضوره المعلن كاستجابة لهذا العطش والجوع الحقيقي له، بحسب كلماته “طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يشبعون” (مت ٥: ٦). بلا شك، يشاء الله فيتحرك بحضوره المعلن ليصنع نهضات “عامة” كنهضة أسبوري، لكن ما هذه النهضات العامة إلا لقطات “بعدسة مكبرة” لما يريد الرب أن يصنعه بشكل يومي في حياة أبنائه وبناته على مستوى خاص! فمشيئة الرب، وشوق قلبه، أن يأتي ويرف بحضوره المعلن على كل ابن وبنت له في كل يوم، في مقابلات إلهية يومية، فتُختبَر النهضة بشكل يومي، ويصير الأبناء مشبعين بالحضور الإلهي المعلن بشكلٍ دائمٍ، حاملي نهضات، فتنفجر نهضات في أماكن كثيرة يزورها الرب في أولاده حاملي جينات النهضة! وتاريخ النهضات يشهد لهذا كما في حياة جون وسلي، وتشارلز فني، وغيرهم!

"التوبة والاسترداد" في نهضتي أسبوري ١٩٧٠ و٢٠٢٣

الأمر الثاني المشترك والرئيس، والذي يمكن ملاحظته في نهضتي أسبوري (١٩٧٠ و٢٠٢٣)، هو مركزية التوبة كاستجابة فورية لاستعلان الحضور الإلهي. فالنهضة التي بدأت منذ أسابيع، تأججت نيرانها باعترافات وتوبة قلبية قُدمت من طلبة وأشخاص كثيرين إذ تلامسوا مع حضور الرب المعلن. وكما صرخ إشعياء تائبًا حينما رأى أذيال الرب تملأ المكان (الحضور المعلن)، صرخ كثيرون في نهضة أسبوري، وأتت الجمرات الإلهية من على المذبح الإلهي، ومست شفاههم وقلوبهم، فتغيرت حياتهم. وهكذا أيضًا منذ عقود، تأججت نهضة ١٩٧٠ بتوبة كثيرين، وأظهرت الشهادات في حينها أصالة هذه التوبة وعمقها. يكتب “آرثر ليندساي” مدير العلاقات العامة بكلية أسبوري آنذاك – ضمن الشهادات المدمجة في كتاب “كولمان” – شهادة أستاذ علم النفس بالجامعة، والذي “اعترف أنه عاش في رياء لمدة ست سنوات، ولم يتمتع بفرح أو سلام في حياته الجافة. ولكن بعد مرور يومين في النهضة، كان هناك فرح وابتهاج عظيم عندما عاد وقال: لقد أعطاني الرب فرحًا جديدًا وهدفًا جديدًا لحياتي.” كما يكتب عن هذا الشيخ الذي وقف أمام الميكروفون – في أحد الدوائر التي تأثرت بالنهضة في أسبوري – معترفًا: “لقد كنت عضوًا نشطًا بالكنيسة لعدة سنوات، وقدت عدة مؤتمرات صيفية للشباب، لكني كنت محتالاً زائفًا، كما كنت عدوانيًا ضد بعض أعضاء مجلس إدارة الكنيسة… ولكن بعدما غيرني الروح القدس، ذهبت إلى كل واحد منهم في بيته واعترفت له!” (انتهى الاقتباس).

وهكذا، تُرى التوبة القلبية الحقيقية مصاحبة دائمًا لعمل نعمة الله في النهضات. ولعل أروع ما يميز بعض هذه الشهادات، هي أنها صادرة عن أشخاص كانوا بالفعل موجودين في مجتمع الخدمة الكنسية، لكن من دون تقوى حقيقية، ولا شركة مع الروح القدس! وإذ به – بالروح القدس العظيم – يأتي بتبكيت عميق ويفضح الرياء والتدين الشكلي، ويقود بنعمته إلى توبة حقيقية! هكذا دائمًا النهضات تمتليء بالتبكيت الإلهي واسترداد الرب لربوبيته على النفوس وعلى كنيسته. تمتليء مذكرات وسلي بوصفه للبكاء الحار والصرخات التي عبر بها التائبون عن توبتهم في اجتماعات النهضات الوسلية. وقد نظر وسلي لتحركات الروح القدس هذه على أنها علامات مميزة لاسترداد الكنيسة في الأزمنة الأخيرة لمسحتها الرسولية التي ميزت الكنيسة الأولى، هذا الاسترداد الذي يميز النهضات الروحية التي تسبق مجيء الرب الثاني، بحسب وسلي!

"العبادة والخروج عن النمط المعتاد" في نهضتي أسبوري ١٩٧٠ و٢٠٢٣

الأمر الثالث المشترك بين نهضتي أسبوري (١٩٧٠ و٢٠٢٣)، ، والذي أود الإشارة إليه في ختام هذا المقال، هو مركزية العبادة في النهضتين. فطوال الأسابيع الماضية، تُرى العبادة كالحدث المستمر لأربعة وعشرين ساعة طوال أيام الأسبوع، والذي يتخلله شهادات عن عمل روح الله في النفوس ومشاركات وعظية قصيرة. وهكذا أيضًا كان الحال في نهضة ١٩٧٠، وكثير من النهضات الأخرى التي صارت علامات فارقة في تاريخ النهضات الحديثة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استمرت العبادة في نهضة حركة “المورافيان” مئة عام متواصلة من ١٧٢٧ إلى ١٨٢٧. ويشهد مايك بيكل – مؤسس بيت الصلاة العالمي في كانساس سيتي – عن تشكيل هذه النهضة لأحد الجينات الروحية الأساسية التي قامت عليها حركات الصلاة والعبادة الدائمة “24/7” حول العالم. وهكذا، شكلت العبادة الوسط الرئيس لامتداد النهضات الروحية عبر التاريخ. والحقيقة، فإن هذا يتماشى مع طبيعة العبادة وطبيعة النهضات. فإن كانت النهضة هي الحضور الإلهي المعلن الممتليء بالمجد الإلهي، فإن العبادة هي الاستجابة الطبيعية لهذا المجد الفائق! ختامًا، يلزم الإشارة إلى مركزية الخروج عن أنماط الاجتماعات الاعتيادية في نهضات أسبوري، وغيرها من النهضات! فها هي الاجتماعات تمتد لأيام وأسابيع من دون ملل أو تضجر من الحاضرين، بل على العكس يطالبون بوداعة وإصرار بعدم توقفها. وعلى الرغم من عدم وجود الإمكانيات المعتادة من أجهزة وآلات موسيقية – في نهضتي ١٩٧٠ و٢٠٢٣ على السواء – غير أن العبادة منطلقة، وحضور الرب واضح، حضور الملك الذي يملك بربوبيته على النفوس، فيحررها من القوالب الطبيعية للعبادة، ومن العبودية لأنماط الحياة العالمية المحيطة، ويقدسها بروحه، فتصير آنية حاملة لنيران النهضة لكثيرين وكثيرين! الحصاد كثير! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
القاهرة، فبراير ٢٠٢٣

*نُشرت أولاً في جريدة الطريق والحق – عدد مارس ٢٠٢٣

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.