Heaven Upon Earth Logo

الروح القدس وصناعة شخصية اللاهوتي (۱)

مشاركة المقال:

المقدمة

أشرت في الجزء الثاني من المقال الأول من هذه السلسلة إشارةً موجزة إلى غريغوريوس النزينزي كنموذج للتآزر بين علم اللاهوت والروحانية. كما ذكرت، في الجزء الثالث من المقال نفسه، شرحًا مختصرًا عن منهجيته لصناعة شخصية اللاهوتي، وذلك في إطار الحديث عن السمات الواجب توافرها في أساتذة علم اللاهوت. في هذا المقال الجديد – الثاني – الذي تتوالى حلقاته بدءًا من هذا العدد، سأستفيض عزيزي القاريء في التعريف بغريغوريوس النزينزي وشرح منهجيته لصناعة شخصية اللاهوتي؛ من أجل تسليط الضوء على مركزية عمل الروح القدس في عملية صياغة وتشكيل اللاهوتي/أستاذ اللاهوت، مما يُبرِز بدورِه الوحدة الجوهرية بين علم اللاهوت والروحانية، ويرسم طريقًا لاستعلان هذه الوحدة.

التعريف بالنزينزي

أشرت في الجزء الثاني من المقال الأول من هذه السلسلة إشارةً موجزة إلى غريغوريوس النزينزي كنموذج للتآزر بين علم اللاهوت والروحانية. كما ذكرت، في الجزء الثالث من المقال نفسه، شرحًا مختصرًا عن منهجيته لصناعة شخصية اللاهوتي، وذلك في إطار الحديث عن السمات الواجب توافرها في أساتذة علم اللاهوت. في هذا المقال الجديد – الثاني – الذي تتوالى حلقاته بدءًا من هذا العدد، سأستفيض عزيزي القاريء في التعريف بغريغوريوس النزينزي وشرح منهجيته لصناعة شخصية اللاهوتي؛ من أجل تسليط الضوء على مركزية عمل الروح القدس في عملية صياغة وتشكيل اللاهوتي/أستاذ اللاهوت، مما يُبرِز بدورِه الوحدة الجوهرية بين علم اللاهوت والروحانية، ويرسم طريقًا لاستعلان هذه الوحدة. 

ولد غريغوريوس حوالي سنة ۳۲۹ م في قرية تُدعى “أريانزوس”، تبعد عشرة أميال من مدينة أكبر تُدعى “نزينزا” في مقاطعة “كبادوكية”. ويعني الاسم اليوناني “غريغوريوس” حرفيًا: يقظ أو متنبه. نحو عام ۳٤۳ م، بدأ غريغوريوس تعليمه الرسمي في بلدته. وحوالي عام ۳٤٥م انتقل لقيصرية في كبادوكية لكي يتعلم فن الخطابة والبلاغة، وهناك أيضًا بدأ غريغوريوس صداقته التي امتدت طوال حياته مع باسيليوس الكبير. انتقل غريغوريوس بعد ذلك لفلسطين، حيث سعى أن يستزيد ويُتقن أكثر فن الخطابة، إذ لم يكن علم الخطابة والبلاغة مجرد علم أكاديمي علماني بالنسبة له، ولكنه كان مهمًا أيضًا لتطوير لغته كلاهوتي. بالنسبة للنزينزي؛ شَكَّلَت الحياة التأملية جوهر الطريق لدراسة اللاهوت، في حين شَكَّلَ البناء الخطابي مع التقديم البلاغي وعاء العرض اللازم لتقديم المحتوى اللاهوتي؛ مما يقدم شهادةً على رُقي هذا المحتوى الذي سعى غريغوريوس لتقديمه.

بدأ غريغوريوس في قيصرية، فلسطين، يتعرف على تعاليم أوريجانوس. ثم انتقل بعدها من فلسطين إلى الأسكندرية في مصر، حيث استفاض في التعلُم عن أوريجانوس، ولربما التقى أثناسيوس الرسولي والقديس أنطونيوس الكبير بالأسكندرية، مما طَعَّمَ رحلته بأصالة روحانية الإيمان السكندري.

نحو عام ۳٥۰ م، سافر غريغوريوس لأثينا سعيًا وراء مستوى أعلى من التعليم الكلاسيكي/التقليدي. وفي أثينا، قضى نحو سبعة أعوام مع صديقه باسيليوس في تعلُّم الفلسفة وإتقان فن الخطابة والبلاغة إتقانًا على مستوى الأستاذية. وبالرغم من حب غريغوريوس للفلسفة، غير أنه كان انتقائيا جدًا في قبوله للآراء الميتافيزيقية والأخلاقية اليونانية. وقد كانت انتقائيته هذه معتمدة تمامًا على مباديء الكتاب المقدس والنصوص الكنسية التقليدية. ويمكننا القول إن غريغوريوس حفر لنفسه طريقًا لاهوتيًا أكاديميًا أصيلاً مُحافظًا يمكن تقديمه للكنيسة باطمئنان.

غريغوريوس النزينزي

في عام ۳٥۷ م، أنضم غريغوريوس إلى صديقه باسيليوس في اعتزاله في بونتوس ليحيا حياة زهد وتقشف ونُسك. عاش غريغوريوس لمدة ثلاث سنوات في حياة تأملية رهبانية حقيقية. وربما خلال هذه الفترة، قام غريغوريوس بتحرير أجزاء من الفيلوكاليا، وهي عبارة عن مجموعة مختارة من مقاطع طويلة من أعمال أوريجانوس، كما أنه ساعد باسيليوس في صياغة قواعده للمجتمعات الرهبانية. خلال هذه السنوات، ازداد حب غريغوريوس للحياة التأملية النسكية، وعلى الجانب الآخر، نجح غريغوريوس في دراسته لدرجة أنه تلقى عرضًا لتعيينه أستاذًا أكاديميًا في إحدى الجامعات الأثينية، مُجسِدًا مثالاً تاريخيًا عظيمًا في التآزر بين الروحانية والإتقان الأكاديمي. وعلى الرغم من رغبته في حياة النسك ونجاحه الباهر في الحياة الأكاديمية، فقد وجد غريغوريوس نفسه مضطرًا للعودة إلى مسقط رأسه لمساعدة والده المسن في الحياة الكنسية، حيث صاغ غريغوريوس – بعد صعوبات مُتعدِدة – وبمعونة الروح القدس منهجًا لحياته يجمع فيه بين مفردات دعوته المُتشعِبَة، ويُوازِن بين “المُشاركة” و”العزلة” من أجل بناء مجتمع أناس الله. بالنسبة لغريغوريوس، كان النجاح في الموازنة بين الحياة ببعديها النسكي والنشِط هو أحد غايات دعوته. وهذا “المسار الأوسط”، كما يسميه كريستوفر بيلي (وهو أحد أهم دارسي فكر غريغوريوس)، يمكن اعتباره واحدًا من أهم المساهمات التي قدمها غريغوريوس للكنيسة طوال حياته.

بعد وفاة والدي غريغوريوس عام ۳۷٤ م، ذهب اللاهوتي إلى دير القديس تكلا في سيلوسيا، حيث قضى نحو خمس سنوات في العزلة. وكان وقتًا للصلاة والدراسة والتأمل. وفي عام ۳۷۹ م، تم استدعاء غريغوريوس للقسطنطينية لدعم معسكر نيقية في المعركة ضد الأريوسيين. وفي القسطنطينية عام ۳۸۰ م، ألقى غريغوريوس اللاهوتي خطبه اللاهوتية الخمسة، والتي منحته لقب “اللاهوتي”.

في عام ۳۸۱ م، قام الإمبراطور الجديد ثيئودوسيوس بتنصيب غريغوريوس كرئيس أساقفة للقسطنطينية. وكان غريغوريوس هو أول رئيس للمجمع المسكوني الثاني – عام ۳۸۱ م – والذي تمت فيه صياغة عقيدة الروح القدس، وقد شكلت خطب اللاهوتي الخمسة أحد المصادر الأساسية لهذه الصياغة التاريخية. وإذ لم يوافق بعض الأساقفة المصريين، بعد وصولهم المتأخر، على رئاسة النزينزي للمجلس؛ استقال في سلام في غضون بضعة أيام وعاد إلى مسقط رأسه ليقضي بقية حياته في عزلة. كرس غريغوريوس سنواته الأخيرة للتأمل والدراسة. وفي العِقد الأخير من عمره، كتب حوالي أربعمائة قصيدة، وأنتج مجموعات كاملة من الخطابات والرسائل اللاهوتية. في عام ۳۹۰ م توفي النزينزي بعد حياة سعي صادقة هدفها معرفة الإله الحي والاشتراك في نوره.

وبوضوح شديد، رسم النزينزي بحياته خريطةً أصيلة ومثالاً يُحتَذَى به في الجمع بين الأكاديمية التي شُهِد لها على مستوى السياق الجامعي في أثينا، والروحانية التي شُهِد لأصالتها وسط مجتمع أُناس الله من خلال رسامته كأسقف ورئيس أساقفة. وقد أنتج منهج النزينزي هذا – الأكاديمي الروحاني النُسكي – أدبيات لاهوتية مضيئة شكلت وعي الكنيسة وروحانياتها عبر تاريخها.

وسط هذه الأدبيات التي بلغ عددها حوالي ثمانمائة مؤلَف ما بين قصائد وخطب ورسائل، تلمعُ الخطب اللاهوتية الخمسة، التي سبقت الإشارة إليها، مثل “تحفة لاهوتية” – كما عبَّر فريدريك نوريس عالم الآبائيات المعروف – إذ تُقدِم هذه الخطب منهج النزينزي في الخضوع للروح القدس لتشكيل سبيكته الجامعة للنُسك والروحانية مع إتقان المحتوى اللاهوتي إتقانًا فريدًا. وهو ما سنتناوله معًا تفصيلاً، عزيزي القاريء، في الأجزاء القادمة من هذا المقال بنعمة الله. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أكتوبر ۲۰۱۹

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.