الرُوحَانية المُستقِيمَة وإعْمَال العَقل (۱)

مشاركة المقال:

المقدمة

القاريء العزيز، تناولنا معًا في المقال الأول من هذه السلسلة (مُصالحة علم اللاهوت والرُوحَانية) – والذي جاء في ثلاثة أجزاء – “طبيعة العلاقة بين علم اللاهوت والروحانية” من حيث تآزرهما كوجهين لعملةٍ واحدةٍ، وعدم إمكانية الفصل بينهما، وقد تتبعنا هذا التآزر أكاديميًا، ومنطقيًا، وتاريخيًا، واختباريًا. كما تعمقَّنا من خلال المقال الثاني، بأجزائه الأربعة، في دراسة “منهجية صناعة اللاهوتي”؛ والتي تجلت فيها مركزية عمل الروح القدس، مما يُبرهِن عمليًا على أصالة التآزر بين علم اللاهوت والروحانية. ثم انتقلنا في المقال الثالث – بأجزائه الثلاثة – إلى الحديث حول العلاقة التبادلية الوطيدة بين “صياغة التراكيب اللاهوتية وأبجدية العبادة في الكنيسة”، وقد استكشفنا أصالة هذه السبيكة الجامِعَة لعلم اللاهوت مع العبادة من خلال دراسة نماذج متنوعة من تاريخ الكنيسة شرقًا وغربًا، مما يؤصل بدورِه أيضًا لمتانةِ العلاقة الجوهرية بين علم اللاهوت والروحانية.

في هذا المقال – وهو الرابع من هذه السلسلة – اتحدث معك، قارئي العزيز، حول “العلاقة بين الروحانية المستقيمة وإعمال العقل!” لنرى معًا كيف أَدرَكْت التقاليد المسيحية المختلفة التَفَكُر، أو إعمالَ العقل، على أنه أحد المفردات الأساسية للروحانية المستقيمة (على عكس المُتعارف عليه)، وكيف أن هذا التناقض المزعوم بين الروحانية وإعمال العقل لم يكن يومًا جزءًا من التقاليد الروحية التي شكَّلت تاريخ الفكر المسيحي. وفي سبيل السعي لإثبات هذا البُعد المهم، سأبدأ بإلقاء الضوء على أحد المفردات المركزية في التقليد الوسلي، وهي “رباعية البناء اللاهوتي الوسلي”؛ حيث نرى تلازم الروحانية وإعمال العقل. وأُذكِّر القاريء العزيز بأني أقصد بالتقليد الوسلي – كما جاء في أجزاء سابقة من هذه المقالات – هذا التقليد اللاهوتي والتاريخي الذي يرجع تأسيسه للقرن الثامن عشر في انجلترا، ويعتمد على كلٍ من جون وسلي (۱۷۰۳ – ۱۷۹۱) وتشارلز وسلي (۱۷۰۷ – ۱۷۸۸) كمرجعية لاهوتية وتعليمية.

رباعية البناء اللاهوتي الوسلي

قبل الحديث عن تآخي إعمال العقل والخبرة الروحية المستقيمة في رباعية البناء اللاهوتي الوسلي، لابد من تعريف القاريء بهذه الرباعية المذكُورة؛ إذ تُعَد رباعية البناء الوسلي بمثابة منهجية تصف كيف تمكَّن مؤسس التقليد الوسلي – جون وسلي (۱۷۰۳ – ۱۷۹۱) – من صياغة أفكاره اللاهوتية التي ميزت تقليده اللاهوتي، وجعلته يُنظَر له بواسطة الكثير من دارسي تاريخ الكنيسة على أنه تقليد إصلاح للإصلاحِ. وتتلخص رباعية البناء اللاهوتي الوسلي في أربعةِ أضلاعٍ: (١) الكتاب المقدس (Scripture)، (٢) التقليد (Tradition)، (٣) الخبرة الروحية (Experience)، (٤) التفكُر/ إعمال العقل (Reasoning).

إذ تصف هذه الأضلاعُ؛ المصادرَ والأدواتَ التي اعتمد عليها وسلي في صياغة أفكارِهِ اللاهوتية أو في تقييم الأفكار اللاهوتية المتنوعة. ومن الجدير بالذكر، أن جون وسلي نفسه لم يضع هذه الرباعية بصياغة منهجية واضحة، لكن القراءة التحليلية لكتابات وسلي اللاهوتية من بعده أثبتت استخدامه لهذه المنهجية. وقد كان الفيلسوف وعالم الدراسات الوسلية ألبرت أوتلر (۱۹۰۸ – ۱۹۸۹) هو أول مَن صاغ هذه الرباعية بشكلٍ منهجيٍ، وأثبت اعتماد وسلي على هذه الأضلاع الأربعة في صياغة المنظومة الوسلية. ومن بعد أوتلر، أخذت هذه الرباعية شهرة كبيرة؛ إذ تمَّ إثباتها واستخدامها من قِبل الكثير من الدارسين الوسليين. وصار إجماع الدارسين هو ترجيح أن كل فكرة لاهوتية أنتجها جون وسلي، قد أُنتِجَت من خلال هذا الرباعي. بل وصارت الدعابة في الأوساط الأكاديمية الوسلية تشير إلى أن اتباع هذه الرباعية يُدخِل الباحث والمُفكِر إلى الراحة (REST)، استنادًا إلى مجموع الأحرف الأولى من الأضلاع الأربعة المُشكِلَة للرباعية!

تآخي إعمال العقل والخبرة الروحية في الرباعية الوسلية

بدايةً، فالنظرة السريعة إلى رباعية البناء اللاهوتي الوسلي تُظهِر تجاور الخبرة الروحية (الروحانية) مع إعمال العقل كضلعين يعملا معًا، ومع باقي الأضلاع لإنتاج الأفكار والمفردات والصياغات اللاهوتية. فالنظرة المبدئية للرباعية الوسلية تقف على النقيض تمامًا من أي تناقض مزعوم بين الروحانية وإعمال العقل. وتآخي الخبرة الروحية وإعمال العقل في هذه الرباعية – التي تشغل مكانة مركزية في التقليد الوسلي – يعطي إشارةً خاصةً جدًا في تاريخ الفكر المسيحي؛ إذ يُنظَر إلى التقليد الوسلي – تاريخيًا ولاهوتيًا – كنبعٍ ومصدرٍ لأغلب التقاليد النهضوية (الخمسينية والكاريزماتية) في القرنين التاسع عشر والعشرين، مما يُبرِئ الجذور اللاهوتية لهذه التقاليد النهضوية من الأفكار المُرَوِجَة لتنافر الروحانية مع إعمال العقل.

أما النظرة المتأنية لرباعية البناء اللاهوتي الوسلي، فتُوضِح أنه مع تساوي الأضلاع الأربعة في هويتها كأضلاعٍ، إلا أنها تختلف من حيث ثقلها النوعي ومن حيث ماهيتها كمصدرٍ أمْ مُشِغِلٍ للمعرفة. وللإيضاح أقول: إن ضلع الكتاب المقدس (قاعدة الشكل الرباعي) يُمَثِل الضلع الأثقل نوعيًا والمُوَجِه لكافة الأضلاع، بينما الثلاثة أضلاع الباقية فثِقلِهِم النَوعِي يبدو متساوٍ، كما يتفرَّد ضلع التَفكُر/ إعمال العقل بينهم بكونهِ أداة تشغيلٍ، وليس مصدرًا مثل باقي الأضلاع الثلاثة، مما يعطي إعمال العقل تفردًا مهمًا سأوجز شرحه في السطور التالية.

ففي الرباعية الوسلية، التفكُر أو إعمال العقل ليس مصدرًا أوليًا/ابتدائيًا للمعرفة، لكن التفكُر أو إعمال العقل هو تشغيل/تحليل/طحن مفردات المعرفة للوصول إلى نتائجٍ. أي أن مفردات المعرفة تعمل كمكوناتٍ أوليةٍ يتم تشغيلها من خلال التفكُر للوصول إلى نتائج وملاحظات. فلا إعمال للعقل من دون مفردات/معلومات/ مكونات أولية يُعمِلها العقل – أي يتفكر فيها – سواء ليُنتج فكرة بسيطة أو ليُنتج منظومة أفكار مُعقَدة! فالتفكُر يظهر هنا كأداةٍ، أو كآلةٍ تُشغِل المعلومات ومفردات المعرفة لإنتاج أفكار، والتي قد تَنضُج هي نفسها لتصبح مفردات أولية يتم تشغيلها بإعمال العقل في دورات أخرى من التفكُر. لكن، وسط هذه الحركة التقدمية، يبقى التفكُر/ إعمالُ العقل أداةَ التشغيل لمكونات وعاء الأفكار! 

والآن، السؤال البديهي الذي يطرح نفسهُ هو: من أين يأتي العقل بمفردات المعرفة الابتدائية/ الأفكار التي يشغلها ويتفكر فيها؟ الإجابة في الرباعية الوسلية هي: من خلال الثلاثة أضلاع الأُخَر، كالآتي: (أولاً) الكتاب المقدس؛ وهو مصدر السلطة الأعلى والمهيمن على باقي المفردات/ الذي له الرأي المُوجِه، كما ذكرت قبلاً – (ثانيًا) التقليد/ تاريخ الكنيسة / فكر وحياة آباء الكنيسة؛ والذي ينبغي امتحان أصالته في ضوء باقي المصادر – (ثالثًا) الخبرة الروحية؛ مُتمثِلة في الخبرات الشخصية المعاصرة للمؤمنين والتي تشمل المعطيات المبنية على التمييز وإعمال الحواس الروحية، والمُمتحنَة في ضوء مباديء الكتاب المقدس، بجانب خبرة الكنيسة الجماعية، المعاصرة والتاريخية بتنوعاتها الجغرافية. وهنا يتضح جدًا تآخي التفكُر والخبرة الروحية، ووقوفهما جنبًا إلى جنبٍ في إنضاج الوعاء الفكري والعقائدي للكنيسة. فالخبرة الروحية، مُدمَجَةٌ مع المنظور التاريخي الآبائي تحت توجيه مباديء الكلمة المقدسة وحُكمها، يتم تشغيلهم معًا من خلال إعمال العقل/التفكر للوصول إلى استنتاجات صحيحة يُمكن البناء عليها. وضلع الخبرة الروحية هنا أو الروحانية المستقيمة لا يتنافر مع ضلع التفكُر؛ بل على العكس؛ تعمل الخبرة الروحية الأصيلة هنا كأحد مصادر التمييز والإعلان الروحي التي تمِد العقل بمعطيات لازمة للتفكُر والإنتاج اللاهوتي. أعلم أن إدماج تعبيرات “التمييز” مع “العقل”، و”الإعلان” مع “التفكُر”، يحتاج إلى شرحٍ مُستَفِيض! وهذا ما سنفعله في الجزء القادم من هذا المقال بمشيئة الرب. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في مايو ۲۰۲۰

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

Picture of د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.