المقدمة
القاريء العزيز، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو المقال الخامس من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن أحد الكواكب اللامعة في سماء المصالحة؛ وهو “الأب متى المسكين”. ورأينا كيف أن المسكين بالرغم من كونه راهبًا – تشغِل العبادة الأرثوذكسية والروحانية السرائرية مركز حياته – غير أنه لم يحيا منعزلاً داخل جدران قلايته؛ لم ينعزل عن الخوض في سجالات علم اللاهوت أو التفسير الكتابي، ولا عن فحص كتابات آباء الكنيسة ودراستها، ولا عن تقديم نقد موضوعي لبعض مفردات الواقع المُعاش لأجل فائدة الكنيسة. فبينما انعزل المسكين انعزالاً صارمًا – باستنارة – عن المفردات الدنيوية، استطاع بنعمة الله أن يتواصل تواصلاً منفتحًا – غير مندفعٍ – مع تيارات الفكر اللاهوتي بتنوعاتها وتبايناتها الواسعة. ومُقتديًا بأنطونيوس الكبير أيقونة آباء الصحراء؛ اعتزل المسكين – حبًا في المسيح – لأجل إنضاج ثمرة روحانيته، بينما انفتح – أيضًا حبًا في المسيح – لأجل المشاركة في إنضاج روحانية الكنيسة؛ وبهذا صار المسكين أيقونة معاصرة للروحانية الناضجة القادرة على الصمود بأصالة في ساحة التحاور لاهوتيًا وفكريًا وفلسفيًا.
في هذا الجزء الثاني من المقال، أقدم لك، عزيزي القاريء، نموذجًا معاصرًا آخر من نماذج المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية، وهو “البروفيسور فينسون سينان” (١٩٣٤- ٢٠٢٠)، أستاذ اللاهوت التاريخي والمؤرخ المعروف كأحد مؤسسي تأريخ النهضات الروحية حول العالم. وقد عزمتُ أن يجمع حديثي – عبر هذا المقال بجزءيه – “المسكين” مع “سينان”؛ إذ أظنُ أنَّ متى المسكين، في الشرق، يعطينا نموذجًا للروحانية الأرثوذكسية المنفتحة على عالم الدراسات الأكاديمية والفكر اللاهوتي؛ بينما فينسون سينان، في الغرب، يعطينا نموذجًا للأكاديمية المُتخصصة المغموسة في الروحانية الوسلية والمُشبَعة بالتاريخ النهضوي بأصالةٍ شُهِد لها من أطياف الكنيسة المتنوعة في الغرب عبر عقودٍ من العطاء على المستويين الأكاديمي والكنسي.
التعريف بالبروفيسور فينسون سينان
يُعَد فينسون سينان ضمن الجيل الأول من الخمسينيين حول العالم الذين نالوا درجة الدكتوراة من جامعةٍ حكوميةٍ. ففي النصف الثاني من القرن العشرين ومع انتشار الموجة الثانية من الحركة الخمسينية (التجديد الكاريزماتي) في المذاهب المسيحية المختلفة، صار الاحتياج مُلحًا لإعداد جيل من الباحثين الخمسينيين المؤهلين أكاديميًا لدراسة الحركة داخليًا ورصد تأثيراتها الواسعة، وبالطبع لم يكن هذا الإعداد متاحًا من خلال المؤسسات التعليمية التابعة للحركة والتي اتسمت آنذاك بالبساطةِ أكاديميًا. لذا، صار الطريق الأمثل لإعداد هذه النوعية من الباحثين والأساتذة المؤهلين هو التحاقهم بجامعات حكومية حيث يتم إعدادهم، ومن ثَم يستطيعون تأسيس مجتمعات أكاديمية خمسينية/ كاريزماتية مُتوافقة مع أعلى المعايير الأكاديمية. أدركَ هذا المسار بعضٌ من أبرز قادة الحركة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مثل: أورال روبرتس، الذي استطاع بنعمة الله أن يوفر لسينان منحة للدراسات العليا في جامعة هارفرد، لكن سينان كان بالفعل قد نال منحةً أخرى في جامعة ولاية جورجيا، حيث حصل منها على درجتي الماجستير والدكتوراة في التاريخ في الستينيات، وبهذا أصبح سينان مؤهلاً لِشَغلِ دورهِ كواحدٍ من أهم مؤرخي الحركة في العالم. بعد نواله درجة الدكتوراة بثلاث سنوات، تحديدًا في عام ١٩٧٠، أسس سينان – مع آخرين – مجتمع الدراسات الخمسينية (Society of Pentecostal Studies)؛ إذ تشكل هذا المجتمع – بناءً على رؤية سينان في الأساس – من باحثين مهتمين بالحركة تأريخًا ولاهوتًا، وقد صار هذا المجتمع عبر عقودٍ، وحتى الآن، هو المنتدى الأكبر لدارسي حركات التجديد حول العالم.
قام البروفيسور سينان بالتدريس في عدد من المعاهد والجامعات مثل كلية لاهوت إيمانويل بجورجيا، وكلية لاهوت ساوثويستيرن بأوكلاهوما والتي شغلَ فيها منصب الرئيس مدةَ عامٍ، وكلية اللاهوت بجامعة أورال روبرتس بأوكلاهوما والتي أسس فيها قسم الدكتوراة، وكلية اللاهوت بجامعة ريجينت بفيرجينيا والتي أسس فيها أيضًا قسم الدكتوراة وشغل منصب العميد من عام ١٩٩٤ إلى ٢٠٠٦. قام سينان بتأليف العشرات من الكتب والمقالات الأكاديمية (حوالي مائة)، وتُرجمت كثير من كتاباته إلى لغاتٍ متعددةٍ، وقد أسست كتاباته مدرسةً متميزةً من التأريخ للنهضات، اعتمد عليها آلاف الباحثين حول العالم. وبجانب شهرته الواسعة كمؤرخ وانشغاله الدائم بالوسط الأكاديمي والتدريس، انغمس سينان في الخدمة الروحية؛ فقد أسس سينان أربعة كنائس تابعة لطائفة القداسة الخمسينية بأمريكا (International Pentecostal Holiness Church) وقام برعايتها لسنوات، كما شغل مناصب: السكرتير العام ومساعد المراقب العام لنفس الطائفة لسنوات عديدة. أختير سينان كرئيسٍ للجنة أمريكا الشمالية للخدمات التجديدية وكرئيسٍ للجنة الكرازة العالمية بنيو أورلينز، وفي عام ١٩٧٧، قاد سينان العمل الخمسيني في مؤتمر كانساس سيتي والذي ضم خمسينَ ألفًا من الحضور، وفتح الباب لمؤتمراتٍ أخرى تاليةٍ جمعت عشرات الآلاف من المسيحيين الكاريزماتيك من مذاهب مسيحية مختلفة من أنحاء العالم، مما أعطى لتحركات سينان طابعًا مسكونيًا متميزًا.
سينان: حينما تجتمع الأكاديمية مع الروحانية ويُستعلَن الحضور الإلهي في قاعات الدراسة
اعتمدت منهجية سينان التأريخية – بشكلٍ أساسيٍ – على النظرية المعروفة بالنظرية الجينية؛ وهي نظرية تأريخية يقوم فيها المؤرخ بالتأريخ للنهضات والحركات الروحية من خلال تَتَبُع جذور هذه النهضات في التقاليد الروحية السابقة للنهضةِ موضع البحث، وقد أُطلِق على هذه النظرية تعبير “الجينية” لأنها كأنما تربط السمات اللاهوتية والأفكار والممارسات العملية لنهضةٍ ما (أو حركةٍ روحيةٍ ما) بالجينات الآتية لها من الحركات الروحية السابقة، والتي تأثرت بها هذه النهضة موضع البحث، ووجدت جذورها فيها. من خلال هذه المنهجية التأريخية، دمجت كتابات سينان القراءة التحليلية الأكاديمية لتاريخ النهضات وجذورها، مع الأفكار اللاهوتية لهذه النهضات وممارساتها العملية، في سبيكةٍ ديناميكيةٍ لا يمكن فصل مكوناتها الأكاديمية عن الروحانية! فبينما يقرأ المرء أو يستمع إلى محاضرات التاريخ من سينان، يجد نفسه وجهًا لوجهٍ أمام روح النهضة (أو الحقبة التاريخية) التي يُؤرِخ لها سينان، وذلك من خلال الطرح التحليلي العميق للأفكار اللاهوتية التي قامت عليها هذه النهضة أو الحركة الروحية! على سبيل المثال: متى تكلم سينان عن تاريخ الحركة الوسلية، خرج التاريخ مغموسًا في الأفكار اللاهوتية التي صنعته، فإذا بشوقٍ قلبيٍ مُتفجِرٍ لأجل حياة القداسة والكمال المسيحي يملأ قاعة الدراسة! والشوق القلبي – متى كان صادقًا – يجتذب الروح القدس لتتميمه، فإذا بالروح القدس متحركًا في قاعات الدراسة لإتمام جوهر العملية التعليمية – أي لتشكيل النفوس تشكيلاً عميقًا، فهذا هو المقصد النهائي لكل تعليمٍ حقيقيٍ: أن نتغير! وإذا بالتاريخ يصير واقعًا! وعوضًا عن العرض التاريخي لحركات الروح القدس ونهضاته؛ يبدأ الروح القدس نفسهُ في زرع بذار جديدة للنهضة بداخل المتعلمين – بذارًا تحمل فهمًا عميقًا للأفكار اللاهوتية التي قامت عليها النهضات وتحتضن بداخلها قوة الحياة لأجل التفعيل!
جمع سينان في شخصيته – كأستاذ وكخادم فاعل في الكنيسة – كلاً من الأكاديمية مع الروحانية، فكان كآلةٍ في يد الرب لصنع أكاديميين مشتعلين بالروح القدس، أو رجال نهضة مجهزين أكاديميًا! وهنا، ليسمح لي القاريء العزيز أن أختم هذا المقال بسرد أجزاء من خبرةٍ شخصية مع البروفيسور سينان؛ إذ تشرفت بدراسة عدة كورساتٍ معه أثناء دراستي للحصول على درجة الدكتوراة. كان هذا في بداية دراستي في جامعة ريجينت بفيرجينيا، إذ ذهبت مُتشوقًا لرؤية هذا المؤرخ الشيخ صاحب التاريخ الحافل للمرةِ الأولى، ودخلت قاعة الدراسة فإذا بي أمام شيخٍ – في الثمانينات من عمره – مُفعمٌ بالشباب! يرتدي ملابس “كاجوال” ويمسك بجيتارٍ في يدهِ ليبدأ المحاضرة بالتسبيح. وتفيض مسحة الروح القدس وسط قاعة الدراسة، بينما يصدح سينان بصوته المُتهدج ويقودنا في ترانيم النهضة! ويستمر الحضور الإلهي مُهيمنًا مع شرح سينان لنظريات التأريخ في سياق أكاديمي أصيل!! لا يمكنني أن أنسى فرحة البروفيسور سينان وهو يخبرنا بأنه قد وجد معلومات عن أحد رجال النهضة التي طال بحثه عنها لثلاثين عامًا، ضاربًا مثالاً يُحتذى به لما ينبغي أن يكون عليه الباحث الأكاديمي المُحنَك الذي لا يفشل ولا يفتعل النتائج، لكن يبحث عنها لعقود حتى يجدها بمعونة الروح القدس! كان بحث سينان الأكاديمي مُمتزجًا ببحثه عن قصة الحضور الإلهي في النهضات والحركات الروحية، فخرج إنتاجه التأريخي أبعدَ ما يكون عن السرد؛ ليقود القاريء والمستمع المنفتح لعمل روح الله إلى عمق الواقع النهضوي الذي يسمع عنه. في الحقيقة، وبشهادة الكثيرين في الوسط الأكاديمي، لم يكن ما يقدمه سينان هو مجرد محاضرات أكاديمية، لكنه كان مقابلات مُفعمَة بالحياة مع الأحداث والشخصيات التاريخية، التي سرعان ما يكتشف القاريء أو المُستمع لسينان أنه قد تقابل مع أحد أبطالها، في مقابلته مع البروفيسور فينسون سينان في قاعة الدراسة! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في سبتمبر ۲۰۲۰