المقدمة
القاريء العزيز، أشرت في المقالين السابقين من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – وفي سياق حديثنا عن بعض المفردات اللاهوتية التي تُشكِل جوهر التقليد الوسلي، إلى تعبيرٍ مهمٍ في اللاهوت الوسلي، وهو تعبير “النعمة البادئة/ السابقة”. وقد أوضحت أني سأكرس مساحةً مخصصةً من سلسلة المقالات هذه للحديث بالتفصيل عن هذا التعبير؛ لما له من مركزيةٍ في المنظومةِ اللاهوتيةِ الوسليةِ، وأيضًا لما له من أهميةٍ قصوى في تعديل بعض المسارات اللاهوتية التي ظهرت في تاريخ الفكر المسيحي – تحديدًا عبر تاريخ حركة الإصلاح الغربي في القرن السادس عشر – والتي حادت عن إجماع التقاليد المسيحية الكلاسيكية نتيجة عدم فهم المبدأ اللاهوتي الذي يشير له هذا التعبير. واستكمالاً للنهج الذي انتهجناه في المقالين السابقين، من عرضٍ وتحليلٍ للسجالات الفكرية التي شكّلت خلفية صياغة بعض مفردات اللاهوت الوسلي، سيشتمل أيضًا هذا المقال على عرضٍ موجزٍ عن خلفية السجالات التي أثرَّت على بعض التقاليد المًصلحة/البروتستانتية الأخرى – ما قبل وسلي – والتي لها علاقة مباشرة بمبدأ “النعمة البادئة/السابقة”، وما ارتبط بهذه السجالات من افتراضات لاهوتية غير صحيحة تمت صياغتها من خلال استنتاجات لا تتفق مع عموم التقاليد الروحية عبر تاريخ الكنيسة.
وقبل الخوض في موضوعنا، يَجدُر بنا أن نلتفت إلى ملحوظةٍ مهمةٍ، ستساعد القاريء في الربط بين محتوى هذا المقال وسياق الأدبيات اللاهوتية الأوسع، وهي أن تعبير “النعمة السابقة/ المتقدمة – Prevenient Grace / Preceding Grace” هو التعبير الكلاسيكي المُستخدَم تقريبًا في جميع المراجع الوسلية – والأرمينية – الابتدائية والثانوية، بينما التعبير الموازي”النعمة البادئة” – والذي أستخدمهُ في هذا المقال وفي جميع كتاباتي – هو تعبيرٌ قمتُ بصكه في اللغة العربية لوصف نفس/ذات المبدأ اللاهوتي الذي يُعبَر عنه “بالنعمة السابقة” في اللغة الإنجليزية، لكني فضلتُ – وأُفضِل دائمًا – استخدام التعبير الموازِ “النعمة البادئة” في اللغة العربية؛ لأني أرى أنه نافع لتوصيل المبدأ اللاهوتي – ما وراء التعبير – بصورةٍ أدق وأقرب للقاريء العربي من الترجمة المباشرة للتعبير في اللغة الإنجليزية. أيضًا يُستَخدَم – في بعض المراجع الإنجليزية – تعبير “النعمة المُمَكِنة / Enabling Grace” كمرادف يُعبِر عن نفس المفهوم اللاهوتي، وأُفضِل استخدام هذا التعبير أيضًا في بعض الأحيان؛ لأنه يقدم إيضاحًا لأحد الجوانب المهمة للمبدأ اللاهوتي موضوع نقاشنا.
خلفية السجال اللاهوتي:
كانت واحدة من أهم معارك حركة الإصلاح في الغرب في القرن السادس عشر، تتمثل في دحض الادعاءات التي تَنسِب لرجال الدين ومَن هم في موضع سلطة كنسية أي امتياز يُمَّكِنَهم من التدخُل الجبري في أمر غفران الخطايا، ومن ثمَّ أي تحديدات تخص خلاص الإنسان من خلال منح صكوك أو خطابات غفران أو إعفاءات من الإكليروس. وقد وجد بعض قادة الإصلاح الغربي – مثل جون كالفن (١٥٠٩ – ١٥٦٤) – في عقيدة التعيين المسبق المزدوج (Double Predestination) حلاً نهائيًا لتلك الادعاءات، وتأكيدًا مُطلقًا على أن الخلاص مُؤسَس على سيادة الله وليس على الأعمال الصالحة أو تفضيلات رجال الدين! استندت عقيدة التعيين المسبق عند كالفن على أن الله اختار البعض للخلاص واختار البعض الآخر للهلاك بحسب فرمانات/أحكام إلهية (God’s Decrees) وضعها الله بحكمته الفائقة ولا يمكن للإنسان فهم منطقها! وعلى الرغم من أن هذه الصياغة كانت منافية لإجماع التقاليد المسيحية الكلاسيكية التي سبقت كالفن (فيما عدا بعضًا من تعاليم أغسطينوس)، غير أنها – هذه الصياغة – وفرت لكالفن تفنيدًا نهائيًا لأي ادعاء بتدخل رجال الدين في أمر خلاص الإنسان. فبحسب هذه الصياغة، الخلاص والهلاك تمّ تحديدهما حصرًا بواسطة فرمانات إلهية مُسبقة ومُؤمنةٌ بسيادة الله المُطلقَة، ومهما فعل الإنسان لن يغير فعله من هذه الفرمانات، وبالتالي لا يمكن أن تستقيم أي ادعاءات بتدخل الإكليروس في خلاص الإنسان.
بجانب هذا، وفرت أيضًا هذه الصياغة لكالفن إجابة كافية لجدل لاهوتي كان قائمًا في دوائر الإصلاح آنذاك حول إمكانية استخدام إرادة الإنسان الحرة لقبول الخلاص أو رفضه، ومدى اتساق هذا جنبًا إلى جنبٍ مع الإقرار بعقيدة الفساد الكلي للإنسان (Total Depravity). كانت المُعضلة اللاهوتية تتلخص في السؤال: كيف يمكن للإنسان الفاسد كُليًا أن يستخدم إرادته المُشتَمَلَة في فساده الكلي (أي الفاسدة كُليًا تِباعًا) لرفض أو قبول الخلاص؟ وقد وفرت عقيدةُ الاختيار المسبق بحسب الفرمانات الإلهية حلاً لهذه المعضلة؛ إذ أنها همشت دور حرية إرادة الإنسان. فبحسب هذه العقيدة، الإرادة فاسدة كليًا، ولا يمكن الاعتماد عليها. لذا، يُوجِه الله نعمته بطريقة فعالة فقط للمختارين للخلاص وهي نعمة – في صورتها الفعالة – لا تسمح للإنسان برفضها ولا يمكن مقاومتها، بينما – بحسب هذه العقيدة – يُوجه الله نعمته بصورة غير فعالة لمَن لم يختارهم للخلاص، وبالتالي يرفضونها ولا يخلصون! وبإيجازٍ، كانت صياغة الاختيار أو التعيين المسبق المبني على الأحكام الإلهية، هي إجابة بعض المشتغلين باللاهوت في عصر الإصلاح الغربي على السجال اللاهوتي حول الفساد الكلي وصلاحية الإرادة الإنسانية. فبحسب هذا الفكر، الإنسان فاسد فسادًا كليًا، وبالتالي إرادته غير مُمكنة، وفاقدة للصلاحية، والأحكام الإلهية هي الفاعل الرئيس، مما يُمثِل أحد أشكال القدرية التي يُرى الإنسان فيها مُسيرًا ولا يدَّ له في مصيرهِ المُقرر مُسبقًا! وبالطبع، فإن هذه الصياغة لم تكن يومًا مفردًا أصيلاً من مفردات الفكر المسيحي عبر تاريخه.
كورنهيرت وأرمينيوس، وتفنيد صياغات كالفن وبيزا
بدأ تفنيد صياغات الاختيار والتعيين المُسبق المزدوج يبلغ أشده عام ١٥٨٩، عندما أثار اللاهوتي والمُفكِر الهولندي “ديرك كورنهيرت” (١٥٢٢ – ١٥٩٠) عاصفةً من النقد ضد كتابات “ثيودور بيزا” (١٥١٩ – ١٦٠٥) التي عبَّرت عن الصياغات الكلفينية وبالغت فيها. وقد تم اختيار “يعقوب أرمينيوس” (١٥٦٠ – ١٦٠٩) – الذي درس الكلفينية على يد بيزا نفسه في جامعة جينيفا – للرد على حجج كورنهيرت ضد الاختيار والتعيين المسبق. وأعدَّ أرمينيوس عدَّته للرد على كورنهيرت ردًا منهجيًا من خلال دراسة مستفيضة لأسفار الكتاب المقدس – وخاصةً رسالة رومية – بجانب فحص غير موجز لكتابات آباء الكنيسة. وكانت نتيجة الدراسة والفحص، أن خرج أرمينيوس من رحلة بحثه للرد على كورنهيرت مُقتنعًا تمامًا بصحة آراء كورنهيرت اللاهوتية، مُفنِدًا لآراء كالفن وبيزا، ومؤكدًا أنه لم يجد أي أساس لصياغات الاختيار والتعيين المسبق الكلفينية عند آباء الكنيسة المعتبرين، وحتى بالنسبة لأوغسطينوس، فقد أصرَّ كورنهيرت، أن أوغسطينوس دافع عن المسئولية الأخلاقية حتى بعد سجاله مع بيلاجيوس في بداية القرن الخامس الميلادي. وهكذا، كانت بداية ظهور منظومة الفكر الأرميني.
جون وسلي وتوثيق الأرمينية
رفض وسلي رفضًا قاطعًا فكرة اختيار الله لبعض الأشخاص للخلاص والبعض الآخر للهلاك بمقتضى فرمانات وأحكام إلهية لا علاقة لها بحرية الإنسان ومسئوليته في الاختيار. وعلى الرغم من أن وسلي كان مُقتنعًا تمامًا بالفساد الكلي للإنسان، لكنه – مُتفقًا مع كورنهيرت وأرمينيوس – لم ير في الاختيار الكلفيني/البيزاوي حلاً للسجال حول الاتساق بين فكرة الفساد الكلي وصلاحية حرية الإرادة الإنسانية. بل على العكس، رأى وسلي في الصياغات الكلفينية إهانة لله، إذ كيف يستقيم إعلان الله عن محبته لكل العالم ومشيئته في خلاص الجميع المُعلنة في الكتاب المقدس مع فرماناته المُسبقة بالحكم بهلاك البعض! كيف يعلن جلاله – حاشا لله – عكس ما يُبطِن؟! كيف يقدم الخلاص للجميع عبر أسفار الكتاب المقدس وهو بالفعل قد حكم بهلاك البعض؟! يرى وسلي أن هذا يُشكك ويَطعن في نزاهة الله وأمانته، ويجعله – وحاشا لله – لا يقدم نموذجًا لإله يمكننا الوثوق فيه.
وبالنسبة لوسلي – مثله مثل أرمينيوس – لا يوجد أي تعارض بين الاعتقاد بالفساد الكلي للإنسان والاعتقاد بمسئولية الإنسان في الاختيار بإرادته الحرة. إذ يختفي التعارض تمامًا من خلال الاعتقاد بمبدأ النعمة البادئة – الذي غاب عن كالفن وتلميذه بيزا – والتي شرحها وسلي على أنها نعمة الله التي تتحرك للإنسان الخاطيء من بدء تكوينه لترد له رغم فساده – وبطريقةٍ معجزيةٍ كيانيةٍ فائقة للطبيعة في العهد الجديد– بعضًا من مَلكَاتهِ بشكلٍ جزئيٍ (خاصةً في دائرة الإرادة)، فتُمكِّن الإنسان من الاختيار سواء بالقبول أو الرفض من خلال هذا الاسترداد الجزئي/العربوني للإرادة الحرة، كما لو أن ترس الإرادة استرد بعضًا من صلاحيته بقوة النعمة البادئة ليتمكن من اتخاذ القرار بحرية. وهكذا تتجلى نعمة الله التي تبدأ دائمًا، وأمانته تجاه الإنسان الذي خلقه، وأيضًا مسئولية الإنسان في الاختيار رغم فساد طبيعته.
وأكتفي هنا بهذا التعريف الموجز للنعمة البادئة، على أن أقدم عنها في علاقتها بجوانب لاهوتية أخرى، كالخطية الأصلية وتعريف الفساد الكلي والأساس المعجزي للإيمان المسيحي، شرحًا مستفيضًا – بحسب التقليد الوسلي – في العدد القادم بنعمة الرب. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!
دكتور ثروت ماهر
دكتوراة في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
وأستاذ الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في ديسمبر ۲۰۲۰
1 فكرة عن “التقليد الوسلي (٣) – الجزء الأول – النعمة البادئة: ما بين الفساد الكلي وصلاحية الإرادة”
الرب يبارك حياتك وخدمتك يا دكتور