Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (٤) – الجزء الثالث – استمرارية مواهب الروح القدس المعجزية

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال – وهو التاسع من سلسلة مصالحة علم اللاهوت والروحانية – عن الأساس المعجزي لحياة الإيمان المسيحي، بحسب التقليد الوسلي، من خلال فهم البُعد فوق الطبيعي في تعاملات “النعمة البادئة”، بوصفها بداية رحلة الإيمان المسيحي. كما تقدمنا، في الجزء الثاني، لتَتبُع استمرارية هذا البُعد المعجزي في الحياة المسيحية، وذلك من خلال الحديث عن مبدأ “قابلية النعمة للإدراك”، أو ما يمكن تسميته “بالمدركية الواعية/الحسية للنعمة” (Perceptibility of Grace)، وعلاقة هذا المبدأ بالحضور الإلهي المُعلن (Manifested Presence of God)، وانفتاح حواس المؤمن الروحية.

في الجزء الثالث من هذا المقال، نتحدث عن مواهب الروح القدس فوق الطبيعية كإحدى مفردات رحلة الإيمان المسيحي التي يتجلى فيها البُعد المعجزي لهذه الرحلة، بحسب التقليد الوسلي. وأبدأ حديثي معك، قارئي العزيز، بعرضٍ لملامح الحقبة التي عاش وسلي خلالها، فيما يخص الاعتقاد حول مواهب الروح القدس المعجزية، ثم نستعرض كيفية تعامُل وسلي مع الأفكار التي انتشرت في عصره، وأختم هذ المقال بإيضاح أهم ملامح استمرارية مواهب الروح القدس فوق الطبيعية في التقليد الوسلي.

نظرية انتهاء مواهب الروح القدس المعجزية: السياق التاريخي

انتشرت نظرية انتهاء المواهب في الغرب في الحقبة الزمنية التي عاش خلالها جون وسلي (القرن الثامن عشر) وما قبلها، بدءًا من الإصلاح الغربي في القرن السادس عشر. وهذه النظرية – انتهاء المواهب (Cessationism) – هي وجهة نظر ترى أن مواهب الروح القدس فوق الطبيعية – المذكورة في مواضع كثيرة في العهد الجديد، أبرزها الإصحاح الثاني عشر من رسالة كورنثوس – قد اختفت وتوقفت ممارستها مع انتهاء عصر الرسل. ترجع جذور هذه النظرية بشكلٍ رئيس إلى أغسطينوس أسقف هيبو (٣٥٤ – ٤٣٠م)، ومعه ذهبي الفم (٣٤٧ – ٤٠٧م) الذي تبنى أيضًا وجهة النظر هذه، كما تأثر بهما – بعد قرون عديدة – رواد حركة الإصلاح في الغرب. وتتلخص وجهة نظر أغسطينوس، في أن مواهب الروح الفائقة للطبيعة كانت مُعطاة كشهادة وتأكيد للإيمان المسيحي في بداية عصر الكنيسة، لكن ما أن انتشرت دعائم الإيمان المسيحي وتوطدت في العالم الوثني، لم يعُد للمواهب الروحية ضرورة. لذا، اختفت من حياة الكنيسة! ومن الواضح أن أغسطينوس كان متأثرًا – في صياغته لوجهة نظره هذه – بالواقع الكنسي في المنطقة الجغرافية التي كان أسقفًا عليها (شمال أفريقيا)، والتي وإن ظهرت الكنيسة فيها كمؤسِسِةٍ قوية في ذلك الوقت، إلا أن اضمحلالها واختفائها بعد قرون، إنما يُدلِل على الضعف الروحي الذي كان يَدُب في أوصالها، من وقت أغسطينوس وعبر القرون التالية حتى اختفائها الكامل من خريطة الإيمان المسيحي. ولأجل فهمٍ أوضح لهذه النقطة، يمكن مقارنة ثبات الكنيسة في السياق القبطي مع اضمحلال الكنيسة في السياق الأغسطيني، على الرغم من تشابه الضغوط التي تعرض لها المؤمنون المسيحيون في كلٍ من السياقين عبر القرون.

وتمر السنون، وصولاً إلى القرن السادس عشر، حيث حركة الإصلاح الغربي، والتي يجد بعض قادتها أنفسهم في مواجهات ومعارك متتالية مع الكنيسة الكاثوليكية. إحدى هذه المواجهات – في ذلك الوقت – كانت تتعلق بإصرار الكنيسة الكاثوليكية المستمر – الذي لا يلين – على أنها كنيسة مؤيدة بالمعجزات فوق الطبيعية، هذه المعجزات التي تشهد – تبعًا للكنيسة الكاثوليكية – عن أصالتها ككنيسة وعن أصالة تسلسلها الرسولي. كما انتقدت الكنيسة الكاثوليكية حركة الإصلاح الناشئة آنذاك على عدم ظهور معجزات بها، واعتبرت هذا شهادة على عدم أصالتها. وأمام هذا الهجوم الكاثوليكي، وجد بعض قادة حركة الإصلاح في نظرية انتهاء المواهب – والتي ترجع لأغسطينوس في القرن الخامس – والإصرار على اختفاء المعجزات، سندًا يدعم استنكارهم لما رأوه مزاعم كاثوليكية أسهمت في سيادة الجهل في العصور المظلمة. وهكذا، انتشرت نظرية انتهاء المواهب في الغرب، وامتلأت الكتابات اللاهوتية والتفسيرات الكتابية بما يدعم هذه النظرية. وامتد تأثيرها حتى عصر جون وسلي، الذي عكست كتاباته – فيما قبل تجديده عام ١٧٣٨ – الكثير من مفردات هذه النظرية.

جون وسلي وتفنيد نظرية انتهاء مواهب الروح القدس المعجزية

كانت مواهب الروح القدس المعجزية، من بين الموضوعات اللاهوتية والكتابية التي تغيرت نظرة جون وسلي لها تغييرًا جذريًا بعد عبوره باختبار ألدرزجيت (Alders-gate) – ٢٤ مايو ١٧٣٨ – حيث تجديده ويقينه من كفاية عمل المسيح لخلاصه. فعوضًا عن تأثره في بعض كتاباته، ما قبل ألدرزجيت، بنظرية انتهاء المواهب (Cessationism)، ساد على كتابات وسلي، بعد اختبار ألدرزجيت، دفاعه عن استمرارية مواهب الروح القدس (Continuationism)، وتفنيده لما يُرسَل إليه من خطابات تطعن في استمرارية مواهب الروح. ومن خلال القراءة التحليلية لبعض كتابات وسلي التي يثبت فيها استمرارية مواهب الروح القدس المعجزية، يتضح اعتماده بشكلٍ رئيس في دفاعه عن استمرارية المواهب على نصوص الكتاب المقدس التي تشير لمواهب الروح وتشرحها، وأيضًا تركيزه على إعطاء نماذج واقتباسات من آباء الكنيسة الذين تحدثوا عن استمرارية مواهب الروح القدس ومارسوها فيما بعد العصر الرسولي. فنجد أسماء تلمع في كتابات وسلي مثل: القديس “إيريناوس” أسقف ليون (١٤٠ – ٢٠٢م)، “ترتليان” أبو الفكر اللاهوتي اللاتيني (١٦٠ – ٢٤٠م)، “كبريانوس” أسقف قرطاجنة (٢٠٠ – ٢٥٨م)، “لاكتانتيوس” (٢٥٠ – ٣٢٥م)، وغيرهم، من الذين يمكن اعتبار تأكيداتهم لممارسة مواهب الروح القدس، عبر قرون من بعد انتهاء العصر الرسولي، أبسط وأبلغ برهان على خطأ – وعدم جدوى – نظرية انتهاء مواهب الروح القدس المعجزية. فواحدةٌ من أبلغ البراهين على خطأ نظرية انتهاء المواهب، بالنسبة لوسلي، هي – ببساطةٍ – الشهادات العملية التي تؤكد استمرارية المواهب الفائقة للطبيعة عبر حقب مختلفة من التاريخ. فكيف تستقيم أي نظرية تروج لانتهاء شيء ما، إذا كان هذا الشيء موجودًا وفاعلاً وقائمًا ومستمرًا عبر السنين؟! بل، وتقف خبرة وسلي نفسه والمجتمعات الوسلية (وغيرها من المجتمعات في عصره وما تلاه) كشاهد معاصر – آنذاك – على استمرارية مواهب الروح القدس. لذا، رفض وسلي – بعد تجديده – نظرية انتهاء المواهب، ورأى أن ندرة مواهب الروح القدس المعجزية في بعض الأماكن الجغرافية والحقب الزمنية خلال تاريخ الكنيسة، إنما يرجع غالبًا إلى أن محبة الرب صارت “كالشمع البارد”، وأنه متى وأينما استعادت الكنيسة الاشتعال بالروح القدس، ستستعيد بالتأكيد المواهب الفائقة للطبيعة، بحسب جون وسلي.

جون وسلي وممارسة مواهب الروح القدس الفائقة للطبيعة

يلخص البروفيسور روبرت تاتيل، اللاهوتي الوسلي وأستاذ الدراسات الوسلية المعاصر بكلية لاهوت أسبوري، علاقة جون وسلي بمواهب الروح القدس في أربع كلمات؛ إذ يقول: أن وسلي عرّف مواهب الروح القدس المعجزية، ووصفها، واختبرها، ودافع عنها! والحقيقةُ فإن تاتيل أوجز فأبلَغ! فوسلي بالفعل عرّف المواهب والإظهارات المعجزية التي دافع عن استمراريتها، ومن بينها: إخراج الشياطين، والتكلم بألسنة وترجمتها، والشفاء، والنبوة بما تشمله من إخبارٍ عن المستقبل، وتمييز الأرواح، والرؤى، والأحلام الإلهية، وغيرها. وهنا، ينبغي الإشارة إلى أن وسلي في موقفه هذا المؤيد لاستمرارية مواهب الروح القدس، لم يعط أهمية خاصة لموهبةٍ ما أكثر من موهبةٍ أخرى، كما ظهر في تقاليد روحية لاحقة. هذا، وبجانب ما قدمه وسلي في كتاباته من حُجج كثيرة لإثبات استمرارية مواهب الروح المعجزية واستمرارية احتياج الكنيسة لهذه المواهب لتتميم إرساليتها العظمى، اكتظت أيضًا مذكراته الشخصية بوقائع كثيرة تجلت فيها مواهب وإظهارات الروح القدس؛ من شفاء، وإخراج شياطين، واختبارات خاصة للحضور الإلهي صاحبها اختبارات دهش. مما يُظهِر بصورةٍ واضحةٍ أن موقف جون وسلي من مواهب الروح القدس المعجزية، لم يكن فقط موقفًا ذهنيًا رافضًا لنظريةٍ ما، ومنحازًا لنظريةٍ أخرى، إنما كان موقفًا اختباريًا يستند على فهم كتابي وتاريخي ولاهوتي.

وبالإضافة للدفاع عن استمرارية المواهب المعجزية، جنبًا إلى جنبٍ مع الممارسة الاختبارية لهذه المواهب في حياة وسلي ووسط دوائر النهضة الوسلية، ينبغي الإشارة إلى أن وسلي رأى علاقة وطيدة بين ممارسة مواهب الروح والبناء التنظيمي والخدمي الديناميكي للكنيسة. لذا، احتلت العلاقة بين ممارسة مواهب الروح القدس المنضبطة، والفكر اللاهوتي الكنسي (Ecclesiastical Thought)، فيما يتعلق ببناء الكنيسة (جسد المسيح)، والتلمذة، والوظائف الكنسية، مكانة عظيمة في التقليد الوسلي، مما يعطي مثالاً متكاملاً لمصالحة علم اللاهوت والروحانية؛ وهو ما سوف يتم عرضه بالتفصيل عندما نتحدث، في مقالات تالية، عن الكنيسة والفكر الكنسي في التقليد الوسلي. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في أبريل ۲۰۲١

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.