Heaven Upon Earth Logo

التقليد الوسلي (٦) – كونوا كاملين: المصالحة بين العقائد اللاهوتية وحياة الإيمان

مشاركة المقال:

المقدمة

عزيزي القاريء، ناقشنا في مقالات سابقة من هذه السلسلة – مصالحة علم اللاهوت والروحانية – مفردات لاهوتية متنوعة من التقليد الوسلي؛ وقد رأينا من خلال هذه المفردات بعض ملامح لمنظومة لاهوتية تظهر فيها المصالحة بين علم اللاهوت والروحانية من دون التباس. وعبر أجزاءٍ متعددةٍ من هذه السلسلة – أعطيتُها عنوان “التقليد الوسلي” – صار واضحًا، من خلال مثالٍ عمليٍ لتقليدٍ لاهوتي موجود وفاعل في مجتمع أناس الله، كيف أن علم اللاهوت والروحانية، في وضعهما الصحيح، يمثلان خيطان متلازمان ومجدولان في نسيج واحد، لا يتنافرا، بل على العكس يتداخلان، ويتكاملان، ويصنعان معًا ثوبًا بهيًا، يكاد الفصل بين خيوطه أن يكون مستحيلاً، ومَن يلبسه يزداد اتضاعًا وحكمة.

في هذا المقال – الحادي عشر من هذه السلسلة – أستكمل معك، عزيزي القاريء، رحلتنا لاستكشاف مفردات التقليد الوسلي التي تقف شاهدةً عن عمق التداخل بين علم اللاهوت والروحانية، وذلك من خلال دراسة ملف متميز من ملفات التقليد الوسلي، وهو ملف “الكمال المسيحي”، والذي يُعَد مفردًا رئيسًا في اللاهوت الوسلي، ومُحدِدًا صنع فارقًا محوريًا بين التقليد الوسلي وما سبقه من تقاليد لاهوتية أخرى في الغرب. من خلال قراءتنا في هذا الملف، سيتضح للقاريء العزيز كيف شكل تعليم “الكمال المسيحي” نقطة ربط جوهرية أعادت التناغم بين العقيدة وحياة الإيمان، وردت للتقوانية المسيحية اتساقها الداخلي وتميزها الأصيل.

اتساق التقوانية: خلفية تاريخية

من خلال ما تناولناه في المقالات المُبكرة من هذه السلسلة، رأينا كيف أن لاهوت الآباء في القرون الأولى من المسيحية لم يعرف أبدًا الفصل بين علم اللاهوت والروحانية، أو بين العقائد والأفكار اللاهوتية من جانب، وحياة الإيمان والسلوك من جانب آخر. هذان هما الجانبان اللذان يُشكِلان معًا ما يُعرف بالتقوانية (Piety)، واتساق جوهر تقوانية أي جماعة، أو تقليد لاهوتي، يعتمد على تكامل وتناغم جانبي هذه التقوانية: العقيدة والممارسة. وهذا ما يُرى في التقاليد الآبائية في القرون الأولى؛ حيث يجد الدارس اتساقًا ديناميكيًا لا يعرف هوادة في تقوانيات هذه التقاليد المبكرة، إذ – على سبيل المثال لا الحصر – لم يُعطَ لقب “الآباء” إلا لهؤلاء الذين انجمعت فيهم سلامة العقيدة اللاهوتية مع نقاء الحياة واستقامة السيرة. ومُنع هذا اللقب – عن قصد – عن أولئك الذين لوحظ عندهم انحرافًا في أحد هذين الجانبين، وقد اكتفت الكنيسة بإعطاء بعضًا من أولئك (مثل أوريجانوس ١٨٥ – ٢٥٤م.) لقب “علّامة” عوضًا عن لقب “أب”.

ولكن، عبر حقبٍ مختلفةٍ من تاريخ الفكر المسيحي، بدأ الفصل بين العقيدة وحياة الإيمان العملية يأخذ مكانًا في تقاليدٍ مسيحيةٍ متعددة ظهرت تقوانياتها بقوامٍ غير متسقٍ. ويرى بعض دارسي تاريخ الفكر المسيحي أن بعض العقائد التي تمت صياغتها بواسطة بعض قادة حركة الإصلاح (Reformation) في الغرب في القرن السادس عشر – كعقيدة “الفرامانات الإلهية في الاختيار”، والتركيز الحصري على “البُعد القانوني”/Forensic Aspect في فهم الخلاص، والتي سبق أن ناقشناها في مقالات سابقة – قد لعبت دورًا محوريًا في الفصل بين العقيدة وحياة الإيمان العملي. صحيح أن هذا الفصل بلغ قمته، بعد ذلك، بالتوازي مع ظهور مباديء عصر التنوير (Enlightenment)، في القرنين السابع والثامن عشر، بتركيزه على تفوق الفلسفة العقلانية (Rationalism)، إلا أنه لا يمكن تجاهل أن بعض عقائد حركة الإصلاح كانت قد أصلَّت لهذا الفصل مُسبقًا. فيمكن النظر إلى عقيدة الفرامانات الإلهية، جنبًا إلى جنبٍ مع التركيز على البُعد القانوني للخلاص بشكلٍ مُستقل عن البعد التحققي الكياني، على أنهما قد قاما بإفراغ رسالة الخلاص من جوهرها التحققي. فالخلاص تم تلخيصه حصريًا في قرارٍ إلهي وبراءة قانونية تُعطَى للمُوَّجَه إليه هذا القرار، بينما وُضِع التغيير الكياني في مقامٍ متأخرٍ يكاد يُرى كتابع للبراءة، وليس كمؤشر مبدئي على أصالة سريان مفاعيل الخلاص بالإيمان في الإنسان. وهكذا، تم التأصيل – ولو من دون قصد – للفصل بين العقيدة والروحانية. فتقوانية العقيدة هنا – في منظومات الفصل – تكمن في الاقتناع العقلي بسلامة العقيدة ذاتها، من دون الالتفات إلى حتمية وجود إثبات وترجمة كيانية لهذه العقيدة. أي أن جوهر العقيدة وتصديقها صارا هما جانبي تقوانيتها، عوضًا عن جوهر العقيدة وطبيعة الحياة الناتجة عنها اللذان يشكلان جوهر أي تقوانية. وقد تجلى عدم الاتساق هذا في خلط القوانين المدنية مع الأحكام الكنسية في بعض مقاطعات الإصلاح، ومحاولة تطبيقها بالقوة، وتداخل مفردات الإصلاح الديني مع النزاعات السياسية، والتي قادت إلى حروبٍ أودت بحياة البعض من قادة حركة الإصلاح أنفسهم في بعض السياقات، التي كان مارتن لوثر بريئًا منها، ولم يكن أبدًا من أبطالها.

الكمال المسيحي: استعادة جوهر التقوانية

وسط هذا المناخ من عدم اتساق بعض التقوانيات الغربية، أعاد وسلي إكتشاف تعليم “الكمال المسيحي” من خلال قراءته للنصوص الكتابية بعدسة تفسير آباء الشرق (خاصة مقاريوس الكبير). إذ تثبت دراسة الأدبيات التي أنتجها أو جمعها وسلي رجوعه لكتابات متعددة لآباء الكنيسة كأحد مصادر صياغته للتعليم الوسلي. وقد رأى جون وسلي أن تعليم الكمال المسيحي هو الوديعة المميزة التي استأمن الله عليها الوسليين لإذاعتها والمناداة بها.

ويبدأ وسلي صياغته لتعليم الكمال المسيحي من التنبير بشدة على أن احتياج الإنسان ليس فقط للتبرير أو حكم البراءة (Justification)، إنما أيضًا للشفاء واسترداد الصورة الأولى (Restoration of the first image). فنعمة الله، في اللاهوت الوسلي، لا تحمل فقط الغفران، إنما تحمل قوة تغيير الطبيعة الإنسانية الساقطة، لتبررها ليس بكيفية قانونية فقط، إنما بكيفية جوهرية كاملة، ليصير الإنسان بارًا “في المسيح” برًا محسوبًا/منسوبًا (Imputed Righteousness)، وبارًا “بالمسيح” برًا مُطعمًا/ممنوحًا (Imparted/Infused Righteousness). فبينما أكمل المسيح – له المجد – العمل على الصليب، وأتمه كله (تبرير وشفاء) بشكل موضوعي، ينقل الروح القدس مفاعيل ما أتمه المسيح ليتحقق جوهريًا في حياة الإنسان بالإيمان بالمسيح. يتحقق التبرير بشكل ذاتي في الإنسان في الوقت الذي يقبل فيه الإنسان عمل المسيح لأجله على الصليب ويولد الميلاد الثاني بالروح القدس. هذه البداية، بحسب وسلي، لابد أن تقود إلى تغيير ثانٍ ذاتي، يسميه وسلي “الراحة الثانية” أو “العطية الثانية” التي هي الكمال المسيحي، أو التقديس الداخلي، أو استرداد صورة الله، حيث يتحقق الشفاء (الذي أتمه المسيح على الصليب) بشكل كياني وجوهري في حياة الإنسان، ويدخل الإنسان إلى ملء حياة البر والقداسة والتحرر من الضعف، ويحيا المؤمن حياة النصرة الدائمة على الخطية وعلى العالم وعلى إبليس وجنوده، ويختبر مواهب الروح والآيات الفائقة للطبيعة، وتمتليء حياته بالاتضاع وبالمجد الإلهي، وتتحقق فيه وصية الرب: “فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ” (مت ٥: ٤٨)، ووعد الكتاب القائل: “وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (١تس ٥: ٢٣).

وواضح للقاريء الفطن أن هذا التعليم لا يمكن أبدًا أن يستقيم معه الفصل بين العقيدة والحياة. فالعقيدة هنا ليست غيبية، لكنها تصيغ وترسم واقع الحياة العملي، الذي يُظهِر بدوره إصالة هذه العقيدة أو قد يكون شاهدًا على هشاشتها! فتعليم الكمال المسيحي، بحسب التقليد الوسلي، يحرر تقوانيات الإصلاح الغربي من كبول الانحصار في تركيبات عقائدية يقتصر إثباتها على سجالات نصية عقلانية، كما يحررها من كون الممارسات المرتبطة بها تبلغ أقصى قممها التقوية في اقتناعها ودفاعها وتمسكها بعقائدها! فالتقوانية، في التقليد الوسلي، صارت تقوانية متجسدة، والعقيدة صارت انتظارًا يغلف حياة المؤمن حتى يتحقق في حياته. وإذ يتحقق الانتظار في واقع الحياة، تُبرهَن العقيدة، كما حدث في حياة الكثير من رجال ونساء الله الذين عاشوا واختبروا الكمال المسيحي؛ فغيروا سياقات بلادهم من دون أي دمجٍ بين التقوانية ومعتركات السلطة العالمية.

وختامًا، ينبغي إيضاح أن الكمال المسيحي في التقليد الوسلي لا يعني العصمة من الخطية، ولكن يعني أن القلب قد تحرر من قوة الخطية، وصار لا يبتغيها – حتى مع إحتمالية السهوات لسبب أو لآخر ليس له علاقة بالقلب – فالقلب قد صارت إرادته موحدة لمحبة الله والقريب. والكمال المسيحي ليس كمال مُطلق، فالكمال المُطلق هو لله وحده. ولكن الكمال المسيحي هو كمال نسبي، فالطفل الكامل النمو، هو كامل النمو كطفل، وهذا لا يعني أن نموه سيقف عند هذه المرحلة، ولكنه سيظل ينمو ليصير شابًا يافعًا كاملاً، ورجلاً ناضجًا كاملاً، وهكذا. فالكمال عند وسلي يبدأ باختبار تقديسي محدد، ويظل ينمو إلى الأبد. دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

دكتور ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت التجديدي وتاريخ الكنيسة (PhD)– جامعة ريجينت – فيرجينيا
العميد الأكاديمي لكلية لاهوت الإيمان بمصر،
ومدرس الدراسات الوسلية والخمسينية بكليات اللاهوت المصرية
نُشِر في جريدة الطريق والحق في سبتمبر ۲۰۲١

مقالات أخرى

تابعنا:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عن المؤلف

د. ثروت ماهر
د. ثروت ماهر
الدكتور ثروت ماهر هو رجل نهضات وخادم متفرغ للوعظ والتعليم والكتابة والبحث اللاهوتي. حصل على بكالوريوس الهندسة الميكانيكية من جامعة الزقازيق، ثم بكالوريوس الدراسات اللاهوتية بامتياز من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة، ثم درجة ماجستير اللاهوت بامتياز من الكلية نفسها. وبعد ستة سنوات من الدراسة بجامعة ريجينت بفرجينيا، حصل الأخ ثروت على درجة الدكتوراة بامتياز في اللاهوت والتاريخ (PhD) من جامعة ريجينت في مارس ۲۰۱۹. كما يخدم د. ثروت ماهر في منصب العميد الأكاديمي بكلية لاهوت الإيمان الوسلية بميدان فيكتوريا منذ عام ٢٠١٩، وهو عضو بلجنة اعتماد كليات اللاهوت الدولية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد أسس دكتور ثروت ماهر، وزوجته جاكلين عادل، في سبتمبر عام ٢٠١٦، خدمة السماء على الأرض وهي خدمة تعليمية تعبدية لها اجتماع أسبوعي بكنيسة المثال المسيحي بشبرا.