مقابلة وسط البرية...
صحراء سيناء الواسعة المترامية الأطراف… العام حوالي ١٣٠٠ قبل الميلاد… آلاف وآلاف من الخيام الرمادية المتراصة جنبًا إلى جنب وسط الصحراء.. الخيام تلقي بظلالها على بعضها البعض. بعضها خيام كبيرة وبعضها صغيرة، كل خيمةٍ حسب عدد أفراد العائلة التي تسكنها. تختلط أصوات ساكني الخيام مع أصوات الحيوانات والمواشي الكثيرة المنتشرة حول الخيام وفيما بينها!!.. أصوات رجال ونساء.. أصوات شيوخ وأطفال.. لهو صبية وصبايا.. كلمات عبرية مختلطة ببعض كلمات من المصرية القديمة!! ما هذا المشهد الفريد، الذي يقتحم قلب صحراء سيناء، ويحول صمت الرمال الصفراء إلى صخب وضوضاء لم يعتادها هذا القفر العظيم المخوف؟!!
قارئي العزيز… إن هذا المشهد الفريد، ما هو إلا مشهد شعب الله القديم، بني إسرائيل، بعد خروجهم من أرض مصر. إذ أخرجهم الرب من العبودية بذراع رفيعة مُحَمَلين بأملاك جزيلة ومواشي كثيرة، ولم يكن في أسباطهم عاثر، إذ شفى الرب هُزالهم وأمراضهم. وها هم الآن عابرين في برية سيناء المترامية الأطراف في طريقهم إلى الأرض التي وعدهم بها الله القدير..
وسط ضوضاء الخيام والصخب، يخرج من أحد الخيام شيخٌ يمشي بخطوات واسعة قوية.. رغم خطواته القوية السريعة ونضارة وجهه، إلا أن شعره الأبيض ولحيته الكتانية الكثيفة، ونظرات عينيه العميقة، تُظهر أنه في الثمانينات من عمره..
تتعلق العيون بهذا الشيخ أثناء سيره بين الخيام، بينما لا يلتفت هو لما يحدث حوله، فقد ركز نظره صوْب خيمةٍ بعيدةٍ تقف وحيدة ومنعزلة عن باقي الخيام، يسير نحوها بخطوات متسارعة.. مشتاقة.. وثابتة!!
يخفت صوت الضجبج تدريجيًا.. وبمرور الدقائق تختفي الأصوات العالية، ولهو الصبية يتوارى، وتهدأ حتى أصوات الحيوانات… ولا يستطيع المرء أن يسمع سوى بعض الهمسات.. فالخيام تتهامس فيما بينها.. إنّ موسى ذاهب للقاء ربه في الخيمة التي نصبها موسى لنفسه خارج المحلة!!.. إنه ذاهب ليلتقي بالله، يهوه الإله العظيم!!
يواصل موسى رجل الله سيره صوب الخيمة التي تقف وحيدة خارج محلة الشعب.. يصل موسى إلى الخيمة، ويمد يده ليرفع ستر الخيمة.. يسرع يشوع بن نون لمساعدة موسى.. وما أن يدخل موسى إلى الخيمة، حتى يغلق يشوع بن نون ستر الخيمة خلف موسى، ويقف بالخارج صامتًا!!
وهنا عزيزي القاريء، يحدث شيئًا عجيبًا.. يزيد المشهد تفردًا… إنها سحابة من السماء.. سحابة تتجه نحو الأرض في هدوء وثبات!! العيون تراقب السحابة التي تستمر في انخفاضها واقترابها، متجهةً نحو خيمة موسى!! تقترب السحابة جدًا حتى تستقر أمام باب خيمة موسى.. وهنا يسجد كل واحد من أفراد الشعب في باب خيمته، فالجميع يعلم أنّ موسى الآن واقف أمام الله، يهوه، الإله العظيم الذي أخرجهم من أرض مصر بعجائب، الإله الذي شق البحر الأحمر أمامهم بذراع شديدة.. موسى الآن بالداخل، عمود السحاب مستقر عند باب الخيمة، ليعلن أن المقابلة الإلهية قد بدأت.. مقابلة إلهية جديدة.. الله يتقابل مع موسى!!
وجهًا لوجه... كما يكلم الرجل صاحبه!!
يصف لنا سفر الخروج مقابلات عديدة مثل هذه المقابلة (خر٣٣׃٧– ١١)… مقابلات إلهية، يتقابل فيها الرب مع موسى معلنًا عن قلبه أنه يريد أن يتقابل مع كل شخص فينا بقوة غير عادية!! أراد الرب أن يتقابل مع الشعب، وأراد أن يسكن في وسط الشعب!! وحتى خيمة الاجتماع ما كانت سوى إعلان عن قلب الرب المشتاق إلى مقابلة شعبه..
في البداية، خلق الرب آدم ليتمتع بالشركة معه.. كانا يتكلمان، يسيران معًا… كم كانت أوقات ممتعة جدًا ومنعشة جدًا، تلك الأوقات التي كان آدم يقضيها متحدثًا مع الرب… يأكل من شجرة الحياة.. كانا صديقين.. الإله العظيم.. الخالق.. يدخل في صداقة حميمة مع خليقته.. يا لمجد غنى النعمة!!.. أظن أن الرب وهو يسأل آدم، بعد السقوط، آدم أين أنت؟ (تك٣׃ ٩)، ما كان فقط يسأل آدم ليجعله يتواجه مع سقوطه، لكن الرب كان أيضًا يعبر عن مشاعره تجاه آدم.. كان الرب يعبر بسؤاله عن حزنه لفقد آدم.. عن حزنه لفقد صديق عزيز محبوب!!… لكن يا لقوة نعمة الرب.. الرب لن يترك آدم… فلذاته مع بني آدم (أم ٨׃ ٣١).. سيبدأ الرب رحلة لاسترداد الصداقة الغالية المفقودة!! ومقابلات الرب مع موسى كانت جزء من هذه الرحلة!!.. لذا كان الرب يكلم موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه (خر٣٣׃ ١١)…
أخنوخ.. نوح.. إبراهيم.. موسى.. شخصيات مضيئة تعلن محطات على طريق الاسترداد، طريق استرداد المقابلات الإلهية…
صديقي، أنا وأنت… مدعوين لمثل هذه العلاقة.. علاقة الصداقة الحميمة مع الرب… ومدعوين لمثل هذه المقابلات.. مقابلات الصداقة الدافئة الممتلئة باستعلان الحضور الإلهي.. يريد الرب أن يكشف لنا عن أسراره!! فأنا وأنت أصدقاؤه أحباؤه… اسمع الرب وهو يقول لنا “قد سميتكم أحباء” (يو١٥׃١٥).. الكلمة في الأصل اليوناني تعطي معنى حبيب، وصديق، وخليل… هلليويا.. لي أن أهتف بأعلى صوتي.. يريدني الرب صديقه.. شريكه.. حبيبه الذي يعلن له عن مشيئته وعن أسراره!!… يدعوني، ويدعوك لمقابلات متكررة ودائمة معه.. فهو صديق يريد أن يقضي أمسياته مع صديقه!! يريد أن يقابلك، عزيزي، مقابلات مثل هذه!!.. يريد أن يمشي معك، كما مشى مع أخنوخ.. يريد أن يكلمك وجهًا لوجه، كما تكلم مع موسى… نعم قارئي العزيز.. هل تعطي له الفرصة ليجلس معك؟؟ ليمشي معك؟ هل تعطي له الفرصة ليصنع حولك مجالاً من حضوره المُعلَن.. الحضور الذي يغير الأجواء.. الحضور الشافي المُنعش للنفوس.. الحضور الذي يأتي بكثافة، مغيرًا لون ورائحة الأجواء والهواء من حولك!!… فتشعر بأجنحة حضوره ترف حولك.. وأذيال حضوره تلمس وجهك.. ومياهه المنعشة تأتي بالحيوية إلى روحك ونفسك وجسدك!!
نعم أيها الرب.. أنت تريد أن تقترب مني جدًا.. هذه هي مشيئتك..
أشكرك لأجل الحب العجيب!! الحب الذي يشعل قلبك تجاهي..
الحب الذي لا تقف أمامه عوائق أو سدود..
سيدي، أصلي أن تجذبني بحبك…
أريد أن أحيا حياة القرب الشديد منك.. أريد أن أحيا صديقًا لك.. صديقًا للروح.. يحملني الروح حيث يشاء!! يا سيدي، اغسلني بدمك، المسني بروحك..
كي تجد فيّ مكان راحتك.. اقترب مني جدًا..
فأنا مشتاق لك ومشتاق لمقابلاتك العجيبة.. تنعشني.. تشاركني ما في قلبك.. أرى أحلامك.. أصليها وأنطقها بقوة روحك، فتصير واقعًا..
أحبك يا رب يا قوتي.. أنت لي كل شيء في الحياة…
في المقابلات الإلهية: استعلان مخافة الرب..
“فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفًا عند باب الخيمة. ويقوم كل الشعب ويسجدون كل واحد في باب خيمته.” (خر٣٣׃ ١٠)… مشهد ممتليء بالمهابة!! الشعب يسجد كل واحد عند خيمته… خوف الرب أتى على الجميع.. وليس هذا بغريب فحيث المقابلات الإلهية تأتي مخافة الرب.. موسى واقف أمام الرب، والمقابلة الإلهية تَستَعلِن مجالاً حقيقيًا من الحضور الإلهي. وهذا المجال من استعلان حضور الرب يجعل القلوب تُبكت، وتبحث عن الله، وتسجد في أحيان كثيرة!!.. يشهد تاريخ النهضات في العالم، أنه في مرات كثيرة كانت الجموع تُبكَت بدون كلمات، فقط من استعلان الحضور الإلهي.. حدث هذا كثيرًا مع رجال الله أمثال جون وسلي وتشارلز فني!!.. ويحدث هذا اليوم.. وسيظل يحدث، لأن إلهنا حيّ!!.. يريد الله مراكز يُشع منها حضوره، وأنا وأنت يمكن أن نكون هذه المراكز، بمقابلاتنا معه!! .. يتقابل الله معنا، يفيض فينا.. يشرق بنوره علينا.. يغير أجواءنا.. وتصير أماكن مقابلاتنا، أماكن ممتلكة لحضوره!!.. تصير بيوتنا أماكن ذات أجواء مختلفة!! يُشفى كثيرين ويتحرر كثيرين، بمجرد زياراتهم لبيوتنا، لأنها أماكن مقابلات إلهية.. تنفتح عيون كثيرة، وتستنشق نفوس كثيرة رائحة الحياة!! هيا.. هيا صديقي.. هيا لنقابله فنزرع جنات، تتقابل فيها النفوس مع إله الحب.. وتغطي مخافة الرب وجه الأرض!!
في المقابلات الإلهية: امكانيات فائقة للطبيعة..
“ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه.” (خر٣٣׃ ١١)..
كلا، ليست هذه هي إمكانيات موسى الطبيعية.. ليست إمكانياته الطبيعية هي التي أتاحت له أن يسمع الله ويتكلم معه بهذه الصورة!! إنما هي النعمة!! النعمة الموجودة بكثافة في الحضور الإلهي المُستعلن في المقابلات الإلهية.. عزيزي القاريء، إذا كنت تقول في نفسك وأنت تقرأ هذه الكلمات أنك لست مؤهلاً لمثل هذه المقابلات.. فأنت، على سبيل المثال، مؤمن جديد مع الرب.. أو اختبرت الرب منذ وقت قصير، وليس لك خبرة كافية في الحياة مع الرب!! صديقي.. افرح وتهلل، فالمقابلات الإلهية تحمل لك نعمة خاصة تضيف إلى امكانياتك الطبيعية، إمكانيات فوق طبيعية، تجعلك تتواصل مع الرب بوضوح، وهذا هو ميراثك كإبن للرب.. الحضور الإلهي يفتح الآذان لاستقبال كلمات الرب.. الحضور الإلهي يفتح العيون لاستقبال نور الرب… نعم عزيزي!! لا تخشى أن تقترب وتتقابل معه.. لا تخشى أن تُقرب أذنك، وتقول السيد الرب فتح لي أذنًا وأنا لم أعاند.. عزيزي سيقابلك وما أن يشرق عليك حتى تجد نفسك وقد اكتسبت امكانيات فوق طبيعية.. فوق معتادة!! فإلهك هو إله ما فوق الطبيعي.. هو إله المعجزات.. ومقابلته معك تحمل لك الكثير من المعجزات…
في المقابلات الإلهية: جيل يخلق للرب..
“وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة.” (خر٣٣׃ ١١)..
ما أن يخرج موسى من الخيمة، حتى يجري يشوع، ويدخل الخيمة، ليستنشق نسمات الحضور الإلهي!! ما أحكم يشوع بن نون!! كان يحب الحضور الإلهي!! وبالتأكيد كان يتقابل مع الرب مقابلات حية، مقابلات جعلته مختلفًا في وسط جيله، وصنعت منه قائدًا يقود الشعب بعد موسى!! نعم عزيزي القاريء.. المقابلات الإلهية وحضور الرب هو الذي صنع من يشوع قائدًا، ومفتاح لجيل جديد يؤمن ويدخل إلى أرض الموعد… والآن عزيزي القاريء… هل تؤمن معي أن مقابلاتك مع الرب تجعل المسحة تنساب إلى أجيال أخر؟! قد تقول لي ولكني لست صاحب كلام أو واعظًا لتنساب مني مسحة إلى أجيال أخر!! أقول لك هذه الكلمات ليست للخدام والوعاظ فقط… لكنها كلمات لكل مؤمن يحب الرب.. الله يريد أنّ الآباء والأمهات يتقابلوا معه مقابلات مميزة، فتنساب المسحة منهم لأبنائهم، ويخلق جيل جديد للرب.. الله يريد أن أفراد العائلة الواحدة، كلٌ يتقابل مع الرب مقابلات مميزة، وتنساب المسحة من كل أخ لأخيه ولأخته، ومن كل أخت لأخيها ولأختها، ويخلق جيل جديد للرب.. الله يريد أن مدرس مدارس الأحد يتقابل معه مقابلات مميزة جدًا، فيعد جيل ممسوح للرب.. نعم عزيزي.. الله يريد ويشتاق!! الله يريد أصدقاء كأخنوخ وإبراهيم وموسى و… و… وأنا وأنت!!! يريد أصدقاء يضع فيهم قلبه، فيأتمنهم على قوته…
آه أيها الرب.. أريد أن أقترب جدًا منك.. أريد أن أعرفك.. أريد أن أفهم طرقك..
أريد أن أقابلك في كل يوم.. لا، بل أريد أن يومي كله يكون مقابلة معك..
يكون في حضورك.. كم أحب حضورك!! حضورك كفايتي..
معك لا أريد شيئًا.. فأنت كفايتي..
لتقابلني إيها الرب.. أيها الروح.. أيها الصديق..
لتقابلني في خلوتي.. لتقابلني في بيتي.. في عملي.. في الشارع.. في خدمتي..
لتقابلني مقابلات الحب.. مقابلات الحكمة والفهم.. مقابلات الاستخدام والثمر..
لتقابلني فأنت لي الكل في الكل.. أنت لي الحياة…