إن كلمةَ “كفافنا” التي جاءت في “الصلاة الربانية” هي كلمةٌ حيَّرت العلماء في معرفة مصدرها ومعناها. ويرجع هذا إلى سببين؛ الأول: أنها لم تُرِد في كل الكتاب المقدس إلا في (مت 6: 11) و (لو 11: 3). والسبب الثاني: أنها لم تظهر في أي كتابات يونانية خارج الكتاب المقدس. للدرجة التي جعلت “أوريجانوس” يظن أن البشيرين “متى ولوقا” هما من نحتاها؛ حيث قال: “هذا اللفظ ليس من الكلمات الشائعة عند اليونانيين، بل ولم يرد في كتابات الفلاسفة ولا يستخدم في اللغة الدارجة بين الناس، ويبدو أن هذه الكلمة قد اضطر الإنجيليون إلى صياغتها خصيصًا للتعبير عن المعنى الذي يقصدونه.” [1]
وكان هذا بالفعل هو الثابت عند العلماء، إلى أن اكتُشفت برديةٌ صغيرةٌ في الإسكندرية تحل لنا لغز هذه الكلمة. ويخبرنا “وليم باركلي” عن هذا الأمر بالتفصيل قائلاً: “منذ عهدٍ قريبٍ وُجدِت على إحدى أوراق البردي قائمةٌ بطلباتٍ من السوق أرادت امرأةٌ في القديم أن تشتريها، ووُجدت على هذه القائمة هذه الكلمة (epiousios) “كفافنا”. لقد كانت هذه القائمة عبارةً عن مذكرةٍ للمرأة بما تحتاج إليه من الطعام لليوم التالي.”[2]
وعلى نحوٍ آخر، يذكر “متى المسكين” برديةً أخرى وجَدَها العالِم “يواقيم إرميا” عندما قام ببحثٍ مستفيضٍ عن هذه الكلمة[3]. وربما تكون هي نفسُ البرديةِ. وبالتتبعِ، يظهر لنا أولُ معنى من معانٍ هذه الكلمة وهو: “الذي للغد”. هذا ويُخبرنا كتاب “الخلفيات للعهد الجديد” ببقية معانٍ هذه الكلمة، فيقول: “…الكلمة اليونانية تتضمن أربعة معانٍ: اليومي، الأساسي، الذي نحتاجه، الذي للغد.”[4]
والجدير بالذكر هنا، أن كلمة (الأساسي) معناها أيضًا (الجوهري)، وتُنطق باليونانية “إبيؤوسيون”[5]، ولا يمكن تجاهل معنى واحد من هذه المعانٍ؛ هذا ببساطة لأن الأصل اليوناني يحتمل الأربعة معانٍ. ومنذ عصور الكنيسة الأولى، تم تطبيق المعنى الروحي والمادي في تفسير هذه الكلمة[6]. وعليه لا يمكن الاستغناء عن أيِّ معنى من هذه المعانِ، وهذا يجعل تفسيرها التطبيقي على حياتنا اليومية له غايةٌ في الأهميةِ والفائدة.
وهذه المعاني ظاهرةٌ جدًا بمراجعة القرينة الكتابية كما سنرى. فمعناها روحيٌ؛ لأنه كما يقول أوريجانوس: “كيف يوصينا الرب أن نطلب من أجل الخيرات السمائية العظمى، ثم يُعلّمنا في هذه الصلاة أن نلتمس من الآب أن يُعطينا الأمور الصغيرة الأرضية؟ وكأنه بذلك نسى ما سبق أن عَلَّمنا إياه..”[7]. ومعنى “كفافنا” أيضًا ماديٌ حرفيٌ؛ لأن له ما يؤكده أيضًا من الكلمة المقدسة، فكثيرًا جدًا جاء الخبز بمعنى الخبز المادي الطبيعي، بل أن هذا هو المعنى المباشر والأوضح للكلمة.
ومن خلال كل ما قُدّم أعلاه، نستطيع أن نخرج بدروسٍ مهمةٍ جدًا لنمو حياتنا مع الرب؛ فالمعنى روحي ومادي وقد فُسّرَ من خلال آباء الكنيسة بأن المقصود بــ “خبزنا كفافنا” هو: المسيح نفسه، والإفخارستيا، وكلمة الله، والخبز المادي الطبيعي (القوت اليومي). وأيضًا فُسرَ من بعض الدراسين بالمعنى الروحي، ومن البعض الآخر بالمعنى المادي ومنهم مَن فعل مثل الآباء ودمج المعنيين معًا. ويختم الباحث هذه الورقة البحثية بإلقاء نظرةٍ سريعةٍ على كلِّ معنى من هذه المعانِ:
المعنى الأول: الإفخارستيا.[8] (مائدة الرب)، فالخبز هو مادةٌ من مادتي هذه الفريضة العظيمة. وأيضًا كان المؤمنون يتقدمون للإفخارستيا كل يوم، ويُصلّون: “أعطنا كلَّ يومٍ” بحسب ما قيل بإنجيل لوقا. [9] ومن هنا جاء هذا الربط. وعليه، فنحن نطلب كلَّ يومٍ هذا الخبز الغالي والثمين؛ جسد الرب الذي بذله عنا لكي يكون لنا حياة ونَثبُت فيه ويَثبُت هو فينا (يو 6: 53ـ 56).
المعنى الثاني: كلمة الله. فإننا نجد كثيرًا في الكتاب المقدس تشبيه الكلمة بالخبز (إر 15: 6)، (عب 5: 14)، بل أننا نقرأ عنها: أن حلاوتها تفوق العسل وقطر الشهاد (مز 19: 10)، (مز 119: 103). وما أجمل أن نطلب الغذاء الذي لنا من كلمة الله كل يومٍ! فهي الخبز الذي يجعلنا أصحَّاء روحيًا ونفسيًا (عب 4: 12) وحتى جسديًا (أم 4: 22)، ليتنا نتعلم حقًا أن نُردّد هذه الطِلبة كل يومٍ: “خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم”.
المعنى الثالث: الخبز الحرفي (القوت المادي اليومي). وهذا يُعلمنا أن الرب يهتم باحتياجاتنا المادية، ولم ينسَ تعليمنا في الصلاة أن نطلبها، مما له من فوائدٍ كثيرةٍ؛ حيث أن الطلب في حد ذاتهِ هو عرفانٌ للرب وشكرٌ على ما أعطاه ويُعطيه لنا كلَّ يومٍ، وهو أيضًا إعلانُ الاحتياج إليه في تسديد كل الاحتياجات المادية وليست الروحية فقط. والجدير بالذكر أيضًا، أن هذه الطِلبة تُعلّمنا أمرين مهمين آخرين؛ الأمر الأول: أن نطلب “كفافنا” أي الذي يكفي لحاجتنا فقط، ونثق أنه في كلِّ يومٍ لنا عند الرب قُوتُنا الجديد. والأمر الثاني: “الاتحاد”. فالآية تقول: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”. يشرح هذا “توفيق جيد” قائلاً: “إنه لا يتكلم هنا في صيغة المفرد وهو لا يُعلمنا أن يقوم الإنسان منا ويقول: خبزي كفافي أعطني اليوم، لكنه يُعلمنا أن نتكلم بصيغة الجمع؛ لأن هناك اتحاد بين الإخوة الذين لهم آب واحد: “أبانا الذي في السماوات”. لا أطلب لوحدي، لكني أطلب لأجلي ولأجل إخوتي الذين أنا متحد بهم. هذا الاتحاد يتطلب أمرين؛ أولاً: هو التفكير في الغير، وثانيًا: هو فعل الخير”.[10]
المعنى الرابع: الرب يسوع نفسه. فقد قال يسوع – بفمهِ الطاهر عن نفسهِ -: أنه هو “خبز الحياة” (يو 6: 35). والباحث ترك هذا المعنى للنهاية، ليس فقط لأنه هو أهم معنى للكلمة فحسب، بل لأنه يشمل كل المعاني الأخرى للكلمةِ. وعن هذا المعنى يتحدث ثروت ماهر في عظة بعنوان “حضور إلهي يُغير خريطة الحياة” موضحًا أن “خبزنا الأبدي” الذي هو “الرب يسوع” أعطنا اليوم: أي ليُعلن “الكلمة”، أو بمفهوم آخر ليظهر الرب بحضوره المُعلن لنا وفينا كل يوم. فالروح القدس يختار في هذا الموضع الكلمة اليونانية التي تشير إلى “الخبز الطبيعي” كأحد معانيها؛ وإلى “الخبز الجوهري” – الرب يسوع المسيح – كمعنًا آخر أصيل للكلمة، لكي يقول لك وأنت تُصلي في الصلاة الربانية وتقول: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”، أنت تعلم جيدًا أنه في يسوع المسيح – الخبز الأبدي – كل ما تحتاجه مشتملاً الخبز الطبيعي، فكل ما تحتاجه مُشتمل في طلبك للخبز الأبدي. فالشفاء من المرض مشتمل في طلبك للابن (الكلمة)، وحل المشكلة الذي تبحث عنه أيضًا مشتمل في أنك تأكل من الخبز النازل من فوق أي “يسوع المسيح”، حضور الرب الكلمة فيه كل شيء.[11]
وهذا هو المعنى الأشمل للكلمة حقيقةً؛ لأن الإفخارستيا هي جسده ودمه، والكلمة المقدسة هي كلمته، والخبز المادي هو مانحه.
المراجع
[1] أوريجانوس، الصلاة، ترجمة موسى وهبة (القاهرة: كنيسة مار مرقس القبطية الأرثوذكسية بشبرا، 1975)، 82.
[2] وليم باركلي، تفسير العهد الجديد متى ومرقس المجلد الأول، ترجمة فايز فارس (القاهرة: دار الثقافة، 1993)، 130.
[3] متى المسكين، الإنجيل بحسب القديس لوقا دراسة وتفسير وشرح (القاهرة: دار مجلة مرقس، 2015)، 476.
[4] دار الكتاب المقدس، العهد الجديد بالخلفيات التوضيحية (القاهرة: مصر الجديدة، هليوبولس، 2006)، 7.
[5] لعبت هذه الكلمة دورًا كبيرًا في المناقشات التي دارت في القرن الرابع الميلادي خصوصًا بين ق. أثناسيوس وآريوس حول طبيعة المسيح، واستقر رأي المجمع المُقدَّس في نيقية سنة 325م. على استخدام كلمة Homo ousion المساوٍ في الجوهر.
[6] جاء أول ذكر للصلاة الربانية في كتابات الآباء في الديداخي، أي تعليم الرسل (الديداخي 8)، وهي أقدمُ وثيقةٍ آبائيةٍ معروفةٍ لدينا حتى الآن، وكتبت بين100ـ 150م. ثم جاء تلميح عنها في رسالة بوليكاربوس إلى فيلبي المكتوبة حوالي عام 156م. (فيلبي6: 2؛ 7: 2)، ولكن أول من كتب عنها باستفاضة كان العلاَّمة “ترتليان” حوالي 198ـ 200م حيث كتب كتاب “عن الصلاة” مكون من 29 فصل، وخصص أول تسعة فصول منه للحديث عن الصلاة الربانية ووصفها بأنها: “خُلاصة الإنجيل” (أي أنك إذا كنت تُريد أن تعرف خلاصة إنجيل المسيح اقرأ هذه الصلاة). وقد ترجمه مع نصوصٍ أخرى إلى العربية راهب من دير أنبا أنطونيوس تحت عنوان: “نصوص مختارة من كتابات العلامة ترتليان”. ومِن بعدهِ كتب عنها كذلك أورجانوس، وكبريانوس، وأمبروسيوس، ثم أغسطينوس ويوحنا ذهبي الفم وكيرلس الكبير، لكن بالرغم من أن ترتليان هو أول من كتب عنها باستفاضة، إلا أنه يظل كتاب أوريجانوس هو الأهم بين كتابات الآباء عن الصلاة الربانية؛ نظرًا لأنه أول من كتب عنها بأسلوب علمي متقن، كما شهد بهذا كواستن ـ وهو أحد أهم علماء الآباء على مستوى العالم ـ حيث قال: “..يُعد هذا العمل أقدم نقاش علمي عن الصلاة المسيحية في الوجود”: جوهانس كواستن، علم الآبائيات “باترولوجي” المجلد الثاني، ترجمة جرجس كامل يوسف (القاهرة: مركز باناريون للتراث الآبائي، 2017)، 68.
وقد أُطلق على هذه الصلاة أسماء كثيرة عبر تاريخ الكنيسة منها: “صلاة التلاميذ” حيث أستلمها التلاميذ من الرب يسوع، وهم بدورهم سلموها للكنائس المختلفة، وظللت بهذا الاسم لمدة ثلاث قرون، “الصلاة البنوية” لأننا نتقدم بها كأبنا لله الآب، “صلاة الآبانا” وعُرفت بهذا الاسم أكثر عند الكنيسة الكاثوليكية، “صلاة الشركة” لأنها تجمعنا وتُوحدنا معًا وكلها تحوي ضمير الجمع (نا)، “صلاة الإخوة” فنحن إخوة ونُصليها لله الآب أبانا.
[7] أوريجانوس، مرجع سابق، 79.
[8] الإفخارستيا: كلمة يونانية معناها “الشكر” أو “الاحساس بالشكر”، وهي ممارسةٌ يمارسُها كل المسيحيين بمختلف طوائفهم حول العالم، فهي عقيدةٌ تُعبر عن الاحساس بالشكر والعرفان لعمل الرب يسوع المسيح على الصليب، حيث قَدّم جسده للموت وسُفك دمه، وهي بحسب البعض تُسمى “سر”، وبحسب البعض الآخر تُسمى فريضةً مع فريضةٍ أخرى وهي “معمودية الماء”؛ ويرجع هذا لأنهما جاءتا في الكتاب على لسان الرب يسوع ـ له المجد ـ بصيغة الأمر “اصنعوا” (لو 22: 19)، “عمدوهم” (مت 28: 19).
[9] تعبير “كل يوم” خاص بالبشير لوقا؛ لأنه ينظر إلى الحياة المسيحية في ديمومتها كما في (لو 9: 23). وهذه النظرة أقرب إلى الواقع اليوناني منها إلى الواقع الفلسطيني (راجع مت 6: 34). (الترجمة اليسوعية الجديدة للعهد الجديد، صفحة 231).
[10] توفيق جيد، الصلاة الربانية (القاهرة: دار الثقافة، 1968)، 91.
[11] ثروت ماهر، حضور إلهي يغير خريطة الحياة/ عظات غنى مجد الميراث/ العظة 12/ د. ثروت ماهر/ خدمة السماء على الأرض ـ مصر”، Tharwat Maher، يوتيوب، منشور بتاريخ 2 أبريل 2022، متاح على: /https://www.youtube.com/link تم الإطلاع عليه بتاريخ 25 يونيو 2022.
فكرتين عن“كَفَافَنَا”
شكراً أخ مينا عادل للمقالة الغنية وشكراً لدكتور ثروت القائد الروحي لهذه العائلة
شكرا الرب يبارك العمل